كلاسيكية البناء الدرامي في فيلم “ميرامار”

تمكن كتاب سيناريو ومخرجو روايات نجيب محفوظ الواقعية –عموما- من تقديم معالجات سينمائية متماسكة لها كما تمكن بعض كتاب سيناريو ومخرجي رواياته الرمزية والكنائية من إيجاد معادلات فنية للرموز والكنايات والإشارات والاستعارات المتضمنة فيها.

لقد أفلح كتاب السيناريو ومخرجو رواية القاهرة الجديد ( صلاح أبو سيف وعلي الزرقاني ووفية خيري / صلاح أبو سيف -1966) وخان الخليلي (محمد مصطفى سامي/ عاطف سالم- 1966) وزقاق المدق (سعد الدين وهبة / حسن الإمام-1963) والسراب (علي الزرقاني/  الشناوي-1970 ) وبداية ونهاية (صلاح عز الدين /صلاح أبو سيف-1960) وبين القصرين (يوسف جوهر/ حسن الإمام-1962) وقصر الشوق (محمد مصطفى سامي/ حسن الإمام-1966) والسكرية (ممدوح الليثي /حسن الإمام-1973)، في تقديم معالجات سينمائية متناسقة وموحية  لمتونها وأجوائها وأبعادها الدلالية .

ليس من اليسير تقديم معالجة سينمائية متماسكة لرواية مركبة مثل “ميرامار”. وتكمن صعوبة هذه المعالجة في تعقد بناء هذه الرواية وتعدد منظوراتها وقابليتها لمعالجات وتأويلات مختلفة. ففيما تقدم الأحداث من منظور سارد كلي العلم في ” القاهرة الجديدة ” و” خان الخليلي ” والثلاثية ” و”السراب” فإنها تقدم في” ميرامار” من منظور أربع شخصيات مختلفة، من حيث الانتماء الجيلي والخبرة المهنية والممارسة السياسية والثقافية والخيارات الوجودية والفلسفية والموقع الطبقي والموقف من ثورة يوليو. ثمة ائتلاف واختلاف في عرض الأحداث وتفسيرها وتأويلها، تبعا لموقف وموقع واختيار كل شخصية. ولا يجمع هذه الشخصيات إلا التفاعل مع مستجدات الثورة وفضاء البنسيون والموقف من زهرة.

ليست رواية ميرامار رواية واقعية مثل “زقاق المدق” أو “القاهرة الجديدة” ولا رمزية ولا كنائية ولا إيحائية مثل “الطريق” أو “ثرثرة فوق النيل” أو “ملحمة الحرافيش”؛ ولذلك لا تتمثل صعوبة نقلها إلى السينما في تعدد الخطوط وكثرة التفاصيل كما في الثلاثية ولا في إيجاد المقابل البصري للغة المكثفة والشاعرية والرموز والكنايات والإيماءات الموحية كما في (اللص والكلاب) و(الشحاذ ) و(الطريق ) و(الشيطان يعظ).

تكمن فرادة هذه الرواية بالدرجة الأولى في بنائها وشكلها وتعدد منظوراتها. وهكذا يقرأ الحادث الواحد في سياقات ومساقات مختلفة، ويتلون فهمه وتأويله ، تبعا لخلفية وتكوين وموقع الشخصية الطبقي وموقفها الصريح أو الضمني من التغيير الاجتماعي ومن الثورة الناصرية.

ولا يكتفي الناظر بتمثل الحدث وفهمه فقط أو بالتعبير مباشرة أو مداورة عما جرى (الحراسات والتغيير الاجتماعي عموما)، بل يتفاعل معه، وجدانيا وفكريا، ويعود لإضاءة بعض عتمات الحاضر إلى التاريخ السياسي لمصر بعد ثورة 1919، وإلى التجربة الشخصية (عامر وجدي).

