“قماشتي المفضلة”.. رمزية الثورة السورية والأنثى
تفتتح المخرجة السورية غايا جيجي فيلمها “قماشتي المفضلة” بمشهد رمزي لمشاجرة عابرة تحصل في أي ميكروباص في سوريا، بين فتاة ترفض اغلاق النافذة وهناك من يطالبها بإغلاق الشباك بتكرار ممل.
ركاب الميكروباص يُلحّون على نهلة، بطلة الفيلم (تقوم بالدور منال عيسى) أن تغلق شباكها لأن الرياح القادمة من النافذة تؤذيهم وتجعلهم يمرضون وبالتالي سينشغلون عن أعمالهم وربما تؤذي أطفالهم، بينما تُصر نهلة على أنها مخنوقة وتحتاح لفتح الشباك، الذي ترى من خلاله في الجهة المقابلة للشارع شاباً ينتقل بين الغرف بشكل عادي.
من هذا المشهد تبدأ المخرجة سرد قصة بطلتها التي نفهم من افتتاحية سياق مشاهدها كم هي بحاجة لرياح التغيير في حياتها المنغلقة والمملة.
نهلة تعمل في محل لبيع الملابس في حي القصاع الدمشقي ذو الصبغة المسيحية، وهو ما ظهر بشكل واضح وعبر أكثر من لقطة قريبة تظهر لوحة اسم الشارع واسم المنطقة. وهي تنحدر من أسرة مسيحية تتكون من أم وثلاث بنات، بينما يغيب الأب تماماً. وهن يعشن في بناية تنتقل إليها الجارة الجديدة التي ستكون عاملاً أساسياً في تغيير الشخصيات. الزمان أيضاً وعبر لسان الشخصية هو مارس- أذار دمشق 2011، بكل ما يحمله ذلك التاريخ للسوريين جميعاً من رياح التغيير التي دخلت إلى بيوت السوريين جميعاً.
تتكون حبكة الفيلم من تأملات عميقة للبطلة نهلة وهي تتخيل عشيقها الشاب الذي يتوسلها دوماً كي تبقى بقربه ولكنها تدعي الانشغال، في مشاهد جميلة حالمة لصبية في مقتبل العمر يشكل الكبت الجنسي عاملاً أساسياً في تمردها على واقعها ورفضها لكل المحيط الذي تعيش فيه، ولكنها ومسايرة لرغبة أمها في انقاذ العائلة ومغادرة البلد الموشك على التداعي بسبب الاضطرابات والقمع الأمني، تقبل بلقاء (العريس) المقترح القادم من أمريكا، والذي قام بدوره الممثل سعد لوستان.
ولأنها ترفض الزيجات التقليدية وتبحث بشكل حثيث عن حب وهمي غير موجود تستعين بصاحبة البوتيك الذي تعمل فيه، وقامت بدورها المخرجة نفسها، من أجل الحصول على عطر يحتوي على (فورومونات) ذاع سيطها كحكاية متداولة في دمشق، بأنها تشعل رغبة الذكور في الاناث إن نشرت الفتاة على نفسها ذلك العطر.
وبالفعل تضع نهلة العطر على نفسها قبل أن تقابل العريس، ولكنها عبثاً تستطيع جعله يحبها أو أن يرغب بها، بل على العكس فهو يطلب من والدته أن تزوجه أختها التي من المفترض أن تكون أجمل منها.
وهكذا تشتعل نار الغيرة بين الأختين، المتمردة الحالمة الرافضة لواقعها، والقنوعة التي لا ترفض لوالدتها أي طلب. وليتعاظم الحدث، تبدأ الأم بقص وتقصير ثياب نهلة العرائسية وتجهيزها لتلاءم الأخت التي ستتزوج من الشاب القادم من أمريكا.
وفي مشهد حاسم بين نهلة والأم يعبر عن احتجاج نهلة مما تفعله أمها، تخبرها أمها بأن ما تفعله بهذه القماشات هو ما سينقذ العائلة من براثن الوطن المتهالك، أي وبمعنى آخر بأن ما ستقدمه الأخت التي ستتزوج، من جنس لذلك العريس القادم من أمريكا، هو ما سينقذ العائلة.
من هذه الزاوية يبدأ خط نزوح نهلة نحو الجارة التي تسكن فوقهم لنكتشف أن الجارة قد حولت بيتها إلى بيت دعارة تستقبل فيه رجالاً، منهم ضابط يمتلك سيارة مرسيدس سوداء ذات الرمزية العالية في سوريا، والذي يأتي إلى بيت الدعارة دوماً بثيابه العسكرية المبرقعة، والذي تفتتن به نهلة دون أن تدري لم.. لا وبل تتلصص عليه في لقاءاته الجنسية مع الفتيات في الغرفة الملاصقة لغرفتها التي تستأجرها نهلة من الجارة من أجل ممارسة الحب مع حبيبها الوهمي ، الذي لا يأتي.
