كأس العالم وكرة القدم.. ثلاثية السينما والرياضة والفساد!
وها قد قاربت بطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة في البرازيل على الانتهاء. بين حزن لخروج العديد من الفرق الكبيرة مبكراً، وسعادة بغزارة تسجيل الأهداف ومفاجآت البطولة، تبدو أجواء كأس العالم مغايرة لتلك الأجواء التي اعتدناها في أيام الطفولة والمراهقة (بالنسبة لأبناء جيلي على الأقل الذين بدأت متابعة بعضهم للبطولة في ثمانينات القرن الماضي، والبعض الآخر لحقوهم في التسعينات).
لم تعد الحماسة ذات البراءة (أو السذاجة) والمسبوغة بروح الهواية هي المسيطرة، سواء على صانعي الحدث أو على المشاهدين أنفسهم. سيطرت دورة رأس المال وروح الاحتراف لتحوّل البطولة (وكرة القدم عامةً، والرياضة في الأعم) إلى صناعة يهدف المسيطرون عليها إلى جني أكبر قدر من الأرباح جاعلين من اللاعبين والمشاهدين مجرد دمى وأدوات لتحقيق أهدافهم على حساب المتعة الحقيقية والحماسة البريئة.
رأسمالية التشجيع
طالت الصناعة المشجعين أنفسهم، فاختلفت مظاهر متابعة البطولة بين متابعيها. فعلى سبيل المثال، لم تعد هواية مثل تجميع ألبوم كأس العالم لها نفس الوهج الذي كانت عليه أيام كأس العالم في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. كان التنافس بين الأطفال والمراهقين لشراء صور لاعبي المنتخبات المشاركة في البطولة ولصقها بالألبوم (الكتيّب) بمثابة البطولة الموازية لكأس العالم لهؤلاء، وكان قمة المجد عند هؤلاء المشجعين الصغار من مجانين كرة القدم هو استكمال الألبوم والحصول على صور جميع اللاعبين. ولكن يبدو أن الزمن لم يعد كالزمن فقد انطفأت حماسة الأجيال الصغيرة بهذه الهواية، فلم يوزّع الألبوم بالأسواق المصرية سوى قبل أيام قليلة جداً من بداية البطولة وعلى نطاق ضيق للغاية. وفي المقابل أصبح تجمّع الأطفال والشباب حول “البلاي ستيشن” هو المظهر الرئيسي لمحاكاة البطولة إليكترونيا وخلق منافسة موازية استعداداً للمباريات لننتقل إلى مرحلة التشجيع التفاعلي الخيالي الذي يحبس أصحابه أمام شاشات أخرى لساعات أطول.
هذا التآكل للتشجيع الكروي العفوي والبريء وحلول الهيمنة التكنولوجية محله هو الصورة الساذجة لهذا التحوّل الأشمل الذي ضرب العالم خلال العقدين الماضيين والذي كان له ضحايا كثيرون لم يستطعوا الصمود أمام تحوّل مجالات كثيرة من مجرد أنشطة غير منظمة، ولكنها لاقت رواجاً وقبولاً من العامة، إلى صناعات متضخمة يسيطر عليها غيلان رأسماليون عملوا على ضخ أموال كثيرة لتطوير تلك المجالات الرائجة (مثل كرة القدم، والسينما، ونشر الكتب) والتوسّع فيها بشكل مبالغ فيه حتى أضرّوا بها وبالجمهور الرئيسي لها (خاصةً من البسطاء).
