فيلم “مذكرات”: نوستالجيا غذت نقاش الحريات الفردية بالمغرب
* د. المهدي شبو
يُعَدُّ محمد الشريف الطريبق من المخرجين المُقِلّين في السينما المغربية، هو أيضا أحد المتمسكين بتقديم السينما الرفيعة رغم إغراءات السينما السائدة خصوصا عبر نموذجها الجديد «لايت كوميدي» الذي بَاتَ بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا لصُنَّاعه.
ومما يميز سينما الطريبق هَوْسُهَا بإعادة تشكيل الذاكرة ما خولها عشاقا كُثر سيما من السينفيليين ومن النوستالجين، الذين يحركهم الحنين لمغرب مضى ولن يعود.
برز ذلك في فيلمه الأول «زمن الرفاق» 2008 الذي ارتد فيه المخرج لعقد التسعينيات ليرسم صورة لنضال الطلبة في جامعة عبد المالك السعدي بمرتيل في نفس الفترة التي انتسب المخرج إلى أحد أسلاكها.
وفي فيلم «أفراح صغيرة» 2014 – عالج سعي المرأة المغربية للانعتاق ومعانقة الفضاء العمومي من خلال قصة فتيات من مدينة تطوان فجر استقلال المغرب،
في نفس السياق يندرج الفيلم الجديد «مذكرات»- 2024 الذي لا يَعْدم في اعتقادنا ذلك البعد الببيوغرافي، خصوصا وأن القصة تدور بمدينة العرائش شمال المغرب مسقط رأس المخرج، ما يُحيلنا على العلائق التي ربطها بعض المخرجين- المؤلفين مع مُدُنِهِم في السينما؛ ولنذكر تمثيلا لا حصرًا: فيلليني مع روما، سكورسيزي مع نيويورك، ويوسف شاهين مع الإسكندرية.
عن مفارقة «العنوان» في الفيلم المغربي مرة أخرى
لا أدري لماذا يُصِرُّ المخرجون المغاربة على تقليد إعطاء الفيلم عنوانين؛ أحدهما باللغة العربية والآخر باللغة الفرنسية وأحيانا باللغة الإنجليزية كما يفعل نبيل عيوش وفوزي بن السعيدي، ولو اقتصر الأمر على الأفيش لقلنا إنها الرغبة في التسويق، لكن العنوان مزدوج اللغة كثيرا ما يرد في صلب الشريط نفسه، وفي السواد الأعظم يكون أحد العنوانين مُعبّرا ودالاً والآخر بعيد عن قرينه في اللغة الأخرى.
لم يخرج فيلمنا عن هذا التقليد، فحمل في العنوان الفرنسي Journal intime؛ والذي يعني ذلك التدوين الذي قد يقوم به أي شخص ليومياته يومًا بيوم ويسجل فيه ما يعرض له في يومه، هذا المعنى عبَّر عنه العنوان العربي للفيلم ب “مذكرات” وهي ترجمة غير دقيقة. نشير فقط على الهامش إلى أن الكتاب المرجعي في هذا الصنف من كتابة السيرة الذاتية الموسوم ب Journal intime وضَعته الكاتبة الفرنسية بياتريس ديدي عام 1976، وترجمه الكتاب العرب الذين أحالوا عليه بـ “اليوميات الحميمية“؛ وهو التعبير الذي نرى أنه يفي بالمضمون الذي قصده المخرج- السيناريست؛ لأن المذكرات تُكتب عادة ممن لهم رصيد يمكن أن يستفز القارئ ويدفعه للقراءة كالكتاب والفنانين والرياضيين والمشاهير، أما اليوميات الحميمة فهي ضرب من الكتابة يمارسه أيا كان.
في جيل المخرج وكاتب هذه الكلمات، كانت كتابة اليوميات الحميمية شائعة في أوساط الشباب، وكانت في كنهها محاكاة لنمط الحياة الغربي، ألم يكتب الروائي المغربي أحمد المديني في كتابه (فتن كاتب عربي في باريس):«كتابة اليوميات ضرب من الاعتراف، وهو طقس مسيحي، لا قبل للمسلمين به، لا يؤمنون به، كما لا توجد في دينهم خطيئة أولى. قلت وكتبت مرات بأننا نحن أمة قول، بوح الذات فيها متعذر إلى حد كبير…».