إن كل منظور خلاصة تركيبية لخبرات ومكابدات الفرد (عامر وجدي) ولإحساسه الممض بانهيار إبدال فكري-اجتماعي راسخ وبارتباك قيمي وحيرة وجودية قاتلة (عامر وجدي وحسني علام).

هل تمكن السيناريست ممدوح الليثي والمخرج كمال الشيخ من تقديم تأويل يراعي عالم الرواية الدلالي ومقتضيات الفن السينمائي ومعايير التقبل والتداول والمشاهدة بمصر في الستينيات؟ هل تمكنا من تطويع اللغة السينمائية حتى تتسع لغنى الرواية وبعدها الاحتمالي وتعدد منظوراتها؟

هل أسهمت اختياراتهما الفنية والتقنية والجمالية والتعبيرية في إغناء المادة المعالجة سينمائيا؟

كيف عبرت شخصيات الفيلم جحيم أو مطهر بنسيون ميرامار؟

وقد سبق للناقدة لطيفة الزيات، أن شبهت البنسيون بجحيم دانتي.

(وهذا البنسيون أشبه ما يكون بطبقة من طبقات جحيم دانتي، تنطوي للإنسان إما على التدمير وإما على التطهير، على الموت أو على البعث، على النهاية أو على البداية.) “1”

استراتيجية المعالجة

لم يكن من الممكن تقديم معالجة سينمائية لهذا النص الروائي المركب ، دون إعادة بناء المادة الروائية، وتوحيد المنظور، واختيار خط درامي مركزي وتعديل بعض مظاهر وسمات الشخصيات. لا يمكن التعويل على آليات التحوير والتعديل والإضافة دون الإخلال بالبناء الدرامي كما فعل صلاح أبو سيف في ” بداية ونهاية ‘ و ” القاهرة 30″ أو عاطف سالم في ” خان الخليلي ” وحسام الدين مصطفى في “الطريق” في  معالجة رواية متعددة المنظورات سينمائيا. بل لا معدى، في سياق إنتاج الفيلم، عن إعادة ترتيب المادة واعتماد منظور أوحد والتقليص من الشحنات والكثافة الدرامية للأحداث والتركيز على الحدث دون ربطه- عن طريق التداعيات- بالتاريخ والمخيلة والذاكرة والوجدان الفردي. فكثيرا ما تستثير أحداث الحاضر الذاكرة والوجدان والمخيلة في الرواية.

(.. ورغم تظاهري بالأسف فإنني شعرت بإعجاب بها [يقصد زهرة] لا يحد. لن أضايقك بنصائح العجائز. لقد كان سعد زغلول يستمع إلى نصائح الشيوخ ولكنه اتبع غالبا آراء الشباب.) “2”

إعادة بناء المادة الروائية

فقد اشتملت الرواية على أربعة مسارات وتجارب ومنظورات مختلفة؛ واقتضى توحيد المنظور التركيز على المشترك واستبعاد الخاص في كل تجربة ومسار. تجتمع في منظور عامر وجدي، وقائع البنسيون ومستجدات الساحة السياسية والثقافية (سهرة أم كلثوم)، والذكريات والانطباعات والأحلام والمراجعات والاستعادات النقدية لوقائع الماضي والذاكرة الفردية (ذاكرة الشاب الأزهري المتطلع إلى التحديث والتوفيق بين الأصالة والمعاصرة) والجماعية والسلوكيات والأذواق الموسيقية (عدم استساغته الموسيقى الأوروبية) والفنية والإيروسية (تفضيله الملاءات اللف) والمرارات.

لم يكتف عامر وجدي، برصد التفاعلات والمبادلات والمشاحنات بين نزلاء البنسيون، بل تنقل مرارا بين التاريخ والواقع، بين الذاكرة والمشاهدة، بين الحلم والمواجهة، بين ورود الثورة ورمادها.