الصورة الأوضح (وأيضاً الأكثر جدية لمساسها بالعامة) لهذا التحول الرأسمالي في نفس سياق كرة القدم وكأس العالم هي المنافسة المستميتة بين شبكات القنوات العالمية الأكثر ثراءً (والمدعومة من الحكومات الخليجية في منطقتنا العربية) لاحتكار بث البطولات العالمية، والتي جعلت من مجرد إشارة البث صناعة كاملة تقف وراءها جيوش من المحللين وسماسرة استديوهات التحليل، فقد ولت أيام العثور مصادفةً على مباراة للدوري الإيطالي مذاعة دون أي مقدمات على القناة الثانية في فترة الظهيرة في تسعينات القرن الماضي، وبالطبع لن تعود قناة الـNile TVلإذاعة مباريات الـChampions League كما فعلت سابقاً في أوائل الألفية الثالثة، قبل أن تنتبه باقي القنوات لشعبية هذه البطولة. كل ذلك صار ماضياً وحل محلّه احتكار الشبكات الكبرى التي صارت تقدّم خدمة مميزة لقاء مقابل كبير لا يقدر عليه البسطاء مستغلين الغياب التام للدولة عن توفير المتعة للمواطن.
السينما وتوثيق التحوّل
غير أن التغيّر الرئيسي لم يقتصر بالطبع على عملية التشجيع، ولكنه ضرب العصب الرئيسي لكرة القدم وهي البطولات وطريقة إدارتها والترويج لها. فيلمان تسجيليان – من ضمن الأفلام العديدة التي جعلت من كرة القدم موضوعاً رئيسياً لأحداثها- يوثّقان هذا التحول التدريجي الذي طرأ على ساحة كرة القدم والذي جعل منها صناعة يشوبها الكثير من الفساد بدءاً ربما، من ثمانينات القرن الماضي حتى وصل إلى ذروته في نهاية التسعينات. الأهم بالنسبة لي – واتساقاً مع الحدث الجاري الحالياً والذي يتابعه الملايين- هو ربط الفيلمين هذا التحول بدورتين من أهم دورات كأس العالم في التاريخ المعاصر كونهما- في رأيي وبغض النظر عن مستوى المباريات بهما- آخر بطولتين شابهما جزء من روح الهواية قبل أن تسيطر الصناعة والاحتراف على البطولات التي تلت. هاتان البطولتان هما بطولة إيطاليا 1990 وأمريكا 1994.
ليلة دامية في تورينو
الفيلم الأول وهو البريطاني “One Night in Turin” (أو ليلة في تورينو). والذي يؤدي الأداء الصوتي فيه الممثل الإنجليزي الشهير جاري أولدمانوهو من إنتاج 2010- يمكن التعامل معه كمجرد عمل يوثّق مشوار منتخب إنجلترا في كأس العالم 1990، وهي البطولة التي نالوا فيها المركز الثالث تحت قيادة المدرب الأسطوري السير بوبي روبسون، وهو أفضل مركز حققه الإنجليز على الإطلاق منذ وقبل فوزهم الوحيد بكأس العالم 1966 التي أقيمت على الأراضي البريطانية. ولكن “ليلة في تورينو” له جانب أعمق من ذلك التوثيق بكثير، وهو التعرّض لكيفية تحوّل كرة القدم الإنجليزية من رياضة تؤثر سلبياً على سمعة هذه المملكة العظيمة عالمياً بسبب عنف الجماهير الإنجليزية (الهوليجانز) إلى الدولة صاحبة الدوري الأكثر مشاهدة سنوياً في العالم.
فقد مثّلت كأس العالم 1990 المحطة الفارقة في مسار كرة القدم الإنجليزية. فقبل انطلاقها بخمس سنوات (مايو 1985 تحديداً) حدثت المذبحة الرياضية الاكثر شهرة وهي كارثة استاد هيسل. فعلى ملعب هيسل ببلجيكا، وعلى هامش المباراة النهائية لبطولة أندية أوروبا بين فريقيّ ليفربول الإنجليزي ويوفنتوس الإيطالي (ابن مدينة تورينو)، اقتحم الجمهور الإنجليزي حائطاً فاصلاً بين مدرجات جماهير الفريقين، مما أثار الرعب في قلوب الجمهور الإيطالي وأدى إلى تدافعهم وسقوط 39 ضحية من المشجعين (أكثرهم من الإيطاليين) بالإضافة إلى إصابة حوالي600 آخرين. وكان نتيجة لهذه الكارثة إيقاف الأندية الإنجليزية عن المشاركة في أي بطولة أوروبية، وصارت كرة القدم وصمة عار في جبين المملكة.
