“قدرات غير عادية”.. ثمن الحرية والبحث عن اليقين
أمير العمري
لا شك أن كل فيلم من الأفلام التي يخرجها المخرج المصري المرموق داود عبد السيد، يعتبر عملا جديرا بالمناقشة، فداود ليس كسائر المخرجين، بل هو مخرج من نوع خاص، فهو أولا نموذج مثالي للمخرج/ المؤلف الذي يكتب سيناريوهات أفلامه بنفسه لكي تعبر عن رؤيته الخاصة للعالم، كما أنه أيضا مخرج مثقف، مهموم بالقضايا الفلسفية والفكرية المجردة، وليس مشغولا بفكرة التسلية والإثارة.
يأتي فيلم داود “قدرات غير عادية”، إلى الشاشة العربية بفكرة جديدة، يتخذها مدخلا مجازيا للتعبير عن تلك الموهبة الخاصة الغامضة، التي – رغم فوائدها الظاهرة- يمكن أن تقلق وتزعج وتسبب الارتباك والاضطراب، ولكن الأهم، أنها ربما لا تكون قاصرة على صاحبها فقط، بل يمكن أن توجد أيضا لدى غيره لو أمكن رصدها واكتشافها، وليس قمعها ودفنها.
ربما تكون القدرة غير العادية التي هي أقرب إلى المعجزات، أو التي قد يراها الآخرون كذلك، رمزا متعمدا من قبل المخرج/ المؤلف، للإشارة إلى ضعفنا وعجزنا، بعد أن أصبحنا مستسلمين أمام سلطة غاشمة قاهرة، تقمع الفكر والحرية، تلفق التهم للأبرياء بعد أن تعجز عن الحصول على دليل ضد أصحاب المعجزات الفكرية الحقيقية.

في تاريخ السينما هناك فيلم بارز استخدم تلك “القدرة غير العادية” في سياق التعبير المجازي عن الرفض السياسي، هو فيلم “الطبلة الصفيح” (1978) للألماني فولكر شولندورف عن رواية غونتر غراس. وفيه يقرر طفل في العاشرة من عمره التوقف عن النمو، وينمي قدرة خاصة على تحطيم الزجاج، ليس فقط تعبيرا عن غضبه من علاقة أقامتها أمه مع رجل غريب، بل واحتجاجا على ذلك التحول الدرامي الكبير في ألمانيا مع صعود هتلر إلى السلطة، وتحذيرا من ذلك الصدام العسكري المحتم الذي وقع في الحرب العالمية الثانية.
انتهاك البراءة
في فيلم “قدرات غير عادية” نحن أمام بطل مثقف متأمل هو الدكتور يحيى المنقبادي (خالد أبو النجا) يجري بحثا عن أصحاب القدرات غير العادية، يقطعه أستاذه في الجامعة، ويطلب منه التوقف عن البحث والقيام بعطلة لمدة شهر يمتنع خلالها تماما عن الذهاب إلى الجامعة. هل كان قرار “الأستاذ” الجامعي مدفوعا بتعليمات من سلطة خفية؟
يتجه يحيى إلى منطقة على الساحل الشمالي قرب الإسكندرية، حيث يقيم في منزل بديع يطل مباشرة على البحر، تقيم فيه مجموعة من الأشخاص، يبدون ظاهريا- متنافرين في المشارب والأهواء، أولهم حبيب الله وهو الحارس النوبي ذو الاتجاه الصوفي الذي يرقص على البحر وحده في الليل ويتمايل وكأنه يذوب في الطبيعة تقربا إلى الله.
هناك أيضا السيدة “حياة” صاحبة المنزل (أو البنسيون) الذي تكشف ديكوراته عن ذوق فني رفيع، فـ”حياة” كانت رسامة، درست الفنون الجميلة على يدي أستاذها الدكتور راجي أحد نزلاء المنزل، لكنها انفصلت بالطلاق عن زوجها -كما سنعرف لاحقا من خلال مشاهد الفلاش باك- بعد أن اتجه الزوج الذي كان زميلها في الدراسة أيضا، إلى التطرف الإسلامي، فحرّم عليها الرسم، وأصبحت حياتها معه مستحيلة، فتفرّ حياة بابنتها “فريدة” وهي التي تمتلك تلك القدرة الخاصة العجيبة على تحريك الأشياء ومعرفة ما يحدث في أماكن أخرى، وربما أيضا التنبؤ ببعض الأحداث، وقراءة ما يدور في عقول الآخرين.