عن الافتتاح والقصة والسيناريو
على عكس النزوع الشائع لدى المخرجين باستهلال أفلامهم بلقطات شاملة في فضاء مفتوح، يبدأ فيلم “مذكرات” بلقطة متوسطة من داخل فضاء مغلق؛ تصور شابًا يُطِلُّ من نافدة بيت، من النافدة نسمع أصواتًا يتجاهلها المخرج ويرمي بها خارج الحقل Hors- champs، سرعان ما يتبين المتفرج مُنْتظره ، وهي والدته التي تدلف إلى البيت محملة بقفة من المشتريات، على مقربة من الباب نصبت آلة خياطة ميكانيكية؛ هي أول إيحاء حول الوضعية الاجتماعية للأسرة، أو لم تقترن آلة الخياطة دائما بالأرملة المكافحة، يتبع بطلنا والدته إلى المطبخ تضع الخضر معلقة على الغلاء : “على أي شيء وضعت يدك تجد الغلاء”؛ إشارة ثانية تؤكد أن السيدة تعاني، تعززها إشارة أخرى حين تعتذر عن تلبية طلب ابنها بتمكينه من بعض الدراهم .
رغم كل ذلك، ينم هذا البيت الشمالي عن ذوق رفيع، حيث أثاث بسيط يتناسق مع الفضاء العام للبيت الذي يتداخل فيه اللون الأزرق والأبيض المميز لمدينة العرائش.
يستغل بطلنا دخول شقيقته إلى الحمام ليلج غرفتها.. على الجدران صور لكلود فرنسوا وأخرى لنجوم المنوعات الفرنسية وبالخصوص بوسترات للمطربة مادونا خصوصا من ألبومها «Who’s That Girl».
لا مراء أن الفيلم بهذه الإشارات يضع المتفرج في قلب عقد الثمانينيات من القرن الماضي. يستولي بطلنا على دراهم معدودات من محتويات حصالة شقيقته ليتوقف هذا الشق من السرد الذي استغرق ما يقارب عشر دقائق استطاع خلالها المخرج أن يأسر المتفرج بتحريك البطل في هذا الفضاء المغلق مستثمرا هندسة البيت المتسمة بسخاء في التقسيم الداخلي للغرف، ثم يأتي رنين الهاتف الثابت أحد الإكسسوارات الدالة على عقد الثمانينيات ولعبة التناوب على رفع السماعة بين الشقيقين لخلق نوع من التشويق على الطريقة الهتشكوكية.
نتعرف على اسم بطلنا أحمد (يوسف شغايش) الذي يتلون كلية، فقد انسلخ من الشعر الكث والشارب واللحية القصيرة المحيطة بالدقن، وأضحى حليقا أنيقا، بالطبع لن يجد المتفرج عناء في التخمين أنه على موعدٍ غرامي. وعبر وساطة أحد أصدقائه يقصد نور الدين (مسعود بوحسين) شاب بوهيمي يعيش وحيدا بعد هجرة أسرته عقب حادث مأسوي والمطلوب أن يعيره شقته لقضاء بعض اللحظات الحميمة رفقة فتاته هدى (أنيسة العناية) التي لم تعش مثله مغامرات، وبعد جهد جهيد يلجان الشقة لتبدأ طقوس لعبة الإغواء واكتشاف بشائر اللذة الأولى، نقف عند هذا الحد لنترك المتفرج يكتشف باقي الأحداث التي لا تحتمل حرقها.
يندرج الفيلم ضمن أفلام الكثافة السردية والزمنية التي تستغرق جزءا من اليوم والليلة، إذ يبدأ حوالي الحادية عشرة صباحا وينتهي في الهزيع الأول من الليل.
عن تحدي سينما الفضاء المغلق
تعتبر سينما الفضاء المغلق من رواسب المسرح في السينما؛ فكثير من الأفلام التي لا تخرج إلى الفضاء المفتوح مقتبسة من المسرح حيث يتحد الزمان والمكان والحركة، وفي الغالب يُرْكَب هذا النوع الفيلمي لأسباب اقتصادية مَرَدُّها الموارد الإنتاجية القليلة، بالمقابل يعتبر هذا الأسلوب من أصعب الأساليب التي لا يطرقها إلا المخرجون المتمكنون من أدواتهم، لأنه محكوم بالتقييد المكاني عكس سخاء التصوير في الفضاء المفتوح مع ما يتيحه من حرية الحركة.