يبدأ الفيلم برسم صورة عامة للأحوال في إنجلترا، من خلال تصوير هذا العنف والربط بينه وبين الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها إنجلترا في تلك الفترة تحت حكم رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر صاحبة أعتى السياسات التقشفية اقتصادياً، والتي كان من نتاجها اندلاع مظاهرات عديدة ضد الحكومة، كان من أشهرها مظاهرات مناهضة لقرار تطبيق نظام ضريبي جديد (اشتهر بالـPoll Tax) أي ضريبة الرأس، تطوّرت إلى اشتباكات بين المواطنين والشرطة وكانت أشدها تلك التي وقعت في وسط لندن قبل ثلاثة أشهر من انطلاق كأس العالم.
https://www.youtube.com/watch?v=FRj2K0ulD8Q
ثم ينتقل الفيلم تدريجياً من الحالة العامة للأوضاع في إنجلترا (من غليان اجتماعي وسياسي مسيّطر على الشارع) إلى الحالة الخاصة بكرة القدم عبر مجموعة من مشاهد عنف الجمهور الإنجليزي، ثم يصل إلى المدخل الرئيسي الذي اختاره صناع العمل للتعرض للحالة الإنجليزية وهو منتخب كرة القدم واستعداده لمعترك كأس العالم من خلال نقل حالة أخرى من الغضب العارم موجّهة هذه المرة إلى المدير الفني بوبي روبسون والمشاحنات المستمرة بينه وبين الصحف الإنجليزية (التي تبدو إلى جانبها صحافتنا كحمل وديع لدرجة أن وصفها روبسون هي والقصص التي تختلقها عن فريقه بالزبالة).
إيطاليا 90: البطولة الفاصلة
هذا الانتقال المسلسل المتميّز كان نعم الوصف المتكامل للأحوال السياسية /الاجتماعية/الرياضية القاسية في بلاد الإنجليز قبل انطلاق البطولة وقبل نقل المشاهدين إلى مشوار المنتخب الإنجليزي في البطولة على الملاعب الإيطالية. فمن هذه الأجواء المشتعلة، يحملنا الفيلم إلى أجواء كأس العالم الاحتفالية في من خلال أرشيف ممتاز من اللقطات السريعة لوصول المنتخبات المختلفة إلى الأراضي الإيطالية يتقدمهم النجوم الأشهر مثل دييجو مارادونا ورود جوليت وماركو فان باستن ولوثر ماتيوس. ومع العودة مرة أخرى إلى المنتخب الإنجليزي تعود الأجواء المتوترة. حيث ينتقل المخرج (جيمس إرسكاين) سريعاً إلى جزيرة سردينيا التي اختيرت كمحل إقامة المنتخب الإنجليزي خلال البطولة. التحصينات المشددة والعدد المهول للعساكر الإيطاليين المخصصين لحماية الفريق والجمهور الإنجليزي أسّست مرة أخرى لما هو قادم من إثارة وعنف وشد عصبي صاحب مشوار منتخب بوبي والذي كان الجميع ينتظر سقوطه.