ومن بين الشخصيات هناك أيضا المنشد الديني الشيخ رجب، ومغني الأوبرا العجوز رامز الذي لا يريد أن يفقد صوته، فيمارس التدريبات الصوتية يوميا أمام البحر، وشاب إيطالي مخنث يدعى أنطونيو يقوم بعمل فيلم تسجيلي عن العاهرات في بلدان البحر المتوسط.
ورغم ما ينشأ بالضرورة من خلافات أو اختلافات بين أفراد هذه المجموعة، خاصة بين مغني الأوبرا والشيخ خلف، إلاّ أنهم جميعا أرسوا صيغة جيدة للتعايش، أساسها الحرية؛ حرية الاختيار والفكر.
إنها يوتوبيا داود عبد السيد المصغرة التي يريد للإسكندرية أن تكونها، أو لمصر كلها أن تستعيدها، لكن هناك من سيفسد هذه الأجواء المتسامحة البديعة، بقتل البراءة، ومحاولة تفتيت الشمل، وهو عمر البنهاوي ذلك الرجل الغامض، مندوب الأجهزة السرية التي تريد الاستيلاء على موهبة فريدة الصغيرة وتطويعها لأغراض السلطة، وبالتالي انتهاك براءتها وإفقادها الثقة في الآخرين ودفعها إلى الصمت.
البحث عن اليقين
يكتشف يحيى (الذي ربما يعادل يوحنا) المختلف عن أقرانه، الباحث الجاد عن الحقيقة، في شخص الطفلة فريدة ما كان يبحث عنه منذ سنوات، أي تلك القدرات الخاصة غير العادية، لكنها أيضا قد تكون قدرات موروثة من أمها حياة أصلا، وربما تكون كل لقاءاته مع حياة التي تبدو كما لو كانت بفعل المصادفة، في مقاهي ومطاعم الإسكندرية، لقاءات أرادتها حياة وجعلتها تصبح حقيقة، بل وربما يكون هو الذي يمتلك تلك القدرات الخاصة، فيعكسها على فريدة.
هذا البحث المعذب عن الحقيقة، يقود يحيى إلى شيخ لإحدى الطرق الصوفية، بعد تأمل طويل في تقاليد الذكر والتمايل على دقات الدفوف، للذوبان في كيان أكبر والتقرب بهذه الطريقة إلى الله، لكن شيخ الطريقة الصوفية يقول له إنه لا يصلح لأن يكون من بين هؤلاء الصوفيين، لأنه يمتلك عقلية مراقب، والمراقب لا يذوب في الجمع، بل يظل دائما يقف خارج الجماعة.

يرتبط “يحيى” بعلاقة حب مع “حياة” المترددة في الإقبال على هذه العلاقة رغم اللقاء الجنسي الذي يجمعهما، مرة واحدة ولا يتكرر، ثم يأتي عمر البنهاوي ممثل أجهزة الدولة المهووسة بالسيطرة، وبالمعلومات، لكي يستولي على حياة وينتزعها بالتحايل والإغواء والترهيب من يحيى، ربما أيضا طمعا في تطويع فريدة والحصول عليها لنفسه، فهو يشن أولا حملة لتفتيش البيت، ويعتقل حبيب الله بتهمة السرقة بعد العثور على مبلغ مالي كبير في حوزته، ولكن الرجل كسب المال من سباق الخيل، وكانت فريدة تساعده بتزويده بأسماء الخيول التي يمكن أن تفوز في السباق، لكنها لم تكن دائما محقة، فقد كانت تخطئ أحيانا.
الآن يعود يحيى إلى القاهرة، ويصاب في حادث سير بينما كان يحاول اللحاق بحياة التي تحايلت للهرب مع ابنتها من تعقب المراقبين الذين وضعهم عمـر فــي أثـــرهـا، فارتـدت النقـاب، لكنها استسلمـــت أخيــرا وقامـت بتسليـم نفسهـا للشرطة، بل لعمـر. يقضـي يحيى فتـرة في المستشفى ثم يغادر لكـي يعـرف مـن عمـر أنـه تـزوج مـن حيـاة، لكـن غضب فريدة ينفجر فتشعل الحرائق في منزل عمر وفي كل منزل تنتقل إليه الأسرة الجديدة، هذا الغضب هو نوع من الاحتجاج على تلك الزيجة التي حرمتها من الحياة في تلك الجنة المطلة على البحر، مع يحيى والآخرين.