كما غيبت العناصر الدرامية، في سيرة حسني علام، ودواعي لا انتمائه، مما أفقده كل زخمه وتوتره الدرامي في الفيلم. فهو متمرد عدمي، يقر بحيرته وتيهه، ويكثر من المغامرات ومن السرعة والنزق واللهو، لا غفلة أو عنادا، بل اقتناعا باستحالة الإقرار بسلامة الأشياء بعد ارتجاج يقينيات العالم القديم .( فرض الحراسات ،غروب مجد الريف المصري ، رفض ميرفت الزواج به ….).

(لا ولاء عندك لشيء. سعادة عظمى ألا يكون لك ولاء لشيء. لا ولاء لطبقة أو وطن أو واجب. لا أعرف عن ديني إلا أن الله غفور رحيم.)-3-

ومن هنا ،فلا تلغي مركزية التفكير في الثورة ،الأبعاد الوجودية والميتافزيقية ،والتوق المزمن لدى من تمرد على المعايير والحقائق السوسيولوجية إلى طمأنينة وهناءة وجوديتين مستعصيتين(عامر وجدي ) . ومن هنا، فإن رواية ميرامار تشريح للشخصية الإنسانية في أقصى لحظات ارتجاج يقينها الفكري والسياسي وتشريح للثورة وإجراءاتها.

من البين إذن، أن الثورة لا تخلخل الثوابت والتوازنات الطبقية فقط بل تؤجج القلق الفكري والوجودي الملابس لشخصيات باحثة دوما عن تحول أشمل لا يقتصر على إجراءات أو قرارات وقتية أو ظرفية (منصور باهي وحسني علام).

. (وقلت لنفسي إن الثورة ظاهرة غريبة مثل الكوارث الطبيعية. وإنني كمن يستقل سيارة فارغة البطارية) “4”

وعليه فإن رصد مسار ومصير الثورة المصرية هو أفضل نهج في الرواية لتشريح الشخصية الإنسانية ، والكشف عن مواطن الاعتلال فيها ، في لحظات العصف الكبرى .ولسنا نتفق ،في هذا السياق ، مع تحديد غالي شكري للجوهري والعرضي في الرواية.

(ولكن “التصميم” الروائي هو في جوهره بناء نظري هنا وهناك، لا يقصد إلى تشريح الشخصية الإنسانية أو تحليل الموقف الإنساني أو اكتشاف ما وراء الحدث وإنما يقصد أولا و أخيرا إلى تقديم نظرية فكرية في خريطة الثورة المصرية) “5”

ولئن تجلت مأساة حسني علام في عجزه عن الانتماء والحب والمعرفة، فإن مأساة منصور باهي كامنة في عجزه عن الفعل والتحرر من وصاية وسلطة الآخر (نقصد أخاه ضابط البوليس ورفاقه السابقين في التنظيم).

 (-أن تؤمن و أن تعمل فهذا هو المثل الأعلى [حاول  عامر وجدي تحقيق المصالحة بين الفكر والعمل الثوري دون جدوى ]، ألا تؤمن فذاك طريق آخر اسمه الضياع [حالة حسني علام ]، أن تؤمن وتعجز عن العمل فهذا هو الجحيم[ حالة منصور باهي] ..) “6”

فهو مستغرق دوما في مصارعة الموانع والحوائل الحائلة دون الانخراط في الثورة والتمتع بالحب (حب درية).

إن عطفه وحدبه على زهرة يندرجان في مسار إعادة بناء الذات بعد إحساس غامر بالإخفاق والعجز عن الفعل وتحرير الذات من سلطة ونظرة الآخر. يزداد تفاعل منصور باهي مع تموجات حياة زهرة ( فشل تجربتها العاطفية مع سرحان البحيري )،بعد إخفاق مشروع ارتباطه العاطفي بدرية زوجة أستاذه ورفيقه فوزي ،وازدياد شعوره بالخيانة والاختناق وكراهية الذات.

(فقلت [منصور باهي ]:

-هناك شخص ينغص علي صفوي..

-من هو[زهرة]؟

-شخص خان دينه!

فحركت يدها مستنكرة.

-وخان صديقه وأستاذه!