لقد استثمرت المخرجة- الكاتبة في ثنائية الكبت والجنس، والخنوع والثورة بحيث بات الكبت الجنسي هو الكابوس الذي يطبق على أنفاس البطلة، والمحرك الذي يدفعها نحو أفعال راديكالية غير مفهومة، في الوقت ذاته الذي نرى المحيط الاجتماعي لبيت نهلة بأكمله في خنوع كبير للسلطة، رغم ما يرونه ويسمعونه ويشاهدونه في وسائل الاعلام والشوارع، من قمع فظيع وترهيب للأهالي، سيتحول إلى حرب أهلية وقذائف ونيران و براميل متفجرة. هذا الخنوع يقود عبر التقاليد والعادات إلى جنس مقونن، أشبه بدعارة مرخصة، ولكن ثورة الجنس التي ستقودها نهلة هي من ستقوض كل هذا.
لم تكن نهلة هي الشخصية الوحيدة المتمردة في العائلة، بل هناك الأخت الصغرى لين وما يملكه هذا الاسم من دلع ونعومة أنثوية، لكنها على العكس، فتاة بشعر قصير مثل الصبية حتى ليتشكك المشاهد بكونها أنثى في المشاهد الأولى في الفيلم.
ومع إعلان لين أنها كانت تتمنى لو ولدت كصبي، فإنها تعلن أنها قررت أن تولد كأنثى فقط لتزعج الأجداد في العائلة. إنها صرخة تمرد شابة من جيل إلى جيل، رغم أن حيوانها المفضل هو السلحفاة التي تقتل الوقت في التطور والتقدم، لكن لين هي الصوت المرتفع في هذه العائلة وهي من يحذر الأخت الكبرى من الزواج بهذه الطريقة وهي من تقف في وجه أمها على الدوام، وهي الشخصية الوحيدة التي تطالب بعدم الانعزال عن مطالب المجتمع والثورة، وضرورة الانخراط مع الشعب في مطالبه من أجل تحقيق عالم أفضل.
وحينما تقرر العائلة الخنوع التام للسلطة المجتمعية في العرس، تخضع لين، المتمردة، وتقرر أن تعود لشكلها الأنثوي عبر وضع وصلا لشعرها كي يصبح شكلها أقرب لشكل الأنثى المتعارف عليها، رغم كل ذلك تفشل تلك الفتاة في الكذب.
في كل هذا المخاض، تقرر نهلة أن تستدعي العريس إلى مقهى وتبدأ بمناقشته عن حياته، حتى تستطيع اغواءه بشكل كامل، وجلبه إلى غرفتها في بيت الدعارة في الشقة التي فوق بيتهم وممارسة الجنس معه قبل أختها، وإن أردنا الانقياد في سياقات الرموز و الدلائل، فيحب علينا أن نقرأ ربما ما أرادته المخرجة من العلاقة بين الجيل المكبوت و العريس الأمريكي، ورفض نهلة ممارسة الجنس مع الضابط العسكري السوري في بيت الدعارة في مشاهد سابقة، ذلك الضابط الذي تحول إلى شهريار الذكوري وهو يطلب من عشيقاته أن يقصصن عليه قصصاً قبل الجنس ويخص بالذكر قصة النبي يوسف وأخوته الـ11، ولكن نهلة ترفض أن تكون شهرزاد التي سيقتلها شهريار في كل مرة، وبالتالي ترفض ممارسة الجنس معه فيثور ويغضب ويبدأ بتكسير البيت خارجاً.
ربما هذه هي الثورة الخاصة بشخصية نهلة، وربما هذا ما أرادت المخرجة أن تسلط الضوء عليه، فالثورة أنثى كما تردد في ثنايا الثورة السورية، ولكن عن أي أنثى نتحدث، هل هي الأنثى المقموعة، المكبوتة، اللاهثة خلف عريس يأتيها من بلاد الأحلام، أم هي الأنثى التي تتماهي مع صورة البلد، التي ترفض مغتصبها العسكري؟
شريط جايا جيجي، شريط جريء ويحتاج للكثير من التأني في قراءته، وتحليله، ويحسب للمخرجة ذلك التكوين الجميل في المشهدية، وحركة الكاميرا، والميزانسين، والتصوير الممتاز، وتراكب الديكور مع التفاصيل الفنية التي تقودنا إلى فهم سكونية العائلة وخضوعها ، أما ما يؤخذ عليها فهو الكاست الذي كان على الدوام كاسراً للايهام من حيث اللهجة و الأداء البارد من بعض الشخصيات، ولو كان السيناريو أشد سرعة وايقاعية ووضوحاً، أو ربما جرأة، فالغموض أحياناً قد ينشأ من الرغبة بعدم المواجهة، لو كان ذلك، لكانت المتعة أكبر وأشد تأثيراً في فيلم “قماشتي المفضلة”.