لوكريثيا مارتيل: مخرجة من الأرجنتين

لوكريثيا مارتل لوكريثيا مارتل

تعد المخرجة الأرجنتينية لوكريثيا مارتيل أحد أهم وجوه السينما بروزا في أمريكا اللاتينية، وقد صرح المدير الفني لمهرجان البندقية السينمائي ألبيرتو باربيرا بأنها “أهم مخرجة أمريكية لاتينية ومن بين الأفضل في العالم”.

ومع ذلك فهذه المخرجة لم تنجز سوى أربعة أفلام خلال عشرين سنة من مسيرتها، وقد اختيرت أفلامها للمنافسة في أكبر المهرجانات السينمائية؛ كان، برلين، البندقية، مما جعلها تحظى بمكانة خاصة في الساحة الدولية، خولت لها نيل شرف رئاسة الدورة السادسة والسبعين من مهرجان فينيسيا السينمائي.

تقول مارتيل عن تكوينها السينمائي: “شاهدت الأفلام، قرأت الكتب، وكتبت، وكنت عقلا حرا، لأنه كان علي أن أكون كذلك”.

قبل الخوض في التحليل، تجدر الإشارة الى أن لوكريثيا مارتيل تعتمد بشكل خاص على تقنيات السرد البسيط لجذب الجمهور من اجل التركيز برقة على ما توليه المخرجة الأولوية، ومن جهة أخرى يلاحظ أن معظم مشاهد أفلامها تحتوي لقطات خانقة ومزدحمة، حيث يوجد الكثير من الأشخاص داخل الإطار الواحد، الكثير من الأجسام المتعرقة بحيث تكاد تنعدم المساحة الكافية للتنفس.

كما أن المخرجة تعتمد على أصوات طبيعية حتى يشعر المشاهد بواقعية الأحداث، بالإضافة إلى تصويرها لطبيعة غير خلابة، إذ حسب اعتقادها أنه لا وجود للانسجام مع الطبيعة، فالشخصيات تشعر بعدم الارتياح في وجود الطبيعة، فالطبيعة ليست ممتعة ولا مرحبة.

من بين أربعة أفلام التي قدمتها لوكريثيا مارتيل للمشاهد سيتم التركيز على ثلاثة فقط من بينها (المستنقع، الفتاة المقدسة، امرأة بلا رأس)، بينما سيترك الفيلم الأخير “زاما” للتحليل في مقال اخر نظرا لكونه مغامرة جديدة بالنسبة للمخرجة حيث غيرت توجهها خلال عملها على هذا الفيلم الذي جاء بعد مضي عشر سنوات عن آخر فيلم لها.

المستنقع                              

من فيلم “المستنقع”

في بداية فيلم “المستنقع” La Ciénaga، نرى ميشا صاحبة العزبة المتواجدة بشمال الأرجنتين، تتعثر وتسقط فتتعرض لجروح على مستوى صدرها بواسطة زجاج كأس النبيذ، حيث كانت تحتفل رفقة عائلتها في المسبح، لكنه يبدو لأول وهلة كأنه مجرد حادث عارضي، لكن مع تقدم الأحداث نلاحظ أنه ربما كان سقوط ماشا هو نقطة التطور في حياتها، فسقوطها عبارة عن صدمة ستغير كل شيء في حياتها.

لم تعد لماشا سلطة على أبنائها، ولا حتى على خادمتها، لا تنهض من السرير إلا نادرا، تحتسي النبيذ باستمرار، كأنها استسلمت للضياع، كأن سقوطها ذلك عبارة عن هفوة على طريقة سيغموند فرويد، بما معناه أن السقطة اعلان عن كارثة وجودية لا مفر لها منها.

حيث مهما حاول الشخص الهروب من اكتشاف الأسباب التي تدفعه الى ارتكاب العديد من الاشياء والحماقات، إلا أنه يظل مسؤولا على الدوام عن موقفه اتجاه ما يطرأ له ومن حوله، لم تعد ماشا قادرة على تجاوز الماضي ومخلفاته في الحاضر، حيث يبدوان معظم التشنجات التي تعكر صفوها كانت نتيجة لخلافات عائلية في الماضي، فهذا زوجها الذي كان على علاقة بصديقتها ميرسيديس، وذاك ابنها الذي كاد أن يفقد عينه جراء توغله في الادغال، ابنها البكر في علاقة مع ميرسيديس في حين ان ابنتها متعلقة بخادمتها ولا تنظف ثيابها كما لا تستحم.

زواج فاشل، فالزوج يدهن شعره، ويعيش أزمة منتصف العمر، يريد استعادة شبابه الضائع، الأطفال مستلقون على أسرتهم، تفوح منهم رائحة العرق في جو من الملل الخانق، منغمسون في نزعة جنسية ومراهقة ناشئة، مشاكل مادية ضخمة، ولا أحد يهتم سوى ماشا التي لا تجد من حل سوى شرب الخمر والانزواء في غرفتها تنتظر الموت.

على الجانب الآخر نجد قريبتها ثالي، التي تعيش في منزل بسيط رفقة ابنائها وزوجها، هذا الاخير الذي يمنحها كل شيء عدا الاهتمام الذي تبحث عنه المرأة في زوجها، تقرر السفر الى بوليفيا رفقة ماشا بغرض شراء الأدوات المدرسية نظرا لثمنها المنخفض، لكن يبدو ان الهدف الحقيقي هو البحث عن ثغرة لتتنفسا طعم الحرية، ورغم ذلك اشترى زوجها الأدوات وحرمها من استقلاليتها ولو بشكل مؤقت. وفي آخر الفيلم يسقط ابنها من أعلا الجدار كإعلان عن صدمة ستؤدي الى كارثة وجودية لا مفر لثالي وزوجها منها.