يتخذ السرد في الفيلم مسارين: الأول من خلال ما يرويه يحيى بصوته، والثاني من خلال ما ترويه حياة في النصف الثاني من الفيلم بصوتها، هذا التداخل بين المسارين يتسبب في بعض الارتباك في الجزء الأخير من الفيلم.
ويستخدم داود عبد السيد فرقة السيرك التي تأتي إلى تلك المنطقة الساحلية، حيث يقع البنسيون للتعبير عن فكرة البهجة التي تواجه بالرفض من جانب قيادات الجماعة الإسلامية المتشددة، الذين يستغلون الأولاد الفقراء ويدفعون لهم لكي يقذفوا موكب السيرك بالحجارة ويرغمون الفرقة على مغادرة المنطقة، لكن الفيلم سينتهي نهاية سعيدة رغم ذلك وتعود الفرقة مجددا.

ويضفي داود بأسلوب إخراجه- نوعا من السحر البديع والخيال الخاص من خلال نوع من الواقعية السحرية، فالفيلم يدور في منطقة تقع بين الواقع والخيال. فليس من الممكن أن يكون هذا المنزل حقيقيا، بل هو كيان مجازي، وفريدة لا يمكنها القيام بما تقوم به، بل ربما تكون انعكاسا لخيال يحيى، والسيرك دخيل على المكان، فلم يعد هناك سيرك من هذا النوع يطوف تلك الأماكن. وعمر البنهاوي شخصية رمزية أكثر منها واقعية، وهو يتمتع بالكياسة والذوق الرفيع والقدرة على الإغواء بنعومة الثعبان، والأهم أنه يعيش في ظروف حياتية غير طبيعية من حيث الثراء والقدرات المالية، فهو قادر على الانتقال من قصر إلى آخر، ولديه القدرة على الظهور في الوقت المناسب وغير المناسب، والحصول على كل ما يرغب. ومع ذلك تهزمه براءة فريدة بعد أن تستخرج من داخلها قدرتها الخاصة على المواجهة التي تتخذ طابعا مجازيا أسطوريا، فلا هو يحصل منها على ما يريد، ولا يمكنه الاحتفاظ بـ”حياة” زوجة له.
تجسد شخصية عمر الشرّ والاستيلاء والترويع، ولكن في صورة شيطان ناعم، وعلى المستوى الواقعي هناك شيخ الطريقة الصوفية والمنشدون وجماعة الذكر، والجماعات الإسلامية المتشددة، ونماذج البعض من سكان المنزل مثل مغني الأوبرا والشيخ خلف. بل إن الشخصيات تتخذ أيضا أبعادا رمزية فـ”حياة” هي رمز للحياة بأنوثتها الطاغية وذوقها الفني، و”فريدة” هي فريدة في تلك الموهبة الخارقة التي تتمتع بها. والملاحظ أن داود يجعل “حياة” هي المرأة الوحيدة في الفيلم، التي تقيم وسط الرجال دون أن يتطلع أحد منهم إلى مغازلتها أو التقرب عاطفيا منها، فهي تقع بين الواقع والرمز، فهي “حياة” التي انفصلت عن زوجها بسبب تناقضها مع أفكاره، و”حياة” التي ترمز للتفتح وللحياة ذاتها، للرغبة في الحرية. ولكنها تمنح نفسها فقط، للرجل القادم من خارج المنزل، أي “يحيى”، فهو قد يكون رمزا لخلاصها الروحي.

شخصية الشاب الإيطالي المخنث أنطونيو الذي نعرف قرب النهاية أنه تعرف على عاهرة أحبها وأتى بها إلى البنسيون للإقامة معه، هي شخصية زائدة عن الفيلم، وكان يمكن ببساطة الاستغناء عنها، خاصة وأنها تكرر الصورة النمطية الهزلية عن الخواجة.
كان يمكن استبعاد بعض المشاهد من الجزء الأخير في الفيلم الذي استطرد فيه داود فوقع في بعض الثرثرة والتكرار والانتقالات المرتبكة من خلال المونتاج، بعد أن تقلصت الصورة لحساب الحكي الصوتي من خلال الحوار، فنحن نشاهد معظم ما جرى بعد زواج عمر من حياة، ثم انهيار الزواج بسبب الحرائق التي تسببت فيها فريدة، من خلال ما يقصه عمر على يحيى..