برشاقة يأخذنا الفيلم سريعاً من مباراة إلى أخرى في رحلة بدأت غير مباشّرة للإنجليز (بالتعادل مع أيرلندا ثم مع هولندا في دوري المجموعات) ثم بدأت في الصعود تدريجياً بدايةً بلقاء مصر (والفوز بهدف وحيد برأسية المدافع مارك رايت بعد التقدّم الأهوج غير المفهوم حتى الآن لشوبير، يليه الفرصة الضائعة بغرابة من جمال عبد الحميد) ثم الفوز على بلجيكا والكاميرون ليجدوا أنفسهم وقد أصبحوا على بعد مباراة واحدة من النهائي الذي لم يتأهلوا إليه منذ 1966. بين كل مباراة والأخرى كان المخرج يأخذنا في رحلة سريعة لنعيش عن قرب أجواء المعسكر الإنجليزي المرحة حيناً والغاضبة أحياناً أخرى كثيرة، خاصةً مع متابعة اللاعبين لهجوم الإعلام عليهم ثم بدء انقلاب هؤلاء لتشجيعهم بعد تحقيق النتائج الإيجابية، أضف إلى ذلك تصوير أعمال العنف التي ارتكبها الجمهور الإنجليزي بعد مباراة هولندا وتعامل الشرطة الإيطالية (الذي لم يقلّ عنفاً) معهم وترحيل عدد منهم إلى بلادهم، مما أثر على المعسكر الإنجليزي.
تورينو..بداية أم نهاية؟
وجد الإنجليز أنفسهم فجأة على خط النار. انتقلوا إلى مدينة تورينو لمواجهة الألمان في مباراة نصف النهائي. كان التحدي الأكبر ليس التغلّب على فريق بيكنباور الذي وصل إلى نهائي البطولة السابقة، ولكنه كان في لعب المباراة على أرض نفس تلك المدينة التي كان الإنجليز قد قتلوا عدداً من أبنائها (مشجعي فريق يوفنتوس) منذ سنوات قليلة. لم تكن الدماء قد جفت بعد ولم يكن أبداً الإيطاليون من هؤلاء الطيبين الذين سيفوتون تلك الفرصة التي جاءتهم للانتقام. وبالفعل اشتعلت المدينة قبل انطلاق المباراة ولم يكتف الجمهور الإيطالي فقط بأعمال الشغب تجاه الجمهور الإنجليزي ومعسكر اللاعبين ولكن أيضاً قام المنظمون بالتضييق على الإنجليز ومحاولة تحجيم حضورهم للمباراة. رغم ذلك، فقد مرت المباراة دون أي ضحايا. كان فريق بوبي روبسون هو الضحية الوحيدة فقد خسروا المباراة الدراماتيكية بركلات الجزاء الترجيحية بعد ماراثون طويل ليضيعوا فرصة تكرار إنجاز سابقيهم في عام 1966.
بين الدموع الشهيرة لبول جاسكوين لضياع حلم لعب نهائي المونديال (والتي نافستها في الشهرة في هذه البطولة دموع دييجو مارادونا بعد خسارة الأرجنتين للنهائي)، وبين الاستقبال الحافل الذي لاقاه المنتخب الإنجليزي من جمهورهم لحظة وصولهم للمطار، انتهت بطولة كأس العالم إيطاليا 90 بالنسبة للإنجليزبحصولهم على المركز الرابع. ولكن تلك الليلة في تورينو لم تكن مجرد نهاية لرحلة قصيرة لمنتخب ناجح، ولكنها كانت في عالم كرة القدم بمثابة بدايات لأشياء أهم. قد تكون بداية لانطلاق اللاعب الشاب مفاجأة البطولة للمنتخب الإنجليزي بول جاسكوين، وقد تكون أيضاً بداية نهايته. فجاسكوين – الذي ركّز عليه المخرج طوال الفيلم كنموذج للقوة الإنجليزية الصاعدة- كان له بالفعل وعلى غير المتوقع دور كبير في هذه النقلة الهامة للمنتخب الإنجليزي. غير أن نفس هذا الشاب المشاغب – الذي اشتهر بـ(جازا)- والقادم من بيئة شديدة الفقر انبهر سريعاً بالأضواء التي سلطت عليه واتجه لإدمان الخمور حتى خفت نجمه سريعاً بعد سنوات قليلة وغطت أخبار مشاكله مع زوجته وضربه لها ومعاناته مع الإدمان والمصحات على أخبار إنجازاته الكروية.