في الفضائين المغلقين في الشريط : الشقة العائلية للبطل وشقة نور الدين حيث دار القسم الأكبر من الأحداث ، حاول المخرج أن يخلق إحساسا بالمكان لدى المشاهد من خلال الاشتغال على الديكور وإبراز جماليات التصوير بالفضاء المغلق بكل إكراهاته التقنية ، مشتغلا على سيكولوجية الشخصيات ، فالفيلم ذوعمق نفسي؛ لأنه رام ببساطة تصوير رغبة الجنسين في بعضهما وهي مهمة ليست باليسيرة ولا ندّعِي أن الفيلم نجح فيها، لأنها تتطلب اشتغالا وتأملا كبيرين، فقد تعطي هذه التيمة لعشرات المخرجين، فتخرج في الأخير بعشرات المعالجات فد لا يشبه بعضها الآخر .
من الصعوبات التي واجهت الفيلم الارتفاع بإيقاعه بطريق الإثارة والتصاعد كما يجري العمل بذلك في مثل هذه العينة، والمتفرج العادي الذي لا يستمتع قد يجد الفيلم بطيئا، وربما لهذا السبب جاء مشهد الاغتصاب في الشارع العام ليخلق ذروة افتقدها الفيلم في العلائق بين شخصياته الرئيسية.
في التصوير داخل الفضاء المغلق وإدارة الممثلين داخله، كان المخرج وافيا لنهجه المعهود في توظيف الكاميرا الثابتة مع تركيز على اللقطة المتوسطة، دون إقصاء اللقطة المتسلسلة plan-séquence، مع اقتصاد كبير في تقنية الحقل والحقل المضاد التي باتت الحمار القصير سهل الامتطاء بالنسبة لكثير من مخرجينا. وُفِق المخرج في تشكيل كادراته، وحتى في ظل الكاميرا الثابتة، عرف كيف يدير ممثليه داخل الفضاء المغلق من خلال تنويع زوايا التصوير وتوجيه الممثلين في دخول الكادر والخروج منه.
لتفسير هذا الأسلوب، وبغض النظر عن القصة والسيناريو، نرى أن المخرج المغربي يعيش فترة عطالة بين تنفيذ فيلم والبحث عن التمويل للفيلم التالي، أحيانا تقصر هذه الفترة لكنها تطول في حالات كثيرة، عاش مخرج الفيلم مثل هذه الأوضاع، وكان يكسر هذه العطالة بالاشتغال في التلفزيون حيث يسود الفضاء المغلق بتقنياته، فكان ذلك أول توجيه، أما التوجيه الثاني فغير بعيد عن طيف الفريد هيتشكوك المُعَلّم الكبير في هذا الصنف والذي لم يكن المخرج يخفي تأثره بأسلوبه التقني.
الفيلم ونقاش الحريات الفردية في مغرب اليوم
بغض النظر عن الجانب المتعلق بعلم النفس في ثيمة الفيلم الذي هو الرغبة، هنالك جانب متصل بعلم الاجتماع يتعلق بظاهرة مجتمعية هي ” البرتوش” الذي يعني بالدارجة المغربية ذلك الفضاء الضيق – شقة صغيرة كانت أم غرفة حقيرة – الذي يقصده الشباب من الجنسين لممارسة مُتَعِهِم الممنوعة بعيدا عن أعين المتلصصين وحماة الأخلاق العامةوالشرطة.
يُعَدُّ ” البرتوش” من الظواهر التي ارتبطت بنقاش الحريات الفردية بالمغرب الذي تفجر بالخصوص، بعد الربيع العربي ودستور 2011، إذ خرجت حركات كثيرة تستند إلى الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب والقيم الكونية لحقوق الإنسان لإقرار مزيد من الحريات الفردية تراوحت بين السماح بالمجاهرة بالإفطار في نهار رمضان ورفع التجريم عن العلاقات الرضائية خارج مؤسسة الزواج، واتخذ النقاش أبعادا حقوقية حين أثاره نائب بالبرلمان المغربي، واستبق دُعَاتُه طرح مشروع مسودة القانون الجنائي الجديد للمطالبة برفع التضيق عن الحريات الفردية .
يخرج الفيلم إلى الصالات في خضم هذا النقاش المجتمعي المحتدم ليغذيه، في وقت لايزال هذا الجدل ساخنا ومحتدما، ولاشك في أن المغرب سيضطر إلى تقديم مزيد من التنازلات في هذا المضمار، وهو يستعد لاستقبال العالم في 2030 بمناسبة فعاليات كأس العالم فيفا لكرة القدم.