كان يمكن أيضا التخلص من الارتباك البادي في المشهد الذي نرى فيه يحيى في غرفته داخل المستشفى، وهو يقوم بإشعال الضوء بينما تبدو اللقطة مضاءة فعلا، ثم يستدعي الممرضة (نجلاء يونس) التي تقول إنها ستغادر العمل فورا، ولكنها تعود في لقطة لاحقة إلى غرفة يحيى، وهو نوع من الحشو الذي لا يخدم الفيلم.
البحر عند داود هو مخزن كبير للأسرار، وفضاء مفتوح يتسع للمناجاة والتأمل والوصول إلى الله في لحظات التجلي؛ على شاطئ البحر ينشد مغني الأوبرا منطلقا غير مبال باحتجاجات الشيخ رجب، وتسير حياة وحيدة تجمع القواقع وتفكر في ذلك الوافد الغريب المتأمل قليل الكلام، يحيى، وإلى البحر يهرع حبيب الله ليلا لكي يرقص وحده وهو في حالة نشوة. والبحر هو باستمرار أيضا، معادل للحرية. ومن ضمن الثيمات الرئيسية في فيلم داود، ثيمة الحرية، وهم الحرية، ومتى يصبح الإنسان قادرا على أن يشعر بحريته، وهل هذا ممكن في مجتمع يبدو أن كل ما فيه يحد من الحرية، حرسة الإنسان الفرد وحقه في الاختيار؟
يعود داود بين حين وآخر إلى البحر، إلى اللقطات الطبيعية في تلك البقعة الساحرة، وينهي فيلمه بتلك اللقطة البانورامية المتحركة الملتقطة من طائرة مروحية تطير على ارتفاع منخفض، وهي تحلق فوق البيوت المتناثرة على الشاطئ التي تسكنها أسرار كثيرة.

ويبرز دور التصوير كثيرا في الفيلم، واختياراته مع المصور الممتـاز مـروان صابر، كما يهتم داود كعادته بتنسيق قطـع الـديكور واختيار الإكسسوارات بدقـة، ما يعبـر عن الذوق الشخصي لحياة داخل البيت، ولأجواء التدين الصوفية داخل مقر شيخ الطريقة، وداخل منزل عمـر البنهـاوي المغـالى- عن عمد- في فخامة وحـداثة ديكـوراته، كمـا يستخـدم ببراعة توزيع موسيقى راجح داود على مقاطع الفيلم، وهي الموسيقى التي تعكس ذلك الغموض المحيط بموضوع الفيلم.
الأداء التمثيلي
أداء خالد أبو النجا في دور يحيى جيّد ومتماسك ومنسجم مع الشخصية، فهو يتقمص الدور في رصانة ويبتعد عن المبالغة في الحركة، بما يتسق مع شخصية يحيى المتأملة.
وتبرع نجلاء بدر في دور حياة (على نحو يذكرنا بجوليت بينوش)، فهي امرأة ناضجة، تتمتع بالجمال دون ابتذال حتى وهي بالملابس المكشوفة، قوية الشخصية، تقاوم الاستجابة للمشاعر والأحاسيس والرغبات، لكنها تستسلم في لحظة ضعف ثم تستفيق في النهاية وتعود إلى نفسها.
ويساهم أداء الطفلة مريم تامر في دور فريدة في إضفاء لمسة بديعة على مسار الفيلم كله، ولا شـك أن أداءهـا المتميـز الواثـق أمام الكاميـرا والكيميـاء التي تميز علاقتها بنجلاء بدر تعـود إلى جهد المخـرج نفسه.
“قدرات غير عادية” فيلم مختلف كلية عن المسار العـام في السينمـا المصـريـة، فهـو عمل رصين مشبع بالكثير مـن الأفكـار الفلسفية والـرؤى التأملية، وهو ينتمي إلى نوع خاص من الواقعية السحريـة، يعـرض بمهـارة موضوعه الكامن تحت جلد الصورة، الذي يدور حول الحـريـة والقهـر، عن تلك القـدرات غيـر العـادية التـي يمكـن العثـور عليهـا لدى أشخاص عـاديين تمـاما ربمـا لا نتوقع منهم أيّ شيء غيـر عـادي، ويمكن اللجـوء إليهـا عنـدما تقتضي الضرورة.
والفيلم أساسا، دعوة إلى إعمال الفكر في الكثير مما نلمسه حولنا، سواء على مستوى الوعي أو اللاوعي.