نفس الأمر يمكن أن ينطبق على مسار كرة القدم نفسها. فبطولة كأس العالم 90 كانت بمثابة قبلة الحياة للكرة الإنجليزية، فبسبب هذا الإنجاز (والتحسن الطفيف في أخلاق الجمهور الإنجليزي خلال البطولة) تقرر رفع الإيقاف عن الفرق الإنجليزية وسُمح لها بالمشاركة في البطولات الأوروبية في الموسم التالي. ولكن الأهم أنه بعد موسمين فقط انطلقت بطولة الدوري الإنجليزي بمسماها الجديد (English Premier League) وبتوجه وإدارة مختلفين. فقد صارت الأندية الإنجليزية هي نفسها المسؤولة عن إدارة البطولة من خلال رابطة للأندية، وصار الدوري شركة مساهمة تملك تلك الأندية أسهماً فيه. وكان الهدف من وراء ذلك كله هو جني الأندية المزيد من الأرباح – خاصةً من حقوق بث المباريات- وذلك في سبيل تحويل تلك الرياضة إلى صناعة رابحة مستغلة بذلك الشعبية الواسعة للعبة والتي كان يقف عائقاً أمامها شغب الجمهور الذي كان يتعامل بروح الهواية والعفوية المبالغ فيها في تشجيعه.
كان يلزم استثمار هذا الجمهور نفسه وتحويله إلى ركن من الصناعة وليس متفرجاً حتى يضمن اتقاء شره. وبالفعل نجحت الخطة الرأسمالية وانتشر هذا التوجه الكروي على نطاق أوسع – خاصةً بعد أن صار الدوري الإنجليزي هو الدوري الأكثر مشاهدة عالمياً- فحلّت بطولة الـChampions League محل بطولة أبطال أوروبا منذ عام 1992 من أجل توسيع قاعدة مشاركة الأندية وتحقيق مكاسب أكثر من البث التليفزيوني وذلك في خطوة استباقية من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم لإفشال خطة بعض الأندية الأوروبية للانسحاب من دوري الأبطال وتنظيم بطولة خاصة تجمعهم بحثاً عن أرباح أكثر، فصنع الاتحاد الأوروبي نموذجاً سنوياً مصغراً لكأس العالم ممثلاً في الـChampions Leagueوضمن ولاء تلك الأندية المتمردة بزيادة نصيب الأندية من أرباح البطولة.
ثنائية الفساد والرياضة
رغم التطوّر الرهيب الذي طرأ على كرة القدم كصناعة منذ سيطرة هذا الفكر الرأسمالي وازدهارها بشكل غير مسبوق بين متابعيها، إلا أن الخسائر المترتبة على هذا الأمر لم تقتصر على زوال روح البراءة والهواية بين عناصرها ولكن المشكلة الأكبر – كحال جميع الصناعات عندما تتغول وتخرج عن السيطرة- هي أن كرة القدم صارت تحمل بين طيّاتها أسباب دمارها. أحد الأفلام الهامة التي تناولت بشكل مباشر هذه المرة، وكيف يمكن لكرة القدم أن تتحول من رياضة ممتعة إلى مستنقع للفساد والقتال، هو الفيلم التسجيلي التليفزيوني “الإسكوباران” (أو الاثنان اسكوبار) للمخرجين الأخوين “زيمباليست” الذي أنتجته شبكة ESPN الرياضية الأمريكية عام 2010 ضمن سلسلة أفلام حملت اسم 30 for30 لتوثيق عدد من الشخصيات والأحداث الرياضية التاريخية. عُرض هذا الفيلم مؤخراً في مهرجان الاسماعيلية للأفلام التسجيلية (ضمن قسم خصص لأفلام تدور في عالم كرة القدم بمناسبة كأس العالم الجارية حالياً)، وكان الفيلم قد عُرض في مهرجان كان عام 2010 على الهامش فيما يعرف باسم سينما الشاطيءCinema de la Plage (وكتبت حينها عرضاً للفيلم في جريدة الشروق أثناء تغطيتي للمهرجان
http://www.masress.com/shorouk/230630
على العكس من “ليلة في تورينو” الذي قد يبدو إيقاعه بطيئاً بعض الشيء والذي قد تبدو قراءته المباشرة الأولى مجرد تأريخ لرحلة كروية، فإن “الإسكوباران” هو فيلم شديد الإثارة يكشف الكثير من الخبايا التي تجعل من المشاهد شديد التركيز مع خيوطه المتشابكة يحاول مجاراتها حتى تصله الصورة الكاملة لتلك العلاقات المتشابكة التي تتخفى خلف رداء كرة القدم.