واصلت حركتها الاستنكارية فسألتها:

-هل يغفر له الذنب أنه يحب؟

فقالت مستفظعة:

حب الخائن نجس مثله!) “7”

فهو عاجز كليا عن الفعل وعن المبادرة، وعن تحقيق مصالحة فكرية ووجدانية مع الذات. وقد دفعه الإحساس بالذنب والإخفاق وكره الذات، إلى عرض الزواج على زهرة في الرواية رغم حبه العاصف لدرية.

ولا تخلو شخصية سرحان البحيري في الرواية من التوتر والتموج والاختلاج. فهو عاطفي (حبه لزهرة) وبراجماتي (رغبته في الارتباط بالأستاذة علية محمد)، وثوري ولا ثوري (غير مهتم عمقيا بالسياسة) في ذات الآن.

(تذكرت زهرة بحزن. لم أبرأ تماما من حبها ،وهو العاطفة الصادقة الوحيدة التي خفق بها قلبي الممزق بالأهواء.) “8”

لم يتمكن سرحان البحيري، من تجسير الفجوة  القائمة بين العاطفة والعقل ، بين الحب والمصلحة ،بين الشغف والترقي الطبقي ،فاختار الانتهازية مسلكا والاغتناء السريع نهجا.

(لن نتلاقى أبدا. هي تحبني ولكنها ترفض التسليم بلا قيد، وأنا أحبها ولكني أرفض القيد. ولا هذا ولا ذاك بالحب الحقيقي الذي تمحى عنده الإرادة والعقل . ).”9″

وهو فوق ذلك متوجس ومنشغل باستنقاذ ذاته من وضع غير مريح اجتماعيا واقتصاديا (محدودية الموارد المالية وازدياد مطالب العائلة). فمهما ترقى مهنيا وتنظيميا، فإنه يراوح مكانه. وفيما يتعثر اجتماعيا رغم بروزه السياسي والتنظيمي، فإن “تلميذه”( في الحساب ومسك الدفاتر ) بائع الجرائد والمجلات محمود أبو العباس اشترى مطعم بنيوتي، وشرع في اقتحام عوالم الاغتناء.

(وواصل علي [علي بكير] حديثه قائلا:

  • الخطوات المشروعة سراب، صدقني. ترقيات وعلاوات ثم ماذا؟، بكم البيضة؟ بكم البدلة؟ ها أنت تتحدث عن فيللا وسيارة وامرأة، حسن، أفتنى إذن ؟ وقد انتخبت عضوا في الوحدة فماذا أفدت؟ وانتخبت عضوا في مجلس الإدارة فماذا جد؟ ،وتطوعت لحل مشكلات العمال فهل فتحوا لك أبواب السماء ؟ والأسعار ترتفع والمرتبات تنخفض والعمر يجري، حسن ،ما الخطأ ؟…) “10”

للخروج من وضعه الاجتماعي القلق، اختار سرحان البحيري الطفرة ( زواج المصلحة والفساد من خلال المشاركة في عملية تهريب الغزل )لا التدرج مثل محمود أبو العباس ،فانتهى إلى الانتحار.

لم تلتفت المعالجة السينمائية إلى التمزقات والاختلاجات العاطفية والوجدانية والفكرية والسياسية للشخصيات، بعد أن عرى التغيير الاجتماعي الثوري ظاهرا، هشاشتها الفكرية والطبقية وكشف عن عجزها عن تجسير الفجوة بين الإرادة والقدرة، بين الغايات الفردية والفئوية والممكنات التاريخية، بين المستعصي لاعتبارات تاريخية والمتاح ظرفيا.

توحيد المنظور

قام السيناريست ممدوح الليثي بتوحيد المنظور واستبعاد تعدد واختلاف المنظورات، نشدانا للتناسق والتماسك الدراميين ومراعاة للذائقة الفنية ومعايير التداول في الستينيات. فقد اقتضى التوحيد، استبعاد التعرجات السردية، والفوارق في النظر والتقييم والحكم والتقدير. فصارت زهرة/ شادية بؤرة السرد الفيلمي، فيما كانت أنظار كل شخصية في الرواية شاخصة إلى أفق آخر.

