“المذنبون”.. فساد المجتمع

Print Friendly, PDF & Email

عن قصة لنجيب محفوظ، يعد لها ممدوح الليثي السيناريو والحوار، يقدم المخرج الكبير سعيد مرزوق “1940-2014” فيلمًا من أنضج وأعمق وأجرأ ما قدمته السينما المصرية عبر تاريخها الطويل: “المذنبون”. الجنس ذو حضور قوي مؤثر في أفلام مرزوق السابقة واللاحقة، وبخاصة في قصيدته السينمائية غير المسبوقة “زوجتي والكلب”، لكن المعالجة عنده لا تقترن بالإثارة الفجة الرخيصة، كما يفعل صناع السينما التجارية، ذلك أن الجنس أداة لكشف وفضح وتعرية ما يعتمل في أعماق الفرد وأحشاء المجتمع من علل وأمراض.

لا ينفرد الجنس بصناعة وتشكيل التاريخ الإنساني، لكنه عنصر خطير الشأن لا يمكن إهماله أو إنكاره، ويتجلى ذلك بوضوح في “المذنبون”.

يبدأ الفيلم بجريمة قتل مروعة، ضحيتها الممثلة السينمائية سناء كامل، سهير رمزي. البحث عن القاتل يتطلب التحقيق مع المقربين منها المشاركين في السهرة الاحتفالية الأخيرة ليلة وقوع الجريمة، ويمثل هؤلاء عينة دالة من المجتمع المصري الحافل بالمفارقات والتناقضات.

سناء” امرأة متوحشة “على الصعيد الجنسي، فهي متعددة العلاقات في إطار الولع بالمتعة وليس الاستثمار والبحث عن المصلحة. الدليل الساطع يتمثل في علاقتها مع ممدوح فريد، عادل أدهم، محترف الجنس العنيف الذي يشبعها، فهي من تدفع له!.

https://www.youtube.com/watch?v=t1r76Vg7Hr4

في المقابل، يتسم خطيبها وقاتلها أحمد صابر، حسين فهمي، بوداعة مرضية تعانق العجز والمرض النفسي. يبحث فيها ومعها عن أمه: “فيك شبه كبير قوي من والدتي”، ويمكن القول إنه من بقايا الطبقة الأرستقراطية التي تتعرض للهزيمة الساحقة المهلكة بعد ثورة 23 يوليو 1952. لا يملك بعد الانكسار الموجع إلا التقوقع والرضا بالهوان، ثم ينتفض ويقتل كأنه يبحث عن خلاص ذاتي وتنفيس عن القهر الذي يتجاوز الفرد إلى الطبقة.

لا ينصب الاهتمام الأكبر لسعيد مرزوق على الممثلة الشرهة وخطيبها الهش، ذلك أنهما بمثابة “المفجر” الذي يكشف من خلاله عن آفات المجتمع المصري، ويؤكد أن التحول الجذري الذي تشهده مصر السبعينيات لا ينبع من فراغ، فهو الحصيلة المنطقية لتراكمات الفساد التي تزلزل أعمدة المجتمع وتطيح بركائز توازنه: التعليم، القطاع العام ومؤسسات الدولة الناصرية، الطب. أي منطق فى الحديث عن الأخلاق ومنظومة القيم التقليدية، في ظل الانهيار الشامل والفقر الذي يصنع أنواع الجرائم كافة؟.

ناظر المدرسة أليف البحراوي، عماد حمدي، شاهد على انهيار العملية التعليمية في مصر، وجوهر الأزمة كامن في الفساد البيروقراطي الذي يضع القواعد والمعايير الصارمة، ثم ينتهكها تحت راية المحسوبية وإهدار مبدأ المساواة. مسلحًا باللوائح والقوانين ذات القداسة المزيفة، يرفض الناظر أن يتجاوز عن درجة واحدة تحول دون التحاق تلميذ فقير بالمدرسة، ولا يصغى إلى رجاء الأم المثفلة بالأعباء:

“- يا ست أنا مش بإيدي حاجة.. مافيش استثناءات.

– دي درجة واحدة يا حضرة الناظر.

– إن شالله تكون نص.. الوزارة عاوزة كده.