“الإسكوباران” يدور حول اثنين من أشهر الشخصيات الكولومبية واللذان حملا نفس اسم العائلة “اسكوبار” دون وجود أي رابط عائلي بينهما. الأول هو “آندريس اسكوبار”،وكان من أفضل لاعبي كرة القدم الكولومبيين في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. والآخر هو “بابلو اسكوبار” وهو واحد من أكبر المسيطرين على تجارة المخدرات في كولومبيا، والتي اشتهرت لفترة طويلة بكونها الدولة الأعتى في تلك التجارة الممنوعة. الرابط بين الشخصيتين – بالإضافة بالطبع الى تشابه الأسماء- هو العلاقة بين كرة القدم (في كولومبيا كمثال) وبين رأس المال (ممثلاً هنا في تجارة المخدرات) وكيفية تأثير تلك الأموال على الرياضة وتحويلها من مجرد منافسة ذات طابع ترفيهي إلى مجال لغسيل الأموال وساحة للكثير من العمليات القذرة التي راح ضحيتها الكثير من الأبرياء.
الفيلم يسير منذ بدايته بالتوازي بين الخطين الرئيسيين له بالانتقال بين عالم كرة القدم الكولومبية لـ”آندريس”، وعالم المخدرات والعصابات لـ”بابلو”. الربط بين هذين العالمين المتعارضين كان بارعاً منذ بداية الفيلم، فتصوير النهضة الاستثنائية التي طرأت على كرة القدم الكولومبية في بداية التسعينات والمشاهد الأرشيفية لانتصارات الفرق المحلية على النطاق الإقليمي ونجاح هذه الفرق في إخراج جيل من اللاعبين المتميزين (مثل اسكوبار وفالديراما وأسبريا) والنجاح في الاحتفاظ بأغلبهم في الدوري المحلي. وتلا ذلك تفسير لهذا التطور المفاجيء بالتحوّل إلى الجانب المظلم للحياة في تلك الدولة اللاتينية وما أصابها من توسّع مبالغ فيه في تجارة المخدرات وفي نفوذ العصابات المسيطرة على هذا النشاط، والتي لم تكتف بما ترتكبه يومياً من جرائم قتل وترويع ولكنها أيضاً قررت تلويث عالم كرة القدم واقتحام هذا المجال كوسيلة لغسل الأموال القذرة الطائلة التي يتكسبونها من المخدرات. من هنا فقد ساهم دخول هذه الأموال الطائلة في حدوث هذه النهضة الرياضية الهامة خاصة مع اتجاه عدد من أباطرة المخدرات إلى تملّك الأندية ذات الشعبية في كولومبيا، وعلى رأسهم “بابلو اسكوبار” الذي اختار أن يضخ أموالاً طائلة في نادي “ناسيونال” (نفس النادي الذي كان يلعب به الاسكوبار الآخر) حتى أوصله إلى قمة أندية أمريكا الجنوبية.
