فيلم “قفص الحريم”: لمن تذبح الغزلان

 محمد جمال الروح

كانت هزيمة 1967 بمثابة المقصلة التي ذبحت عليها أحلام جيل كامل محمل بالطموح والحماس والشعارات، أجبرته فجيعة الهزيمة على إعادة تأسيس وعيه وترتيب أفكارة وتضميد الجراح التى أصابت الأرواح وشقت الوجدان.

كان من الطبيعي أن تتمرد الذات المبدعة، سواء بقصد أو من دون قصد، وتخرج من شرنقة السلطة الأبوية بكل مستواياتها، مع توالي الحقائق وكشفت عورات الواقع. وقد تجلى هذا في سرديات أدباء الستينات. هذا الجيل الذي نهشته الهزيمة وتركته جريحاً بين ركام الخذلان وبقايا الحلم. ودفعهم هذا للثورة على الشكل التقليدي للسرد وتجاوزه من خلال طرائق فنية وجمالية مغايرة للتعامل مع أزمة الذات نفسها وأزمة الواقع التى أنسحبت على كل شيء فى عصر ما بعد النكسة.

كان من بين هذه الطرائق استلهام التراث وإعادة إنتاجه جمالياً وتضمينه في سياقات سردية راهنة، فجاء التراث المحمل بالطقوس والأساطير الشعبية والمرويات المغزولة بالسحر والغرائبية لصياغة الواقع الراهن والإسقاط عليه سياسياً واجتماعياً، مثلما فعل مجيد طوبيا وجمال الغيطانى وعبد الحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم، في أعمالهم الأدبية.
 هذه المرحلة المتوهجة من المنجز الإبداعي أنتجت سرديات كانت ملجأ لصناع السينما الحقيقيين حتى بعد الابتعاد عن زمن الأزمة وتغير العصور السياسية. لكن ظلت هذه السرديات تراود عددا من المخرجين الجادين حتى نجح بعضهم في تحويلها لمنطوق بصري شاعري يأخذ من تلك المرويات حسها الجمالي والسحري الممزوج بالتراث.

وكانت لكل تجربة خصوصيتها واتجاهها وقاموسها البصري مثل أفلام “الطوق الأسورة” إخراج خيري بشارة المأخوذ عن رواية يحيى الطاهر عبد الله، و”الكيت كات” إخراج داود عبد السيد عن رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان، و”قفص الحريم” إخراج حسين كمال عن الرواية البديعة “ريم تصبغ شعرها” لمجيد طوبيا. هوذه الأخيرة كتبها طوبيا ليكرث لفكرة الخلاص من السلطة الأبوية بشكلها المباشر ويصدر للقارىء مستويات عديدة للتلقي تواكب الواقع المعاش.

“ريم” الفتاة باهرة الحسن، المتمردة على المصيرالتقليدي للأنثى، هي صورة ملهمة لتحرر المرأة وقدرتها على الاختيار (لاحظ هنا دلالة الاسم الذي يجمع بين البراءة والجمال والقدرة على الوثب بعيداً عن مداجن الذكورة).

يتحمس حسين كمال لهذه الرواية بكل ما تحمله من جماليات ومضامين ودعوات للتحرر، وقد اعتاد، وهو صاحب الحس السينمائي الخاص، أن تكون أعماله من مصادر روائية هامة مثل “البوسطجي” ليحيى حقي، و”شيء من الخوف” لثروت أباظة، و”ثرثرة فوق النيل” لنجيب محفوظ، و”النداهة” ليوسف إدريس. وتمتد القائمة لتشمل عددا كبيرا من الروائيين الكبار الذين حول حسين كمال أعمالهم إلى أفلام جيدة.

رشح حسين كمال الدكتور رفيق الصبان أستاذ السيناريو بمعهد السينما لكتابة سيناريو الفيلم من خلال رؤيته السينمائية للرواية. وقد تعاون هذا الثنائي معا من قبل في فيلم ” بعيداً عن الأرض” عام 1976. وكان اسم الصبان كسيناريست قد بزغ مع فيلم “زائر الفجر” 1973 الذي مُنع عرضه لسنوات.

 حاول الصبان الإخلاص للرواية وتفاصيلها قدر الإمكان لكن كانت العقبة الكبرى تعدد البيئات الذى حوت الحدث الروائي المتنامي بين الجنوب في الصعيد المصري (بيت الأب)، والوجه البحري (بيت الجدة)، والعاصمة، الأمر الذي عبئاً ثقيلا على السيناريو الذى حاول تضفير التفاصيل ورسم الشخصيات والأماكن المتباينة في الرواية، فكان الرهان على الجزء الأول منها حيث طفولة ريم فى بيت الأب المزواج على حساب الجزء الأوسط والأخير من الرواية.

