مالك بن جلول… فص ” سٌكّر” وذاب!


في مارس 2011 تلقى المنتج البريطاني سيمون تشِن بريدا الكترونيا من شخص لا يعرفه يبدأ بما يلي:

“لدي قصة رائعة، سأمر على لندن في طريق عودتي إلى استوكهولم، فهل لديك وقت لمقابلتي؟”.

لا نعرف بالضبط كيف صاغ المرسل باقي التفاصيل، ولكن اللقاء تم، وبعد عام بالضبط أصبحت تلك “القصة الرائعة” فيلما في دور العرض، وبعد عام آخر كانت أكف الحاضرين تصفق بحرارة في حفل الأوسكارعندما أعلن النجم بن آفلِك فوز الفيلم السويدي/ البريطاني “البحث عن رجل السكر” Searching for the Sugarman بجائزة أفضل فيلم وثائقي، والشاشات العملاقة تنقل تفاصيل تلك الدقائق الذهبية، فشاهد الملايين سيمون تشِن المعتد بنفسه يبتسم بثقة للعدسات وبجانبه شاب وسيم ونحيل بأنف منحوت وعينان بنيتان يضحك بخجل وبسعادة في آن. إنه المخرج السويدي من أصل جزائري مالك بن جلول، صاحب “القصة الرائعة” ومقتنصها ومانحها الحياة، الذي ولأسباب عصية على التصديق قرر إنهاء حياته في 13 مايو من العام الحالي نتيجة إصابته باكتئاب حاد حسب ما أورده شقيقه الأكبر المذيع جوهر بن جلول والذي علم بانتحار أخيه عن طريق رسالة لم يكشف عن مصدرها.

ولد مالك بن جلول في السويد لأب جزائري وأم سويدية في سبتمبر 1977، وظهر في التسعينيات في المسلسل السويدي الشهير “إبّا ودِبرِك” من إخراج خاله الممثل بيتر خويلت.

درس مالك بن جلول الصحافة ثم عمل في التلفزيون السويدي العام في برنامج “كوبرى” وبعدها في شركة الإنتاج ” باراكودا” المستقلة، كما اشتغل على عدة مشاريع صغيرة منها أفلام وثائقية عن بعض أيقونات الموسيقى مثل إلتون جونز ويورك ورود ستيوات، ولكن يبدو أن سير المشاهير الجاهزة والمعروفة كانت شيئا عادياً في النهاية، لذلك قرر مالك بن جلول البحث عن قصص طازجة وغير مطروقة، فانتقل على نفقته الشحيحة بين 16 بلدا لمدة ستة أشهر بحثا عن قصة تستحق عرضها سينمائيا، حتى التقى في جنوب أفريقيا كلا من ستيفن سِغرمان وكريغ بَرَثٌلُماوس سترَيدُم، اللذَين قصا عليه ماهو أغرب من أي شيء، عندما سافرا في التسعينيات من كيب تاون إلى ديترويت الأمريكية  بحثا عن رجل يُدعى سيزتو رودريغز،  النجم الذي لم يكن يعرف أنه كذلك.

كان رودريغز مطربا “سبعيناتي” في أمريكا، ظهر في زمن تألق فرق موسيقية مثل” آبا” و” البي جيز” و”بوني إم” وغيرهم من عتاولة الموسيقى في العالم، أصدر رودريغز ألبومين هما: “حقيقة باردة” و”قدوم من الواقع” اصطدما بفتور واضح من جانب الجماهير، ثم تبعهما بجولة متوسطة النجاح إلى أستراليا، مما دفع بالمطرب ذي الأصول اللاتينية إلى فهم الدرس مُبكرا وبالتالي الانعزال التام والعمل في مجال البناء ونسيان الأضواء وعوالمها تماماً، ولكن رودريغز لم يكن يعرف أنه كان النجم الماسي في جنوب أفريقيا، وأنه كان أكثر شهرة هناك من آلفيس بريسلي، وأن أغانيه كانت تصدح بلا توقف في ليالي كيب تاون وصباحاتها، حيث وافقت أغانيه روح البلاد وظروفها السياسية والاقتصادية الخانقة والمتوترة آنذاك، وغدت الدعامة الفنية للناشطين ولمعارضي الجدار العنصري ومنهم الناشط الجنوب أفريقي الشهير ستيف بيكو (1946 – 1977) الذي كان معجباً كبيرا بـ”رودريغز” الذي ظل النجم الأول دون منازع حتى انقطعت ألبوماته تماماً، ولكن الجماهير المحبة والحالمة أسبغوا على هذا الرحيل الغامض نكهة ” أسطورية” وآمنوا بأن رودريغز توفي وهو على المسرح، حتى جاءت التسعينات فقرر سيغرمان وسترَيدُم السفر إلى أمريكا لمعرفة كيف توفي نجمهم الألمع، ولكنهم تفاجئوا أنه حي وأنه يعمل في مجال البناء وبالكاد يذكر أنه كان مطرباً في يوم من الأيام.

كان ذلك بالنسبة لمالك بن جلول جميلا ولاهثا وأروع من أن يصدق، وهو المخرج المغرم بالقصص والحكايات والبارع تماماً في التقاطها وتحويرها وإعادة خلقها. تجول بن جلول في شوارع كيب تاون سائلا المارة إن كان واقد سمعوا عن “سيزتو رودريغز ” فكان الأمر شبيها بأن يسأل أحدهم الناس في بيروت إن كانوا قد سمعوا عن مطربة تُدعى فيروز أو في القاهرة عن فريد الأطرش!