– يعني الوزارة ما تجيش إلا على الغلابة.. وتتحكم؟.. ح أوديه فين أنا دلوقت.. أسيبه في الشارع.

– وديه خاصة..

– منين؟.. هي العيشة مستحملة عامة.. لما هاتتحمل خاصة”.

لا يملك الناظر أن يتساهل في درجة واحدة، لكن وصيفة الممثلة سناء تلحق ابنها بالمدرسة على الرغم من “سبع درجات” تفصله عن الحد الأدنى المطلوب، والتعليمات صادرة من مدير عام الإدارة التعليمية تليفونيًا، فما الذي تعنيه اللوائح إذن؟!.

لا يملك الناظر إلا أن يخضع لما يمليه الرؤساء، وبتردده على بيت الممثلة يحتك بعالم يفوق خياله الفقير. إنه مواطن صالح مثقل بالأعباء، وله جيش من الأبناء لا تنتهي مطالبهم واحتياجاتهم الضرورية الملحة، فهل يبدو مستغربًا أن يخضع لإغراء زميله المدرس القديم سامي الجعر، وحيد سيف، فيسرب الامتحانات بحثًا عن الثراء السريع غير المشروع؟!.

مدير الجمعية التعاونية الاستهلاكية فهمي القليوبي، توفيق الدقن، فاسد يستغل وظيفته لنهب الشعب والاتجار بالسلع الضرورية التي يحتاجها البسطاء والفقراء، الدجاج والسكر والصابون والكبريت. يستثمر هذا كله لتحقيق ثراء فاحش عبر الاتجار في السوق السوداء، ويهدر كرامة العاديين من الناس الذين ينفقون أعمارهم في الطوابير، ولا شيء يدفعهم إلى الثورة والغضب إلا التحرش الجنسي الذي يرونه ماسًا بالدين والأخلاق، كأن السرقة فعل مألوف لا يستدعي الاحتجاج والعمل الإيجابي.

تصل السلع الشحيحة إلى منزل الممثلة بكميات هائلة، وفي مطلع التحقيق معه يدافع المدير الفاسد عن سلوكه مخاطبًا ضابطي المباحث: “زبونة محترمة وحلوة.. طلباتها كتير بتزود الدخل القومي.. معقول برضه يا بيه أوقفها في الطابور وسط الزحمة.. سعادتكم عارفين الزحمة والي بيحصل فيها”!.

لن يعدم الفاسدون حججًا تبرر سلوكياتهم المنحرفة، وفي شخصية فهمي تتكامل الملامح وتنسجم، فهو حشاش سكير يتاجر في السوق السوداء، ويحرض على المشاركة في حلقات الذكر. قسوته متطرفة في التعامل مع زبائن الجمعية من عامة الشعب، ونفاقه بلا ضفاف عند التعامل مع الصفوة الذين تُرتجى منهم المصلحة.

المدير الصغير الفاسد لا يحتكر ساحة الفساد وحده بطبيعة الحال، وتكتمل المنظومة مع شخصية رئيس مجلس الإدارة حافظ، صلاح ذو الفقار. يسخر منصبه المرموق لدعم الممثلة عبر صرف مواد البناء لها، ويبالغ في كرمه مقابل الحصول على عدة شقق نظير خدماته:

“- بالطريقة دي تقدري تبني تلات عمارات بدل عمارة واحدة.. وبدل ما تحجزي لنا شقتين نخليهم أربعة.

– من عينيا الاتنين”.

شركة قطاع عام تستهدف مصالح الطبقات الشعبية، لكن المسئول الأول عن إدارتها ينحرف بالرسالة فيمنح من لا يستحق ويحرم المحتاجين، وهو المنهج نفسه في الجمعيات التعاونية الاستهلاكية. رجل كهذا لابد أن يكون فاسدًا في شتى المجالات، ولا يتورع عن التخطيط للإيقاع بمنى، زبيدة ثروت، زوجة صديقه المقرب الدكتور تحسين، يوسف شعبان، الطبيب الذي يحترف القيام بعمليات الإجهاض، المخالفة للقانون وشرف المهنة. مثل غيره من الفاسدين، لا يجد صعوبة في تبرير وتجميل جرائمة اللاأخلاقية: “خدمة إنسانية لإنسان في ورطة.. كان ممكن تنتقل لو أهلها اكتشفوا الحكاية دي”.