وفيما تروم الرواية فهم ما يقع سياسيا (قرارات وإجراءات الثورة) ورصد تعامل فئة من “المنبوذين” طبقيا أو مهنيا أو اجتماعيا مع فلاحة متمردة ضد الأعراف السلبية  ( رفض الزواج بشيخ)وتواقة إلى المعرفة والحب والكرامة ،فإن الفيلم قلص من مدى  الشخصيات و من زخم الأحداث، وألغى أبعادا جوهرية  في عالم الشخصيات المركزية( عامر وجدي خاصة) .

إن منظور كل شخصية بمثابة عالم صغير، لا يتحدد بالمشاهد والمعاين والآني فقط، بل يتحدد كذلك بالذاكرة والتاريخ السياسي والسيرة العائلية والخيال والحلم والاستيهام.

وقد اقتضى توحيد المنظور ما يلي: 

  • اعتماد منظور وحيد متمحور حول تجربة زهرة / شادية في البنسيون وتكون قناعاتها (اختيار العلم والعمل واحترام الممكن الطبقي والتاريخي من خلال الارتباط بمحمود أبو العباس/ عبد المنعم إبراهيم المتطلع كذلك إلى العلم والتمدن والترقي  )؛
  • اعتماد سرد خطي بلا تعرجات أو نتوءات؛
  • التركيز على الحادث والآني واستبعاد النقلات الزمانية والخلفيات التاريخية والمحددات الوجدانية والمنطلقات الفكرية (حالة عامر وجدي وحسني علام خاصة)؛ 
  • تنميط الشخصيات واستبعاد أبعادها الدرامية والتراجيدية العالية؛
  • تعديل مسار بعض الأحداث: مسار محمود أبو العباس وعلاقته بسرحان البحيري مثلا؛
  • حذف كثير من التفاصيل:
  • إخفاقات عامر وجدي وسجنه ومحنته الوجودية:

(وعندما نتحسس موضعنا في البيت الكبير المسمى بالعالم فلن يصيبنا إلا الدوار. ) -11-

  • زيارة شقيقة زهرة وزوجها للبنسيون ورفض زهرة العودة إلى الزيادية،
  • مغامرات حسني علام ولا سيما مغامرته مع الفتاة السورية-الإيطالية؛
  • حديث عامر وجدي ومنصور باهي عن الكتابة والنسيان والتوثيق وتاريخ الخيانة بمصر؛
  • علاقة حسني علام بصفية بركات واتفاقه المبدئي على شراء ملهى الجنفواز مع مالكه الأجنبي؛
  • زيارة سرحان البحيري لمنصور باهي في مكتبه بإذاعة الإسكندرية؛
  • عرض منصور باهي الزواج على زهرة؛
  • تاريخ ماريانا وعلاقتها بطلبة مرزوق؛
  • تجديد صلة سرحان البحيري برأفت أمين، الوفدي السابق وعضو الوحدة الأساسية لشركة المعادن المتحدة وأحاديثهما عن الوفد والثورة والالتزام السياسي. 

اختيار خط درامي  مركزي

تمحورت أحداث الفيلم حول شخصية زهرة/ شادية، ومسارها العاطفي (حب سرحان البحيري /يوسف شعبان) والحياتي الصعب وتفاعلها مع فضاء ثقافي –مديني متطلب وحابل بالمفارقات. لا تقدم الشخصيات عموما، إلا بقدر ما تتفاعل أو تتجاوب أو تؤثر أو تتدخل مباشرة في مجرى حياتها. لقد احتلت موقع البؤرة في الفيلم، فيما كان مسارها وكدها من أجل الكرامة والمعرفة والحب ،في الرواية ،مندرجان في سياقات حياتية ومجاذبات عاطفية ومكابدات فكرية ووجودية و إخفاقات سياسية أو مهنية ،وسمت بميسمها مسار الشيخ عامر وجدي والشاب اللامنتمي حسني علام ،والشاب الثائر والحائر منصور باهي والثوري الانتهازي سرحان البحيري. فعامر وجدي ،معني بما يقع لزهرة ،ومشفق عليها من وعثاء الطريق ؛إلا أنه مسكون قبل كل شيء بذاكرته وجروحه النرجسية النازفة ومنشغل عمقيا بحيرته الوجودية.

