“ليالي بوجي” وفلسفة بول توماس أندرسون السينمائية

عند المخرج بول توماس أندرسون الشخصية هي الأساس، يكتبها بكامل تفاصيلها الدقيقة ويعطيها خط سير محدد بدايته ونهايته، لتُنسج من خلالها خيوط القصة كاملةً تعتمد في الأساس على المعلومات المتاحة من قبل أندرسون تنساب على أثرها جل القرارات المتخذة من قبل الشخصية عفويةٍ كانت أو مدروسة.

ولذلك تطل سينماه بأعينٍ تمثيلية في المقام الأول وبنهجٍ مخالفٍ بعض الشئ لطبيعة السينما الحديثة، حيث يقع على عاتق الشخصيات مسؤولية شاقة تتمثل في شحذ الهمم للوصول لأعلى معدلات الإجادة التجسيدية لتفهم دوافعهم على نحوٍ بالغ الإقناع بجانب عدم الهبوط بإيقاع أو نسق الأحداث على نحوٍ يهدر فرص الفيلم في حشد الجماهير لمساهدته بكافة السبل الممكنة.

في فيلمه الجديد “ليالي بوجي”Boggie Nightsيطير بنا بول توماس أندرسون إلي حقبة التسعينات بصيحاتها الكبرى المدوية التي انتشر على إثرها موضة الأفلام التجارية بتكلفةٍ قليلة وسطحيةٍ في المحتوي ووتيرة الفن الكلاسيكي الراقي، خصوصاً تلك التي تروج لمحتوي جنسي صارخٍ على مستوي الشكل والمضمون، يتخذ من المهمشين اجتماعياً موارد بشرية تصلح للقيام بمهمة إثارة غرائز الشباب وإشعال شهوة نزواته في سبيل جني الأموال ونيل نجاحاً لا يملكون أية مؤهلاتٍ لجنيه بفيلم عادي.

وقد وظف أندرسون ذلك العالم الأعرج سلوكياً كخلفية سردية يشرع من خلاله في رمي أوراقه الإبداعية بطلاقة وإرثاء حبكته بأسلوبٍ غير تقليدي لا ينتمي لنوعية رحلات الصعود والهبوط، فقد ينخدع البعض بما قام به “أندرسون” قبيل النهاية، لكنه يضفي لها ختامٍ مغاير يرسخ لفكرةٍ حميدة تتمثل في المثابرة وراء المبتغي مهما بلغ حجم الإخفاقات وبدت لحظات السعادة قبلهم أشبه بمخدرٍ مؤقت يتلاشي مفعوله سريعاً دون طائلٍ منها في الاستمرار على الأمد البعيد.

الرابط بين تلك العناصر وفلسفة أندرسون السينمائية قد لاحت معالمه منذ أن قرر”إيدي أدامز” او “ديرك ديجلر”-كما يحب أن يلقب-الإستجابة لدعوة المخرج جاك هورنر للانضمام إلى مملكته السنيمائية المختصة بصناعة أفلام “البورن” بعدما توسم في جسده اللياقة المثالية وعصب الشباب الحيوي التي من الممكن أن يصير “شيئاً رائعاً في إنتظار الخروج فقط” دون أن يدرك عواقب ذلك مستقبلاً وإمكانية حدوث ما لا يمكن توقعه بعد صولاتٍ وجولات يعمل خلالها بإشتهاءٍ وحب لعمله.

وترتكز الأحداث نصاً على مسيرة “ديجلر” وكل خُطوة خاطها بقدمه وأشغل فيها عقله محاولاٍ إصتناع إسمٍ له في ذلك العالم الماجن الذي هداه تفكيره للإقتناع بوجوب ترسيخ المحتوي كمادةٍ تساعد الناس في علاقاتهم الزوجية ومعاشراتهم الخاصة، حتي شهدت حياته الصاخبة تراجعاً حاداً قلبها رأساً على عقب وهوت به إلي الهلاك مجدداً نتيجة عناده مع من أووه وصنعوا مكانته الحالية ومثوله فريسةٍ للمخدرات التي أفقدته كافة مميزاته و جعلته نجماً من الأساس.