اللافت للنظر أن الطبيب الفاسد نفسه هو من يثور في الزنزانة ويعتدي على “صديقه” الذي ينتهك شرفه!.

الفقر، ذلك المفهوم النسبي المراوغ، يتحمل مسئولية المصائر التعيسة التي يئول إليها “المذنبون” جميعًا. قد يكون الفقر روحيًا في المقام الأول، كما هو الحال بالنسبة للممثلة والطبيب ورئيس مجلس الإدارة، وهو خليط من الروحي والمادي عند ناظر المدرسة ومدير الجمعية التعاونية، وليس مثل الطالبة الجامعية أمينة، حياة قنديل، في تجسيد هيمنة الفقر بالمفهوم المادي التقليدي. تأتي من طنطا للالتحاق بالجامعة، وتقيم في بيت الطالبات، وسرعان ما تعرف الطريق إلى شقة سناء كامل وعالمها الذي يتسم بالكثير من الانحلال والشذوذ. تجربتها فادحة مع المنتج السينمائي اللبناني إبراهيم المغربي، نبيل بدر، وفي حوارها مع الأب العجوز الطيب، عبدالوارث عسر، عندما يزورها في بيت الطالبات، ما يكشف الكثير عن ذلك العالم المختلف الذي تنتمي إليه:

“- المشرفة بتقولي إنك دفعت الإيجار يا بنتي.

– أيوه يا بابا.. أصلهم في الكلية ادوني عشرة جنية علشان أنا متفوقة.

– طب كنتِ ابعتيلي يا بنتي عشان أفرح معاك”.

لا تغيب عن الأب حقيقة إن ابنته ترتدي فستانًا جديدًا، ويقنع نفسه بأن الفستان أيضًا من نقود التفوق، وصولاً إلى الهدف الذي يحمل له الراحة التي يفتقدها، دون نظر إلى غياب اليقين وتهافت المنطق الذي يتكئ عليه: “دي حكاية التفوق دي هتحل كل حاجه.. أظن بعد كده مافيش داعي ابعتلك فلوس يا أمينة.. مش كده؟”.

بوهم مكافأة التفوق، يتخلص العجوز الفقير من مأزق المبلغ الشهري الذي يدبره بالاقتراض. يعي أن الأمر مريب، ويشم رائحة الخلل، لكن الفقر يذل أعناق الطيبين المحاصرين بالفاقة.

يخضع الجميع للتحقيق ويُدانون بتهم لا شأن لها بجريمة القتل، ما يفضي بهم جميعًا إلى الحجز في زنزانة واحدة، باستثناء الرجل الغامض الذي يمثل السلطة، كمال الشناوي، ذلك أن رموز السلطة فوق الجميع ولا يخضعون، وهم صانعو الفساد ورعاته، إلى ما يكابده صنائعهم.

يعتمد بناء الفيلم على الطابع البوليسي الذي يضفي أجواء الإثارة والتشويق، لكن الفيلم ليس بوليسيًا بالمعنى التقليدي الشائع للمصطلح. الرؤية قوامها سياسي اجتماعي، والوصول إلى القاتل أحمد صابر، أبعد المحيطين بسناء عن الشبهة، لا يعني شيئًا جوهريًا، ذلك أن الاكتشاف يأتي بعد الوصول إلى الذروة في تقليب التربة والكشف عن المخبوء المسكوت عنه.

يتفوق الممثلون جميعًا في أداء أدوارهم، لكن عماد حمدي وعادل أدهم وعبدالوارث عسر وتوفيق الدقن يتجاوزون الإتقان إلى التوهج. يخطفون الأبصار ويستوطنون القلوب، ويتركون بصماتهم وتأثيرهم الذي لا يغيب.

يثير الفيلم ضجة ويطيح بعدد من قيادات الرقابة، وتعلو نغمة الإساءة إلى مصر وتشويه سمعة المصريين، ما يمهد لمعركة لم تنته بعد حول حدود حرية الإبداع وحق التعبير عن هموم الواقع ومعطياته، وتلك قضية أخرى!.

Visited 105 times, 1 visit(s) today