فيلم “مكسور”.. والوهم الذي يلتفُّ حولك
على مدار قرابة الساعتَيْن إلا الربع ستكون على موعد مع الغموض والإثارة وكثير من الشكّ، وتحوليْن هامَّيْن. كل ذلك في فيلم “Fractured” والذي يعني مكسور، أو مشروخ. وهو من أواخر إنتاج الشركة الكبيرة نتفليكس التي تقدم الكثير والكثير من الأعمال في السنوات الأخيرة. وهي تفخر بهذا الفيلم، وتقدمه في إحدى مقاطعها الدعائيَّة. فهل يستحق أن يكون واجهة إعلاميَّة لها؟!
الفيلم من إنتاج 2019. للمخرج براد أندرسون والمؤلف آلن مكيلوري. ومن تمثيل بطل الفيلم الشهير “أفتار” الممثل سام ورذنجتن، و”ليلي راب” و”ستفين توبولفسكي”، وغيره. يأتي الفيلم في تصنيف الغموض والإثارة.
الفيلم يدور عن عائلة صغيرة مكونة من أب وأم وطفلة صغيرة. هذه العائلة تجد بعض الصعوبات الاجتماعيَّة، ويبدو من حديث الزوجين لَوْمٌ دائم تجاه الزوج لأنه لا يقدم الكثير من الدعم لعائلته. نتعرَّف عليهم وهم في رحلتهم على طريق صحراويّ في أيام الأعياد يريدون التوقف عند إحدى المحطات للتبضُّع وقضاء الحاجة. وفي أثناء انشغال الأم بالداخل، يحدث اضطراب داخل السيارة؛ ليضطر الأب إلى إخراج ابنته منها، ويبدأ في الانشغال هو الآخر. ثم ترى الابنة كلبًا ضاريًا وهي مبتعدة بعض الشيء عن أبيها. فتبدأ الطفلة في التراجع أمامه وهي لا تدري أن وراءها مكان عمل للبناء محفور. وعندما ينتبه الأب يحاول أن يعالج الموقف. لكن تسقط الابنة في موقع البناء، ويسقط وراءها الأب محاولاً الإمساك بها. وعندها تصاب الطفلة بكسر في الذراع. فيبدأ الأب في رحلته لعلاجها في مشفى قريب. وفي المشفى تقابله الكثير من العوائق، ويأتيه الكثير من الشكّ من سلوك الموظفين به. ويمضي اليوم حتى تتأكَّد شكوكه في صباح اليوم التالي حينما يصحو على مقعد الانتظار، سائلاً عن مصير زوجه وابنته؛ ليفاجأ بموظفة الاستقبال تؤكد له ألَّا وجود لزوجته وابنته في المشفى، ويبدأ المحيطون به في إقناعه أنّه جاء وحده بالأمس يطلب العلاج من جرح في رأسه. فهل سيستسلم بطلنا لقصة المحيطين به؟ أمْ يظل سائرًا وراء يقينه؟ أم أن يقينه وهم يلتفُّ حول عينيه ليُغمضها عن رؤية الحقائق؟ هذا ما يدعوك الفيلم لاكتشافه في دقائقه القليلة.
الفيلم يطرح قضيَّة أساسيَّة، تدور حولها تحولات الفيلم العديدة، ويُحرك من خلالها خطوط قصته. إنها خداع العقل البشريّ. فكما يقال دومًا: “نعمة العقل”. ونرى ثناءً طويلاً على العقل في الكتب؛ فهل يكون العقل نعمةً في كل حال؟!
اشتهر قول الفيلسوف الفرنسيّ الشهير “رينيه ديكارت”: العقل أعدلُ الأشياء قسمةً بين البشر. واعتمد على هذه المُسلَّمة في بناء اليقين في مذهبه الرياضيّ؛ فهل قُسِّم العقل بيننا ليهدينا للصواب؟ أم ليضللنا في الطريق؟ وهل هذا العقل دليلاً لليقين أمْ أنَّه كذلك طريق عميق للشكّ؟
الحقّ أن العقل إمكانيَّة، إمكانيَّة محضة. أيْ أنَّه ليس المُتحكِّم وحده إنه كتلة عظمى لمهارات قد لا تحصى. تتكيَّف هذه المهارات على أساس أشياء كثيرة أخرى. مثل: قناعات الإنسان الأساسيَّة، التي ترسَّختْ فيه من التعلُّم أو الخبرة العميقة، ومدى ما وعَّى الإنسانُ به نفسَه من معارف التي توسِّع من دوائر العقل أو تضيقها، وكذلك نفسيَّة الإنسان وما بها من تعقيدات لا حصر لها، أيضًا ما يرغب فيه الإنسان حقًّا. هذا بالقطع يشكِّل السلوك العقليّ العامّ. غير ما يحدث في الحوادث الطارئة والتي تظل ظروف حدوثها مؤثرة على سلوك العقل البشريّ، والقرارات التي سيتخذها. وهكذا فالعقل البشريّ كما هو طريق للصواب، سيكون طريقًا للإضلال. يحدث هذا وذاك على خريطة العقل الشاسعة التي تشبه كونًا كاملاً من الأسلاك المُتداخلة.