الأمر لا يقتصر على “ديجلر” فحسب، فنص “اندرسون”يدعونا أيضاً للتأمل في أحوال الشخصيات المشاركة بالفيلم ومشاكلهم كل فردٍ منهم ورصد تأثيرات العواقب المترتبة على كل قرارٍ اتخذوه, مثل “بيل” المخرج المساعد الذي يقف مكتوف الايدي بينما يشاهد زوجته تعاشر الرجال على مرأي ومسمعٍ من الجميع ويتملكه الحزن كونه لا سلطة له عليها فأدى ذلك إلى نهاية مأساوية في وقتٍ غير مناسب , وكذلك “ماغي” –نجمة الأفلام الإباحية التي تدمن المخدرات بشراهة في الوقت الذي تعاني فيه من فقدان فرص رؤية إبنها بعدما أقر زوجها بكونها فاقدة الأهلية لرعايته.

لكن “لكل قاعدة إستثناء”، وذلك يتمثل في شخصية “جاك هورنر” هادئة الطباع وأحادية الفكر، فنجده لا ينشغل سوي بالعمل على إيجاد الشكل الأنسب لأفلامه الإباحية، وعلى الجانب الأخر يحتضن الجميع ويعاملهم معاملةٍ حسنة ملبياً كافة رغباتهم ومصغياً لتطلعاتهم ورغباتهم، وعلى ذلك لا يتأثر الفيلم من بساطة الشخصية وهدؤها العارم ويبقي محمولاً على أعناق “ديجلر” والأخرون لقيادته نحو خط النهاية وتوصيل الرسالة المراد طرحها من سياق القصة برمتها.

ولهذا تمكن الراحل “بيرت رينولدز” من لفت الأنظار بقوة لسلاسة أدائه ورزانته التجسيدية التي تناسب الشخصية على نحوٍ مثالي، ونال على إثرها وابلٌ من الترشيحات في إستحقاقٍ مؤكد لا شبهة فيه جعله النجم الأبرز بالفيلم بالرغم من كونه نجماً مساعداً للبطل الرئيسي الذي تفنن في أدائه “مارك ولبيرغ” في سنٍ صغيرة ولكن أثاره على المشاهد لم تكن لتبلغ ما حاذ عليه “رينولدز” الذي رحل عن عالمنا العام الماضي.

بعيداً عن ذلك، نجح بول توماس أندرسون في منح مشاهديه القدرة على إدراك جماليات تجربته الدرامية التي تقتص ملامح عالماً مصغراً من وحي الواقع المأساوي الذي نعيش فيه، لربما يوحي لنا بأن البشر على حافة الإنحدار الفكري والعقائدي نتيجة اليأس التام من عدم منطقية حياةٍ ملؤها البؤس والشقاء يتذوقون فيها طعم الأسي ومرارة العيش التي ترخي بجائلها أخذةٍ بخناق الجميع، مما يحيد بهم عن المثالية وتنجرف ضمائرهم إلي اوحال الرذيلة والدنس.

العجيب في الأمر أن بول توماس أندرسون لا يطرح الرسالة كاشفاً عن الحل وتصويره كمادةٍ سينمائية عند الوصول للمنعطف الأخير للفيلم، فهو يدرك في الأغلب أن طريق الخطيئة لا رجعة فيه ولا مكان لضحياه سواه ،فمن الصعب تقبل أحدً يمارس كافة أنواع الموبقات ويتم إحتوائه إجتماعياً من جديد بعدما نبذه الجميع في الأصل وهو حائراً هنا وهناك باحثاً عن قشةً يتعلق بيها لحياة هنيئة فلا يجد قدر أنملةٍ تعطيه الشئ الثمين الذي يتمسك به على مديٍ بعيد ، وقد تجلت تلك الفلسفة بحرفيةٍ وذكاءٍ شديد بإحدي تسلسلات الفصل الأخير التي جعلت من الفيلم إحدي كلاسيكيات نهاية التسعينات التي لن تزول مهما مر من الوقت.

فهنيئاً للسينما أن يكون بول توماس أندرسون من ضمن أبنائها الأبرار الذين تبرع أفكارهم في تصوير عوالم الواقع من منظورٍ سينمائي خالص يجمع بين شقيه البراعة والنضج الفني والحبكوي، ففيلمه “ليالي بوجي” شاهداً حقيقياً على شكلٍ من أشكال الواقع التي بات كالسيارة التي إن لم ينتبه إليها أحد، فحتماً ستعود إلي الخلف وتستمر في ذلك حتي يدركها الخراب تماماً دون إمكانيةٍ في العدول عنه.

Visited 66 times, 1 visit(s) today