يتابع الفيلم رحلة صعود الاسكوبارين. فاندريس صار لاعباً رئيسياً في تشكيلة المنتخب الكولومبي ونجح في قيادة فريقه إلى التأهل إلى كأس العالم 1994 بعد رحلة من التألق في التصفيات انتهت بانتصارهم التاريخي 5-0 على الفريق الأرجنتيني في بوينس أيرس. وبين خططه لللزواج من خطيبته والانتقال للعب في الدوري الإيطالي ضمن صفوف فريق ميلانو، انطلق اندريس اسكوبار إلى الولايات المتحدة باحثاً عن تحقيق أكبر إنجاز في تاريخ الكرة الكولومبية.
أما صعود “بابلو اسكوبار” فلم يكن فقط مقتصراً على عمليات تهريب المخدرات واغتيال المنافسين والساسة والقضاة ممن قد يفكرون للحظة في الوقوف في طريق تلك التجارة في كولومبيا، وإنما تضمنت رحلة صعوده أيضاً جوانب إنسانية بمساعدة بابلو الكثير من الفقراء ورعايته الكثير من المناطق العشوائية وتطوير مدارسها ومنشآتها الرياضية، مما صنع له شعبية ضخمة بين الطبقات الفقيرة مكّنته من الوصول إلى عضوية البرلمان الكولومبي.
لم يقتصر الترحيب ببابلو على الفقراء، ولكنه امتد أيضاً إلى لاعبي كرة القدم حيث اعتاد “بابلو” على دعوة اللاعبين إلى منزله ومشاركتهم لعب المباريات الترفيهية. وكان الكثير من هؤلاء يذهبون مرغمين فمن كان يستطيع أن يقف أمام رغبات هذا الزعيم الذي يهابه الجميع والذي كان بالإضافة إلى ذلك وليّ نعمتهم والمموّل الرئيسي لثورة كرة القدم الكولومبية؟
أمريكا 1994.. الانفجار
الحدث المفصلي الرئيسي في الفيلم هو – مرةّ أخرى- كأس العالم. هذه المرة من خلال الدورة التالية، وهي دورة عام 1994 التي دارت في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي راح ضحيتها “آندريس اسكوبار”. دخلت كولومبيا هذه الدورة وهي – على غير المعتاد- من الفرق المرشحة بقوة من الكثيرين (ومنهم البرازيلي بيليه) للمنافسة على الفوز بالبطولة وتحقيق نتائج إيجابية. كان الجميع مترقباً ظهور الفريق الكولومبي. إلا بابلو . فقبل انطلاق البطولة بستة أشهر كان قد لقى حتفه قتلاً على يد رابطة من العصابات المنافسة له. الحوارات التي يحتوي عليها الفيلم مع مجموعة من أكثر الناس قرباً إلى بابلو (منهم أعضاء في عصابته يقضون عقوبتهم بالسجون) توضّح مدى تردي الحالة الأمنية في كولومبيا في تلك الفترة ومدى انتشار الفساد وبيع الذمم في كافة أرجاء المجتمع.
انعكس هذا الأمر على لاعبي المنتخب الكولومبي المسافر للعب في كأس العالم بالولايات المتحدة. فبعد نقل الفيلم للمظاهر الاحتفالية المصاحبة لمهرجان كأس العالم، لم يطل الأمر قبل أن ندخل في الأجواء المتوترة المسيطرة على معسكر الفريق الكولومبي بالولايات المتحدة. لم يكن توتراً رياضياً مثل ذلك الذي عاشه الفريق الإنجليزي أثناء بطولة إيطاليا 90، ولكنه إحساس بالخطر على حياتهم وحياة ذويهم إذا لم يحققوا النتائج المنتظرة منهم في البطولة. كانت الضغوط تحاصرهم من كل جانب. أباطرة المخدرات يريدون المزيد من المجد والشهرة لأنديتهم ترفع من أسعارها وأسعار لاعبيهم في السوق فهم في النهاية الرعاة الرئيسيين لهذه النهضة الكروية. كما أنهم يريدون عائداً مادياً لتلك الاستثمارات يحصلون عليها من أموال المراهنات المتحكمة في صناعة كرة القدم.