مستلهما البناء السردي للفيلم الشهير “المواطن كين” صنع مالك بن جلول إنتاجه الأول حول رودريغز من وجهة نظر سيغرمان و سترَيدُم، مكرسا ذكاءه الفني الفريد في صياغة السيناريو والمونتاج، مما جعل الناقد البريطاني نِك فريرز يقول إنه لولا قدرات مالك بن جلول الإخراجية وتمكنه من أدواته لكان “البحث عن رجل السكر” فيلما مملاً، وهو ما اتفق معه كثيرون حتى أنهم رأوا في مالك بن جلول إنجمار بيرغمانالقادم الذي سيعيد للسينما السويدية وهجها ولو من باب الأفلام الوثائقية.

رودريغز في “البحث عن رجل السكر”

لم يكن غريبا أن يلقى الفيلم كل هذا الاحتفاء، قبل وبعد نجاحه بـ”الأوسكار”، بالإضافة إلى عشرات الترشحيات والجوائر من أرفع المهرجانات السينمائية في العالم، وعشرات المقالات من أكبر الصحف التي رأت في “البحث عن رجل السكر” أحد أهم الأفلام التي أُنتجت في تاريخ الأفلام الوثائقية.

أما رودريغز نفسه فقد عاد العالم ليحنو عليه بعد أن نبذه سابقا، فقد تعاقد مع عدد من متعهدي الحفلات ليقيم عروضا مختلفة في أكبر مسارح الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا حيث بيعت تذاكر حفلاته ( 6 آلاف تذكرة) في دقائق، وبالطبع في جنوب أفريقيا الذي جنى من حفلاته هناك فقط قُرابة الـ 700 ألف دولار، وبدأت المواقع الإلكترونية والصحف تنشر صورة الرجل السبعيني مرتديا ملابسه اللامعة ونظاراته ذات العدسات الداكنة  التي تحمي ما بقي من بصره الذي التهمته “المياه الزرقاء”، وما يثير الكثير من الدهشة أن رودريغز رفض في البداية الظهور في الفيلم الوثائقي وظل بن جلول يزوه كل عام قادما من استكهولم إلى ديترويت ولمدة 3 سنوات لإقناعه بذلك حتى وافق في العام الأخير ولكنه رفض تماما حضور حفل الأوسكار معللا ذلك بأنه لا يريد أن يخطف الأضواء من صنّاع الفيلم، ليس هذا فقط، بل كان نائما وقت بث الأوسكار على شاشات التليفزيون، وحتى إن كان مستيقظا فلن يستطيع مشاهدته لأنه لا يمتلك جهاز تلفزيون أصلا!

بالتأكيد لم تكن الطريق مفروشة بالورود أمام مالك بن جلول، بل ربما لم تكن هناك طريق من الأساس لتُفرش بالورود أو بغيرها. واجه الفيلم مشاكل عدة وعراقيل مالية وتهديدات بالتوقف النهائي، أو الاختصار المخل للمحتوى لضغط المصاريف وعزوف المنتجين عن المجازفة بأموالهم في إنتاج أفلام وثائقية مما اضطر مالك بن جلول بعد ثلاث سنوات من العمل المضني إلى تصوير المشاهد المتبقية بـ “الآيفون” الخاص به مستخدما تطبيقا لا يتجاوز سعره الـ 2 دولار، وقد قدمت قناة ” سي إن إن” الأمريكية تقريرا حول هذه النقطة بعنوان “تطبيق بـ 1.99 دولار يُنقذ فيلم أوسكار”.

كانت قصة مالك بن جلول التالية مأخوذة من كتاب الناشط لورانس آنتوني المعنون بـ” الهامس في آذان الفيل” والذي يحكي عن قصة أنتوني مع قطيع من الفيلة الأفريقية.

إذن مالك بن جلول كان يملك روح فنان حقيقية، لا يكترث بـ ” الجاهز” و”المعلب” و”السريع” حتى لو كان هذا ما سيدر عليه مال قارون، فبعد الأوسكار تلقى عروضا كثيرة من هوليوود رفضها جميعا مفضلا أسلوبه الذي اختاره من البداية واستقلاله في ملاحقة الحكايات، وبجانب موهبته ومهاراته الفنية كان مالك بن جلول بإجماع كل من تعامل معه، لطيفا وذكيا، ومن النوع الذي تقع في هواه بعد أول خمس كلمات تتبادلها معه حسب قول صديقه بوبو إريكسِن. كان مالك بن جلول أيضا وسيما بسمت أوروبي جلي، مظهره ناعم وملامحه – كما عبد الحليم حافظ – تثير إعجاب النساء وحنانهن في ذات الوقت، وبالمناسبة كان بن جلول على علاقة مستقرة بالمخرجة الشقراء “ريتاني هاكَبيي التي كان يعمل معها على مشروعه الثاني المذكور أعلاه.

يتسائل سيمون تشِن في تصريح له – ونحن نتساءل معه – ما الذي دفع بمالك بن جلول إلى الانتحار؟ ما نوع الاكتئاب الحاد لدرجة جعلته يرمي بجسده تحت عجلات قطار محطة سولنا في ساعة الذروة،  تاركاً خلفه الشهرة والنجاح والشقراء والأوسكار والفيلة والمعجبين والأصدقاء ورودريغز؟

لا أحد يملك إجابة عن هذا السؤال، أو يستطيع تقدير ذلك، بل ربما كانت قصة “رجل السكر” هي التي اختارته لا العكس، فجاءت قصة حياته وموته فيلما سينمائيا بلا نقصان، أو كما قال رودريغز ناعيا  بن جلول “لقد كان مخلوقا رائعا وحياته تشبه القصص الخرافية”،  رودريغز “رجل السكر” الذي تخلقه الحياة مرتين، ومالك بن جلول الراحل الجميل، فص “السكر” الذي ذاب!  

* كاتبة من اليمن

Visited 46 times, 1 visit(s) today