أما حسني علام ،فلا يتفاعل مع زهرة إلا في سياق عرض واستعراض ما يجري ،أو في سياق التطلع إلى مغامرة عابرة في عالم مثقل بالقيم العابرة . ومنصور باهي منشغل عمقيا، بتمزقاته واختلاجاته الفكرية والنفسية والعاطفية .فهو لا يملك في غمرة استغراقه في  أزمته المستفحلة والخانقة (حبه لدرية زوجة  فوزي أستاذه ورفيقه المسجون وعجزه عن الفعل والتحرر من سطوة أخيه) إلا التعاطف المشوب بالشفقة على زهرة .ولم يحل حب سرحان البحيري لزهرة ،دون تحيره وتمزقه العاطفي وتفضيله منطق العقل ( خطبة المدرسة علية محمد)على منطق العاطفة.

من الواضح إذن، أن ارتباط وتفاعل هذه الشخصيات مع زهرة (حب أبوي / عامر وجدي / حب أخوي / منصور باهي / إعجاب مشوب باستعلاء طبقي / طلبة مرزوق/ إعجاب مقرون بالمعابثة / حسني علام / حب مشوب برغبة حارقة / سرحان البحيري)، يندرجان ضمن مسارات تاريخية وفكرية وسياسية وشخصية في الرواية.

لا تتحدد الشخصيات في الفيلم إلا بموقفها وسلوكها إزاء زهرة / شادية بالدرجة الأولى، وبموقفها من الثورة واجراءاتها وقراراتها بالدرجة الثانية (فرض الحراسة على طلبة مرزوق/ يوسف وهبي بعد نكتة قالها في لحظة مرح وسخريته من الاجتماعات الحزبية.. إلخ). والحال أن علاقة كل شخصية في الرواية بالحادث العاطفي والسياسي، معقدة ومتعددة المسالك والأبعاد.

(- ثمة صديق قديم على صلة بالشركة يصفونه هناك بأنه شاب ثوري، وفي هذا الكفاية ..

-أتظنه مخلصا [يسأل حسني علام طلبة مرزوق عن ثورية سرحان البحيري]؟

— نحن نعيش في غابة يتعارك وحوشها على أسلابنا..

داخلني ارتياح خفي فمضى يقول :

-ما تحت البدلة إلا مجنون بالترف!) “12”

يرسم الخط الدرامي المتبنى، إذن، مسار زهرة/شادية منذ مجيئها إلى الإسكندرية هروبا من زواج مصلحة مدبر، وتجربتها العاطفية (حبها لسرحان البحيري/ يوسف شعبان) والاجتماعية (علاقتها  بعامر وجدي/ عماد حمدي ومنصور باهي/عبد الرحمن علي  ومريانا/ عصمت رأفت ) في بنسيون ميرامار ،وعزمها على التعلم والعمل والترقي المتدرج اجتماعيا.

تعديل بعض صفات الشخصيات

تم إفقار شخصية وجدي عامر/ عماد حمدي، وإغناء شخصية طلبة مرزوق/ يوسف وهبي. إن شخصية وجدي عامر، في الرواية مطبوعة رغم هدوئها الظاهر، بالاحتدام شعورا وفكرا ووجدانا وبالقلق الوجودي والميتافيزيقي، وبالمرارة المتولدة عن الإخفاق في السياسة والصحافة والحياة الخاصة. أدى إفقار هذه الشخصية إلى إفراغها من خصوبتها الدرامية، و من غناها التراجيدي، و نحيت بذلك عن موقعها المركزي، فصارت شخصية نمطية، لا شخصية فاعلة تضيئ حاضر الثورة بأنوار الثورة الأولى (العودة المتكررة إلى سعد زغلول والوفد)، و تقرن تاريخ الجماعة المتموج بتاريخ الفرد المتمرد الباحث عن المعنى والحب والكرامة.