وبالفعل، آتى هذا التوتر نتائجه، وجاء أداء الفريق الكولومبي مخيباً للآمال. ومع مع أول هزيمة للفريق الكولومبي (3-1 أمام رومانيا) وما تبع ذلك من خسارة لمن وضعوا رهانهم وأموالهم على هذا الفريق الصاعد، توالت التهديدات لأسر اللاعبين في كولومبيا بل وقّتل بالفعل شقيق أحد اللاعبين. وكان طبيعيا نتيجةً هذه الضغوط الرهيبة أن يصاب اللاعبون بالارتباك وأن يرتكبوا الأخطاء. وكان “اندريس اسكوبار” هو صاحب الحظ الأسوأ فارتكب خطأً ساذجاً في المباراة الثانية امام أصحاب الأرض (المنتخب الأمريكي) نتج عنه إحرازه لهدف في مرماه وخسارة فريقه أمام الولايات المتحدة ثم مغادرة فريقه للبطولة. ومنذ تلك اللحظة، صار اسكوبار محمّلاً من شعب بأكمله مسؤولية تحطيم آمال أمة بسيطة الأحلام. وكان الثمن باهظاً.
حوارات شديدة الصدق والحميمية يتضمنها الفيلم مع خطيبة وشقيقة اسكوبار وواحد من أقرب أصدقائه، توضح كيف تم الغدر بـ”اندريس” في “ميديلين” بعد أيام قليلة من عودة الفريق الكولومبي إلى بلاده وهو يجر ذيول الخيبة.
يوضح صديق “اندريس” كيف أن الأخير رفض الانعزال وفضّل مواجهة مضايقة وتهديدات الجمهور الكولومبي المتعصب في الشارع، وبالفعل خرج “اندريس” واختلط بجمهوره ولكنه وقع في يوم 2 يوليو ضحيّة لغدر أحد زعماء العصابات الذي التقى “اندريس” بالصدفة في احدى الحانات وعاتبه على الهدف الذي أحرزه في مرماه وكان نتاج هذا الشد والجذب ست رصاصات في صدر “اندريس” أردته قتيلاً في الحال عقاباً له على هذا الهدف (تم تحميل القضية بالكامل للحارس الشخصي لهذا المجرم وقضى عقوبة السجن نيابةً عنه، بل وخرج بعد عدة سنوات من السجن قبل انقضاء المدة بحجة حسن السير والسلوك.)
الفيلمان – ليلة في تورينو والاسكوباران- يمكن اعتبارهما حلقتين مكملتين، دون إحداهما لا تكتمل الصورة لعملية تحوّل كرة القدم من رياضة تنافسية ترفيهية إلى صناعة قذرة بالملايين تدهس كل من يقف أمامها حفاظاً على أرباح القائمين عليها. أضف إلى ذلك أن الفيلمين مرتبطان ببطولة كأس العالم التي نعيش أجواءها هذه الأيام. فالأول يوثّق للحدث الفاصل الذي ساهم في عودة الكرة الإنجليزية إلى مجدها وما تبع ذلك من تحوّلها إلى صناعة يتحكم فيها مجموعة من الأباطرة. بينما الفيلم الثاني يوضّح إلى أي مدى تسبب دخول رأس المال في رياضة مثل كرة القدم في تحويلها إلى أرض خصبة من الفساد والإجرام لم يسقط ضحيةً له سوى كرة القدم نفسها وممارسيها. فرأسمالية كرة القدم – مثلها مثل كل رأسمالية غير منضبطة- هي بداية نهاية تلك اللعبة (أو ما كانت لعبة).