 الفتاة المقدسة

“الفتاة المقدسة”

يبدأ فيلم “الفتاة الخامسة” La niña santa بمشهد كورال كاثوليكي، يُتبع بمشهد لتحرش رجل في منتصف العمر يضغط قضيبه خلف فتاة مجهولة، هذه الفتاة التي استغربت للفعل لكنها لم تبد أي مقاومة، ذاك الوضع الذي تركها في فراغ فكري، ويتضح فيما بعد أن المتحرش هو دكتور اسمه خانو يحضر لمداخلة علمية خلال ندوة سنوية للأطباء، حيث سيقيم بنفس الفندق الذي تقيم به الفتاة أماليا ذات الأربع عشرة ربيعا والتي تحرش بها سابقا.

الصدمة تبدأ حين يدرك الدكتور خان أن أماليا تترصد له، وتتلصص عليه، في حين أنه متزوج ولديه أيناء، كما أن والدة أماليا معجبة به. نلاحظ في هذا الفيلم الغرائز المعاكسة؛ فمن جهة نجد براءة أماليا ومن جهة أخرى نعاين انحراف خانو، الدعوة الروحية والصحوة الجنسية، حيث قررت أماليا أن تساعد خانو في الخلاص من انحرافه فهو هدفها ضمن خطة الله في الأرض، لكنها تتعلق به أكثر من كونه مجرد هدف، بل تجعل منه حالة تكتشف من خلالها نفسها ورغباتها.

صراع بين الإثم والتقوى، الرغبة والإنكار. وعلى الرغم من كون أماليا تهدف الى مساعدة الدكتور خانو، إلا أنها ستسبب له الصدمة التي ستؤدي في اخر الفيلم الى كارثة، هذه الكارثة رغم كوننا لا نشاهدها، اذ اعترفت صديقة أماليا لوالدتها بفعل التحرش، مضطرة بعد ان ضبطت في السرير مع قريبها.

الجنس يكتشف بشتى الطرق، فكلما حوصر المرء وتشدد في قمع رغباته الجنسية، كلما لجأ الى حلول متطرفة وآثمة.

كما يبدو أن والدة أماليا “هيلينا” لا تناقش امور الجنس مع ابنتها نظرا لمعاناتها هي الاخرى من هذه المعضلة، فهي مطلقة وفي منتصف العمر، بينما طليقها انجبت له زوجته الجديدة توأما، فهي تعيش أزمة منتصف العمر وبالتالي فشلت في التواصل مع ابنتها.

 امرأة بلا رأس    

امرأة بال راس

في فيلم “امراة بلا رأس” “ La mujer sin cabeza هناك فيرو وهي امرأة في منتصف العمر تصدم شيئا بسيارتها، تعتقد انه بشر فيما يبدو انها قد صدمت كلبا، يتضح فيما بعد ان شابا قد اختفي قرب مكان الحادثة، تكلم فيرو زوجها بشأن الحادثة، لكن جميع المحيطين بها يؤكدون لها أنها صدمت كلبا ولا اثر لحادثة سير ضحيتها انسان، فيما يبدو لنا انهم يحاولون تشتيت انتباهها عن يقينها بأنها قتلت شخصا ما.

الحادثة لم تؤثر على صحتها البدنية، بل غيرت من نظرتها للأمور بشكل جذري، الرجال من حولها يحاولون حمايتها، في حين انها مرتبكة وسط ذهولها من الحادثة ومن حياتها وسط كل هذا الكم من الهراء.

يبدو أن الرجل الأرجنتيني يبحث دائما عن اثبات فحولته، حيث يفرض حماية مطلقة على المرأة، قد تصل الى التستر عن جريمة ما، أو اخفاء معالمها، فالمرأة لا تستطيع العيش دون حماية ورقابة من الرجل، هل هو نوع من الاستغباء، أم الاستخفاف بقدرات المرأة على تحمل عواقب أفعالها؟ يبدو من خلال الفيلم أن المرأة صريحة وصادقة عكس الرجل الذي يتسم بالخداع والمكر.

يتضح ان الحادثة ايقظت غريزة فيرو في الوقوف ندا للرجل، وهذا ما سيتسبب في كارثة ستضرب بفحولة الرجل.

المجتمع الأرجنتيني الذي تكشف عنه أفلام لوكريثيا مارتيل يعيش بشكل غامض على أمل ألا يتغير أبدا، وفي رعب من أن يعيد كل شيء نفسه إلى ما لا نهاية.

الطبقة الوسطى تعيش وسط عاصفة لم تزحهم بعد عن الوجود، فهم قد ألفوا العيش وسط العواصف أو الأزمات. هذه الطبقة تأكل نفسها يوما بعد يوم، اذ تسير في اتجاه طمس الذات ومحوها، تعيش المخاطر والمآسي والعزلة والموت في الحياة.

وفي مقابل ذلك هنالك طبقة السكان الأصليون، الذين يعيشون بشكل بسيط وتبدو عليهم السعادة رغم بشرتهم القاسية جراء تعرضهم للشمس لساعات طويلة.

Visited 116 times, 1 visit(s) today