وقد فرض توحيد المنظور واعتماد السرد الخطي، التقليص من الاختلافات والنتوءات والفوارق (موقف كل شخصية من الأخرى وقناعاتها ومواقفها السياسية الحقيقية)، والاعتماد على المشتركات. مما فرض تنميط الشخصيات و تحوير وتعديل صفاتها وسماتها وسمتها. وهكذا فقد أضحى عامر وجدي / عماد حمدي، الباحث عن اليقين وسط دوامات الحيرة، شخصا مترعا بالهناءة والطمأنينة الأنطولوجية.

(ثم تذكرت حيرتي الخاصة التي لا تحل بحزب أو ثورة فرددت في نفسي الدعاء الذي لا يدري به أحد) “13”

وصار حسني علام/ أبو بكر عزت العاجز، عمقيا ،عن الانتماء والحب والمعرفة ،شخصا مرحا وساخرا ومغامرا ،ومتشبثا مثل محجوب عبد الدائم في ” القاهرة الجديدة”[طظ] بلازمة معبرة : “فريكيكو..”(“فريكيكو .. لا تلمني” في الرواية) …

 والحقيقة أن شخصية حسني علام تركيب درامي لمحجوب عبد الدائم في (القاهرة الجديدة) وعيسى الدباغ في (السمان والخريف) وعمر الحمزاوي في (الشحاذ). ولئن شابهت جذوره الطبقية جذور طلبة مرزوق (تنويه طلبة مرزوق بأب حسني علام الفلاح)، فإنه يتفرد بحساسية وجودية عالية، وبنزوع قوي إلى التحلل من الارتباط بالأشياء والحنين وإيهام الذات والآخرين.

(ورغم أن السماء تتزين كل يوم برداء. والطقس كالبهلوان لا يمكن التنبؤ بحركته التالية، والنساء يقبلن في ألوان لا حصر لها، فلا شيء يحدث على الإطلاق.  الكون في الحقيقة قد مات وما هذه الحركات إلا الانتفاضات الأخيرة التي تند عن الجثة قبل السكون الأبدي) “14”

وصار منصور باهي/ عبد الرحمن علي الثوري المحروم من الفعل والحب والانتماء، شخصا عاطفيا تحركه الهواجس العاطفية والوجدانية (علاقته المتموجة بدرية وتعاطفه الانفعالي مع زهرة).

(ووجدت رغبة طاغية تدفعني إلى الحضيض كأنما الحضيض غاية منشودة تطلب لذاتها، أو كأنما الجحيم أمسى هدف الإنسان النهم إلى السعادة.) “15”

وصار سرحان البحيري/ يوسف شعبان، المحب والحالم بوضع طبقي واجتماعي آمن مجرد دونجوان وثوري انتهازي حالم بالثروة.

(أخبرته ذات يوم بتنازلي لأمي وإخوتي عن إيراد ميراثي من الأرض البالغ أربعة أفدنة ولكن ما الفائدة؟!

وقال مشجعا:

  • ما زلت في مقتبل العمر والحياة، و أمامك مستقبل باهر..

فقلت في ضجر:

  • حدثني عن الحاضر من فضلك، وخبرني بالله عن معنى الحياة بلا فيللا وسيارة وامرأة ؟. )”16″

و بينما ترقى بائع الجرائد والمجلات محمود أبو العباس/عبد المنعم إبراهيم اجتماعيا بعد اقتنائه مطعم بانيوتي، فإنه لم يبرح في الفيلم موقعه الاجتماعي ؛بل غير سمته ومظهره و أقبل على العلم من أجل الارتباط بزهرة الناجية الوحيدة من جحيم البنسيون .