أصرًّ السيناريو بوعي أو من دونه على تجاهل مظاهر الرقابة التقليدية على الحريات الفردية، فإذا استثنينا الجارة الفضولية المتلصصة، والعريضة التي قال أحمد إن سكان العمارة كتبوها ضد نور الدين، لم نرى ولو طيف شرطي ولا اظهر الفيلم ذلك النموذج النمطي لحماة الأخلاق الذي استهلك في السينما المغربية وهو السلفي الملتحي دو الوجه المتجهم، ما يحسب للفيلم، لأن إبراز الإحساس بالرقابة أبلغ من الناحية الفنية من إظهارها جاحظة.
من الثيمات التي حضرت في الفيلم قضية تحرر المرأة التي لم تكن غريبة عن سينما المخرج، و بموازاة هدى الشخصية الرئيسية، حضرت قصص على هامش القصة لنسوة تقاطعت وضعيتهن مع وضعية البطلة منها: شقيقة أحمد التي نكتشف من مذكراتها الحميمة قصة حب تخفيها عن محيطها الصغير، المومس المبتسمة المقبلة على الحياة التي تعيل ابنتها الصغيرة، نور الهدى شقيقة نورالدين صاحبة المذكرات في الفيلم التي انتهت قصتها الحالمة نهاية مأساوية ، خطيبة نور الدين الغيورة التي مضى بها العمر تنتظر خطيبها البوهيمي المنغمس في ملذاته، التلميذة جارة نور الدين التي تعاني من رقابة أب محافظ ومتسلط ، ربما لم تخرج من هذا الخط الناظم سوى الجارة الفضولية المتلصصة التي تحشر أنفها في حياة الآخرين.
أضواء عن الإنجاز السينمائي العام في الفيلم
أول ما اشتغل عليه الفيلم استحضار أجواء الثمانينيات من خلال اللباس والديكور والإكسسوار، وفي بعض مناقشاته على هامش العروض الأولية للفيلم ببعض المهرجانات السينمائية بالمغرب، أشار مخرج الفيلم إلى أنه أعاد تهيئة الشقتين اللتين صور بهما من الصفر، ونخمن أن تكون ميزانية الفيلم وراء الإحجام عن إبراز كثير من أجواء المرحلة خصوصا في أماكن التصوير الخارجي.
من الخيارات الجمالية التي غامر الشريط بركوبها؛ تقديم فيلم كامل دون موسيقى تصويرية، مند البداية تعاقبت بيانات الجنريك بخط تراثي بديع على خلفية سوداء صامتة، وفي مشهد الختام حين تعود البطلة الى بيتها بالليل في تاكسي تؤدي مونولوجًا حزينا مرسلا دون موسيقى ولا إيقاع، وفي المواضع التي تستدعي الموسيقى، كان يستعاض عنها بالسماح للممثلين بالتعبير عن احساسيهم بقسماتهم وبإيماءاتهم، ونعلم أن كثير من السينمائيين في العالم وليس في المغرب وحده يتخذون الموسيقى التصويرية عكازا يتكئون عليه حين يفشل التعبير البصري في اللحاق بالموقف الدرامي .
ركزت الكاميرا كثيرا في دورانها بين مكونات الشقتين على الساعات الحائطية، ولنا قراءة وتأويل؛ في الشقة العائلية ليوسف ساعة حائطية خشبية أسفلها زجاجة شفافة تظهر بندول Pendule كان يتحرك بجنون في دلالة على استعجال مرور الزمن بسرعة للقاء الحبيب، أما في شقة نور الدين حيث تم اللقاء فثمة ساعة حائطية متوقفة عند الساعة الواحدة وخمس وثلاثين دقيقة طيلة الوقت، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن أحمد قد أخبر نور الدين صاحب الشقة أنه ضرب الموعد مع فتاته على الساعة الواحدة، يكون المقصود في اعتقادنا باديًا ، وهو أن الزمن توقف تماما بلقاء الحبيبين.
