فيلم كلينت إيستوود الجديد “ريتشارد جويل”: كُلّنا هذا الرجل
عندما تطالع مجلد المسرحيات القصيرة للأديب العالميّ “برنارد شو” ستجد مسرحيَّة مثيرة ومضحكة جدًّا، ومليئة بروح السخريَّة المريرة اسمها “أغسطس يؤدي عمله”ـ تحكي عن “أغسطس” موظف مخلص أمين مجتهد، مثال للمواطن الصالح في زمن الحرب. يأتيه اتصال من رئيسه ليحذِّره فيه من جاسوس يريد أن يسرق منه وثائق خطيرة في إدارة “أغسطس”. فينتبه “أغسطس” بشدة، ويقف ليقول لرئيسه بمنتهى الحماس: لا تخشَ شيئًا سيدي البلاد في يد أمينة.
ثم تأتيه مفتشة للمراقبة على الوثائق وسريَّتها، ويدور حوار طويل جدًّا بينها وبينه في منتهى الكوميديَّة يظهر حماسًا عميقًا من “أغسطس” لوطنه، ويغرقنا في موجات الضحك. إلى أن تطمئن المفتشة على سير العمل، وزيادةً في الاطمئنان تأخذ الوثائق معها. وهكذا نرى “أغسطس” يجلس هادئًا شاعرًا بأنَّه أدَّى واجبه حيال الوطن. إلا أن هدوءه يتعكَّر حينما يعلم أن المفتشة هي الجاسوسة التي حذره منها رئيسه، وأنَّه من أعطاها كل الأسرار وبقمة الحماسة. وبعد هذه القصة يطيب لي أن أعرِّفك على “ريتشارد جويل” بطل فيلمنا.
فيلم “ريتشارد جويل” Richard Jewell خرج إلى النور في شهر ديسمبر 2019. وهو من إنتاج شركة وورنر، وإخراج المخرج والممثل المُخضرم كلينت ايستوود، ومن تأليف بيللي راي. قام ببطولته بول والتر هوسير، سام روكويل، والممثلة الكبيرة كاثي بيتس.
الفيلم عن حادثة حقيقيَّة وقعت في المجتمع الأمريكيّ في التسعينيات حينما قام أحد الأمريكيين بوضع حقيبة بها قنبلة موقوتة في أحد المُتنزهات العامَّة أثناء بطولة الألعاب الأوليمبيَّة في مدينة “أتلانتا” عام 1996. وكان في المنتزه فرد أمن من ضمن أفراد كثيرين اسمه “ريتشارد” أرتاب في الحقيبة، وبدأ يبلغ أفراد الشرطة بوجود حقيبة مشبوهة وبشكِّه فيها. وبفعل إلحاحه يبدأ الجميع في الشك، ويقوم “ريتشارد” بإجراءات إبعاد الناس عن المكان، وإخلائه قدر استطاعته. وفي أثناء إخلائه يقع الانفجار.
عند هذه النقطة ينظر الجميع إلى “ريتشارد” نظرة البطل الذي أنقذ أرواح المئات من الهلاك، وتبدأ الصحافة في اصطياد غنيمة السبق مع البطل الهُمام. وبعد أيام قلائل تنشر صحيفة كلامًا مُغايرًا تمامًا. توجه فيه أصابع الاتهام الواضح لـ”ريتشارد” نفسه، مُصرِّحةً بأنَّه مَنْ دبَّر هذه الحادثة ليصير بطلاً. فتنقلب الآية على البطل، ويصير كالفأر الهارب في بيته لا يجرأ على الخروج. فهل سيستطيع بطلنا أن ينقذ نفسه؟ هذا ما سنراه في الفيلم.