وفيما تم إفقار شخصية مركزية امتلكت فسحة زمانية وتاريخية كبرى للتأمل والتفسير ورصد مواطن اعتلال التجربة الثورية مثل عامر وجدي، أبرز الفيلم، في مفارقة لافتة، شخصية طلبة مرزوق/ يوسف وهبي. وقد أشار نجيب محفوظ إلى هذه المفارقة في مذكراته.

(.. ركز الفيلم على شخصية ” طلبة بك” التي جسدها يوسف وهبي، وهي شخصية خفيفة الظل وقريبة من المزاج الشعبي. هذا التركيز قدم الشخصية في صورة تقلب الهدف الذي قصدته منها رأسا على عقب، ففي الرواية حاولت تقديم هذه الشخصية في صورة رجعية مكروهة، أما الفيلم فقد حولها إلى شخصية محبوبة، فتحولت بذلك إلى وسيلة دعاية للرجعية، وساعد على ذلك الأداء البارع للفنان الكبير يوسف وهبي) “17”

التركيب

لم يكن من الممكن نقل كل الزخم والغنى الدراميين الملازمين للشخصيات الروائية الرئيسية إلى الشاشة دون معالجة سينمائية تجريبية. فبما أن هذه الشخصيات مركبة وإشكالية ومتصادية مع أكثر من سجل (التاريخ الحديث وسياسة الثورة والتحديث الفكري والبحث الوجودي والفكر النقدي.. إلخ)، فإن صياغة عوالمها سينمائيا، تقتضي رؤى إخراجية أكثر تركيبا، ونزوعا نحو التجريب، ومعادلات بصرية وجمالية وفنية، قد لا تتسع لها المواضعات السينمائية المصرية في زمان إنتاج الفيلم.

قدم ممدوح الليثي وكمال الشيخ، قراءة كلاسيكية للرواية، وتأويلا متماسكا لمضامينها وأبعادها. ولئن ابتعدا عن التجريب، فإن استثمار فريق المخرج لكل إمكانات المعالجة الكلاسيكية وتوظيفه الأمثل لمهارات وقدرات ممثلين مقتدرين (شادية ويوسف شعبان وعماد حمدي ويوسف وهبي و عبد الرحمن علي  و أبو بكر عزت و أحمد توفيق وعبد المنعم إبراهيم و عصمت رأفت … إلخ) وجماليات المكان ،  وهب الفيلم قدرة كبرى على الإمتاع والإقناع..

الهوامش

  1. لطيفة الزيات، الشكل الروائي –من “اللص والكلاب” إلى “ميرامار”، ضمن: نجيب محفوظ –إبداع نصف قرن، إعداد وتقديم: غالي شكري، دار الشروق، بيروت-القاهرة، الطبعة الأولى 1989،ص.189.
  2. نجيب محفوظ، ميرامار، مكتبة مصر، ص.75.
  3. نجيب محفوظ، ميرامار، ص.111.
  4. نجيب محفوظ، ميرامار، ص.101.
  5. غالي شكري، المنتمي –دراسة في أدب نجيب محفوظ، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثالثة 1982، ص.434.
  6. نجيب محفوظ، ميرامار، ص.167.
  7. نجيب محفوظ، ميرامار، ص.179.
  8. نجيب محفوظ، ميرامار، ص.262.
  9. نجيب محفوظ، ميرامار، ص.252.
  10. نجيب محفوظ ميرامار، ص.215-216.
  11. نجيب محفوظ، ميرامار، ص.23.

12- نجيب محفوظ، ميرامار، ص.110.

13- نجيب محفوظ، ميرامار، ص.56.

14- نجيب محفوظ، ميرامار، ص.125.

15- نجيب محفوظ، ميرامار، ص.176.

16- نجيب محفوظ، ميرامار، ص.214

17- رجاء النقاش، صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 2011، ص.129.  

Visited 68 times, 1 visit(s) today