نأتي للحوار الذي نرى أنه من النقاط المميزة في الفيلم، ونعلم أن هناك ثلاث مدارس رئيسية في حوار السينما المغربية وهي: المدرسة المراكشية (نسبة إلى مدينة مراكش)، وتعتمد حوارا يعتمد الفكاهة وروح النكتة التي يشتهر بها أهل مراكش، ثم مدرسة الشاوية (الدار البيضاء ونواحيها) وتستند إلى الحوار العنيف والبذيء بداءة حاضرة الشاوية الصاخبة، فمدرسة شمال المغرب المعروفة بحوارها الرومانسي اللين Soft، وقد جاء الفيلم وافيا لهذه التقاليد الشمالية في الحوار، إلا أنه تميز بالاقتصاد والإيجاز الكبيرين بعيدا عن ثرثرة التلفزيون التي نجدها مع الآسف في كثير من أفلام السينما المغربية والتي لا يمكن إلا أن تحد من التلقي البصري الذي هو جوهر السينما .
في مشهد الختام، تتفرق السبل بين الحبيبين، وتسير هدى في الطريق تغالب دموعها، وتتذكر كلمات من مذكرات نور الهدى الفتاة التي استوحى الفيلم عنوانه من مذكراتها؛ حين تتحدث عن تجربتها الجنسية الأولى وتعتبرها ولادتها الثانية بعد الولادة البيولوجية التي جاءت بها إلى العالم، فهل تأثر السيناريست وهو يكتب بالكاتب حسن أوريد حين رد على صحفي مشهور: “ليس يضير الحسناء أن تفتض بكارتها بل ذلك قدرها لتفيض بالحياة وفق علاقة شرعية معلومة“.
لا يمكن لفيلم من أفلام التصوير في الفضاء المغلق، إلا أن يستند على التشخيص، وهنا لم يستعن الفيلم بنجوم الأفيش ربما للتقشف الإنتاجي، وإنما اعتمد على ممثلين من شمال المغرب قَدِمَ أغلبهم من المسرح وبدل المخرج جهدا طيبا في إدارتهم.
أكد مسعود بوحسين (نور الدين) مكانته، وهو العائد ليشتغل مع المخرج بعد أن جمعهما الفيلم الأول «زمن الرفاق»، وكذلك البطلة أنيسة العناية التي أدت أبرز أدوارها في السينما، وتفوقت على نفسها في إبراز مشاعر ما بعد الاغتصاب، جاهد الممثل الشاب يوسف شغايش في أن يقف أمامهما، فقدم مجهودا طيبا يتماشى مع المطلوب من شخصيته في الفيلم، وأعطى المخرج الفرصة لبعض الأسماء في الظهور في أدوارها الأولى كما الممثلتين اللتين أديتا دوري الأخت والمومس.
الحصيد الأولي
حتى كتابة هذه السطور لم يخرج الفيلم للعروض التجارية، وعُرض في بعض المهرجانات وفي بعض العروض الخاصة والتي كان كاتب هذه الكلمات أحد المحظوظين الذين وَفّرت لهم فرصة مشاهدة العمل. في أول خروج للفيلم بالدورة 29 من مهرجان سينما البحر المتوسط بمدينة تطوان، نالت الممثلة أنيسة العناية جائزة أحسن ممثلة من لجنة تحكيم ترأسها المخرج الفلسطيني القدير إيليا سليمان ما قد يشي بالمجهود الذي بدلته في أداء الشخصية ولكن كذلك بالدورالذي لعبه المخرج في إدارة ممثليه، في الدورة 24 من مهرجان الفيلم الوطني بطنجة حصد محمد الشريف الطريبق جائزة الإخراج وهي تقدير وازن، يكفي التذكير فقط أنه في بعض دورات مهرجان كان الدولي للفيلم كان العمل الذي ينال جائزة الإخراج أفضل من فيلم السعفة الذهبية نفسها. في ذات التظاهرة حصل الفيلم على جائزة الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، ونعرف نحن عشاق السينما بالمغرب أن هذه الجائزة – التي ليست لها إلا قيمة رمزية – هي جائزة السينفيليا، وفي كثير من دورات هذا المهرجان أتت الجائزة كاحتجاج من سنيفيلي المغرب على بعض الاختيارات السريالية للجن التحكيم.
على امتداد ستين سنة، ظل المخرجون المغاربة يتحججون بضعف الإمكانيات المادية كلما وُجِهُوا بضعف مُنْجزِهم، لكن فيلم «مذكرات» الذي نُفذ بميزانية إنتاجية بسيطة إذا ما قورن بمتوسط ميزانيات الأفلام المغربية في السنوات الأخيرة، يؤكد بالملموس أن أزمة السينما بالمغرب أزمة خيال وإبداع قبل أن تكون أزمة إمكانيات مادية.
* كاتب من المغرب