  يسهب السيناريو في مشاهد الاستعراض الانثوي والشجار اليومي المحمل بالمكايدة الانثوية والتلميحات الجنسية بين غالية أم ريم (شريهان) وضرتها (هياتم) ومحاولاتهن الدائمة للاستئثار بالزوج الفحل (عزت العلايلي) وجذبه للفراش كل ليلة. وهذا الصراع كان دائما ينتهي بفوز “غالية” المرأة الشقراء الجميلة القادمة من الشمال على حساب ضرتها الشمطاء.

يستهلك السيناريو كل طاقته فى التأكيد على السطوة الذكورية المنفرة للعمدة الذي يتزوج للمرة الثالثة من فتاة بلهاء من أجل الاستفادة من نفوذ أبيها. وفى أحد أفضل مشاهد الفيلم يستعد العمدة بعد العرس لفض بكارة العروس بالمنديل الأبيض مزهواً بنفسه وبتلك الذكورة المنفرة التى كفلها له المال والسطوة والأعراف المهينة للمرأة.

 ويستمر التأكيد على تغول تلك النظرة الذكورية حتى في حكم العمدة للبلد وسن قوانين غاشمة تحجب النور وتهدد الحياة، وعندما تتعثر ولادة امرأة من البلدة، فيرفض العمدة الاستعانة بطبيب كونه رجلاً، فتموت المرأة، ويواسي العمدة زوجها ويعطيه بعض الجنيهات ليتزوج بأخرى بل ينصحه أن يشترى جاموسة أفضل!

تسقط الأم الجميلة الفاتنة من الدرج والعمدة غارق في ملذاته فى المدينة بعد أن باع محصول القطن، لا أحد يذهب بها للمستشفى فتصاب قدمها البيضاء الناصعة بالغرغرينا ولا مفر من البتر، تموت الأم جراء حسرتها على نفسها فكيف تعيش عاجزه فاقدة الأنوثة التي هي سبب بقائها فى كنف العمدة، وهي من كانت كالفرس الطلوق المختال، وتوصى ابنتها وهي على فراش الموت باختيار مصيرأفضل. وبمجرد موتها يتزوج العمدة من الممرضة اللعوب (فريدة سيف النصر) التى كانت تداوى غالية.  

تنتقل ريم وأختها لبيت جدتهما وتبدأ مرحلة أخرى. هنا يبدأ السيناريو في الارتباك وسلق المشاهد واللهاث للوصول للنهاية السريعة، ليدمر ما قد بدأه من إجادة.

ولا ينجح الصبان في رسم بعض الشخصيات والتأصيل لها درامياً  كشخصية الشاب ابن الجيران (عبده الوزير) الذى لا نعرف كيف دفعه رفض ريم له للإدمان وكيف عاد ناجحاً متفوقاً ثم كيف يهرب من حبيبته ريم يوم زفافهما وهي حب حياته لا لشيء إلا لأنها طلبت الزواج منه، وشخصية الجدة (ناهد سمير) المتناقضة، فما ذنب المشاهد الذى لم يقرأ الرواية ولم يلمس التحولات النفسية والاجتماعية المرسومة بعناية ومنطقية كبيرة، ولم ينجح سيناريو الصبان أيضا في رصد رحلة “ريم” نحو التحرر والبحث عن مصير مغاير لمصير الغزلان التي تساق ببراءتها نحو مقصلة الذكورة وكهنوت الموروث.

 قفزت ريم قفزة واسعة لكنها لم تتجاوز الأسوار وظلت حبيسة المصير المحتوم. خذلها الفنان المتحرر الذي أمن بتحررها ولكنه حينما أراد الارتباط جاء بزوجة ريفية ساذجة مطيعة راضخة يمارس عليها قمعه الذكوري.

 لم يكن تطويع أدب مجيد طوبيا بصرياً بالأمر الهين وبإمكانيات انتاجيه شحيحة في فترة تغولت فيها ما تسمى بسينما المقاولات وانهارت فيها القيم وتراجعت الذائقة الفنية، فكان الخروج بفيلم من هذه النوعية جرأة تحسب لصناع هذا العمل.

جاء الحوار الذي صاغه مجيد طوبيا من مفردات البيئة الجنوبية متناغماً مع موسيقى عمار الشريعي وأشعار الأبنودي. أما شريهان فقد منحت الفيلم طاقة جمالية كبيرة، بأداء ناضج، وعيون جسدت الخنوع والرضوخ الأبدي في دور الأم، والتمرد والصلابة في دور ريم ، شريهان وجه ترسم عليه الدراما ألوانها وخطوطها  كما تشاء، وموهبة متدفقة لا تنقطع وتقاسيم نادرة الجمال كأنها خرجت من وحي الأساطير الشعبية.

Visited 6 times, 1 visit(s) today