ولأنَّه فيلم الشخصيَّة الواحدة فقد جاء الوقت لنتعرَّف على “ريتشارد”. ولن يصلح التعريف أن قلنا إنه شاب أمريكيّ مسيحيّ أبيض البشرة…. فإننا لسنا في تحقيق جنائيّ، بل تدقيق إنسانيّ. “ريتشارد” إنسان جادّ، مُثابر، حالِم يسعى وراء أحلامه في إصرار لا يهتزّ. وكان حُلمه أن يصير شُرطيًّا. في شبابه الباكر كان حُلم “الشرطة” عنده هو التزام تامّ ومحبّة داخليَّة لأفكار خلابة مثل “القانون”، “النظام”، ومشاعر عظيمة مثل “الانضباط” و”الانتماء” لكيان يحبُّه.
لكن سرعان ما تغيَّر هذا الوضع. فقد رأى هذا الشابّ الصغير أنَّ حُلمه تقابله المشكلات، وأنَّ انضباطه الزائد، وحبه لتطبيق القانون يوقعه في مشكلات من قبيل “خرق القانون” الذي أراد تطبيقه. فمثلاً نراه يعمل فرد أمن في جامعة ثمَّ بدافع من حماسه يخرج إلى الطريق العموميّ ليوقف السيارات ويفتِّش عن المخدرات! وعندما يُسأل عن هذا يدافع عن نفسه: لو أننا قاومنا المخدرات في الخارج لما تسرَّبت إلى الجامعة! .. وبغضّ النظر عن صحَّة المبدأ لكن التصرف مخالف للقانون.
وبسبب هذه الحماقات التي يفعلها “ريتشارد” صار محطّ سخرية الآخرين؛ خاصةً أصدقاءه من الشرطة. وصار الجميع ينظر له نظرة تقول: أنتَ لستَ مِنَّا أنتَ مُجرَّد أبله لا تأثير له يحبّ أن يقحم أنفه، فأصبح لديه إحساس دفين بالظلم وانعدام القيمة في مجتمعه. والأعجب أنَّه المجتمع نفسه الذي أراد أن يطبِّق القانون ليحمي الآخرين فيه ويحافظ على حياتهم. وهنا صارت كلمة “شرطيّ” لديه تمثِّل حُلم القيمة، وتحقيقًا لاهتمام حقيقيّ من الآخرين، وتوثيقًا لذاته في سجلات العائشين. ومن هذا المنطلق لن تحتاج إلى رؤية “ريتشارد جويل” في هذا الفيلم الأمريكيّ، بل عليك -وحسب- أن تخرج من بيتك، وتتطلَّع في عيون الناس وتصرفاتها وغالبًا ستجد “جويل” يمشي بجانبك، أو من الممكن أن يراه البعض إذا تطلَّعت إلى مرآته في يوم ما.
هكذا تناول الفيلم الشخصيَّة ليُشير إلى الحد الخطِر الذي من الممكن أن يصل إليه السعي وراء الحُلم. فحالات من السعي وراء الحلم تؤدي بك إلى العَمى التامّ أو الجزئيّ لأشياء أخرى كثيرة. فلا تنتبه لنفسك وأنت تفعل ما لا يجوز لك في سبيل سعيك إلى ما تريد. بطلنا إنسان بسيط ذو أحلام بسيطة، يفعل الحماقات في طريقه. وكم غيره يفعل الجرائم والأهوال في سبيل الوصول إلى ما يحلم! ومن طريف ما يمكن ذكره أنَّه مقابل أن يقول له المحققون جملة “من شرطيّ إلى شرطيّ” -أيْ أنه شرطيّ مثلهم- يدلي بمعلومات قد تدينه، ولاعتقاده بقدسية عمل “الشرطة” يساعدهم على إدانته إيمانًا بأنّ منظومة العدالة ستصل للحقيقة!