الفارق في ضلالات العقل أنَّها تتصوَّر للإنسان على أنها الحقيقة بعينها، لا شيء غيرها هو الحقيقة. حتى ترى الإنسان مُصرًّا على ما يفعله؛ لسبب بسيط قد لا يروقك أنَّه يظن هذا هو الصواب عينه. وهذا بدقة ما يدور حوله أحداث فيلمنا. “مكسور” ليس هو ذراع الطفلة، إنَّما هو عقل الإنسان.
القصة مُوحَّدة لا تفريعات فيها. قادها المؤلف بمهارة ودقّة. تدور أحداث الفيلم كاملةً في ليلتَيْن متصلتَيْن. في مكان واحد تقريبًا هو عدة أميال تفصل بين المشفى ومكان الحادث. وقد استطاع المؤلف أن يدير تعرُّجات القصة، مُركِّبًا إيَّاها تركيبًا دقيقًا. صانعًا أكثر من تحوُّل، أو “التواء” في سيناريو الفيلم. كما امتاز الحوار بالعمليَّة والملائمة للأحداث. إلا في المشاهد التي حاول فيها بثّ قضيَّة الفيلم فتحوَّل الحوار لنوع من الشاعريَّة الممزوجة بالعمق الفكريّ.
الإخراج في فيلمنا لمْ يقصِّرْ في تقديم كل الأدوات ليحقق لنا تجربة جيدة. تخدم الفيلم فيلمًا، وتعزز من فكرة الفيلم. لكنّ أبرز ما في فيلمنا عنصران رئيسان: هما التجربة التمثيليَّة العالية، والتجربة الفريدة من موسيقى الفيلم.
1- التجربة التمثيليَّة الجيدة: واضح من امتياز الجميع أنّ هذا العمل كرَّس له المخرج، واستطاع أن يصنع أداء تمثيليًّا يتكوَّن من الطبيعيَّة في الأداء التي ناسبت واقعيَّة المشاهد. ومن الأداء التمثيليّ الإيحائيّ الذي لمْ يخلُ لحظةً من لمسات المخرج نفسه. تستحق هنا تجارب تمثيليَّة عديدة أن يشار إليها، وأنْ يُشاد بها. منها بالقطع هذا الأداء عالي التميُّز من طاقم الممثلين الذين أدوا أدوار موظفَيْ المشفى وأطبائه. ويا له من تمثيل ذكيّ دار بينهم. هذه المسئولة عن الاستعلامات التي تطالعك بصوت يشبه صوت التعليق الآليّ في أجهزة الهاتف، وهذه الإداريَّة التي تجلس ببرود وإشارات ذكيَّة في عينيها وصوتها لتسأل الأب والأمّ: هل أنتما مستعدان لتسجيل ابنتكما على لائحة التبرع بالأعضاء؟! وهذا الطبيب الذي يعطيك الانطباع وضده في الوقت عينه، دون أن تحدِّد: هل كانت هذه نظرة خبث؟ أم أنها نظرة غير مبالية في لُطف؟! وتلك الطبيبة النفسيَّة التي تصدِّر لك محور الفيلم في هدوء وثبات، وغيرهم. ثم بعدهم يستحق البطل الإشادة.
2- التجربة الموسيقيَّة الفريدة: ويا له من إبداع موسيقيّ فريد. قاده الموسيقيّ القدير أنطون سانكو. حيث امتاز الفيلم بمسار موسيقيّ مُحكم. واستطاعت الموسيقى مسايرة كل التحوّلات في الفيلم، بل بمهارة شديدة استطاعتْ أن تخبرك سرًّا ماذا يحدث داخل النفوس في لحظات الشكّ. ولك أن تعلم أن المؤلف الموسيقيّ لمْ يتعمَّدْ اللجوء إلى تراكيب موسيقيَّة معقدة ليؤدي هذا الدور، لا بل فعل هذا كله عن طريق البساطة المنسابة المكونة من دقات آلة “البيان” المُفردة، والثنائيَّة، والمنغومة. وكذلك استخدم بعضًا من دقات “الطبل”. وكذلك يستحق اللحن الكامل الذي سيطالعك مع نهاية الفيلم أن تبحث عنه، وتستمع إليه بتمعُّن.
شيء أخير يستحق اهتمامًا ويستحق التحيَّة؛ هو دور مونتاج الصوت الذي يلفت الانتباه بشدة في مشاهد عديدة من الفيلم. هذه كانت نقاط ضوء على فيلم يتناول العقل البشريّ. ومثل هذه الأعمال الجديَّة ما أجدرها بالمشاهدة، والنقاش حول ما تضعه أمام عينيك من أمور، نحتاج دائمًا إلى النقاش فيها.