هذا على نطاق الشخصيَّة لكنَّ القضيَّة الأساسيَّة العامَّة التي اهتمّ الفيلم بإبرازها هي “الإعلام” وقدرته على تشكيل الرأي العامّ. فخبر في صحيفة قلب معطيات الكون. وبدَّل كرسيّ البطولة في لعبة الكراسيّ الموسيقيَّة التي يلعبها الأطفال. فجأةً أعطاك البطولة وتجاهل مَن ساهموا في إجلاء المواطنين في الحادثة، وفجأةً رماك في الهاوية وحدك أيضًا. حتى إنَّ الإعلام كان قادرًا أن يكون المُوجِّه الأكبر للسلطات الفيدرالية -وهي ذات سلطات شديدة الاتساع هناك-.
سرعان ما لملم هذا الإعلام أوهامًا على أوهام ليُدبِّج ملفّ اتهام سيقضي به على حياتك. وليُدين السلطات نفسها ويقول: كيف تتجاهلين الحقائق؟! كل هذا لتربح صحفيَّة سبقًا في جريدة، ولتربح جريدة مزيدًا من الأعداد. كل هذا من أجل حفنة دولارات كما اسم الفيلم الشهير. ما فعلته الجريدة يشابه ما فعله “جويل” نفسه في سبيل ما يتمنى. ولكنْ شتَّانَ بين الاثنين!
وبالعموم الفيلم كرس كل جهده في سبيل إبراز المعاني فقط. وهذا واضح من الرؤية الأولى لمُلصق الفيلم الذي يظهر فيه البطل وأمَّه ومحاميه غارقين في بحر من الإعلام، والمُلصق بالأبيض والأسود وكأنَّها صورة مُجرمين في سجن، لا مواطنين يخدمون وطنهم بإخلاص. فهناك بجانب هذا الكثير من السلبيات في الفيلم. قبل أن نتناولها لا بُدَّ أن نشيد بتمثيل “بول والتر” في دور “ريتشارد”، وكذلك “كاثي بيتس” في دور الأم. وكذلك بكوميديا الفيلم التي لا يمكن إنكار ذكائها، وقدرات الممثلين في بثِّها طوال الفيلم.
أهمّ السلبيات هو عدم الاعتناء بمراحل ما بعد الاتهام، فقد خرجت بغرابات كثيرة لا مبرر لها، وكتبت في نقص وارتباك (في الخط العام لا المشاهد الجزئيَّة). كما كان هناك أيضًا نقص في المُبررات الدراميَّة لتغير الشخصيات. مثل شخصية “الصحفيَّة” التي انقلبت رأسًا على عقب من محادثة لا تؤدي إلى تغيرها؛ خاصةً بعد رسم شخصيتها في قالب الانتهازيَّة، والبحث عن السبق حتى التضحية بالشرف في سبيله. ثم نجدها وقد عادت إلى الرُّشد من لا شيء. وهناك لحظة تمثيليَّة غريبة لا أدري كيف مرَّتْ على المُخرج؛ فيها تظهر الأم وهي تفتح التلفاز الذي سيخبرها صوته بأن ابنها صار وقيعة الاتهام، وتظهر “كاثي بيتس” لتفتح التلفاز ثمَّ يتغير وجهها تمامًا إلى الفزع من قبل أن تسمع أصلاً متن الخبر، وبالعموم فقد امتاز الإخراج بالعاديَّة الشديدة، فلا شيء غير عاديّ موجود. وهذا ليس عيبًا أو مأخذًا فالأهمّ عند صانعي الفيلم هو المعاني التي أخلصوا لها لكنَّها ملحوظة للتسجيل فقط.ولأنَّ الفيلم أخلص للمعاني؛ فلا سبيل إلى إنهاء المقال إلا بمعنى قاله البطل في نهاية الفيلم. وهو جالس أمام المحققين: “هل تعتقدون أنَّ حارس أمن أو مواطنًا يؤدي عمله سيُقدم على المغامرة في قيامه بعمله بعد ما تفعلون بي؟! بالقطع لا سيقول: لنْ أكون ريتشارد جويل آخر أبدًا”