فيلم “شوشانك” وفكرة الإيمان والمصير

“وماذا يفعل الإرهاب أكثرَ من أنّ ينجحَ في جعل كلٍ منَّا يتولى إرهاب نفسِه بنفسه، فيقوم هو بإسكاتها، وإخضاعها للأمر الواقع الرهيب؟ ” 

“يوسف إدريس- العسكري الأسود”

ثمّة عادة قديمة لديّ؛ أحاول دائمًا ترجمة عناوين الأفلام إلى كلمات عربيّة: الختم السابع.. جرائم وجنح.. أحدهم طار فوقَ عشِّ الوقوا. اصطدمت ها هنا بكلمةRedemption ومن عندها يبدأ تعاملنا مع الفيلم الذي أخرجهفرانك دارابونتفي عام 1994، عن رواية قصيرة لـستيفن كينجتحمل العنوان :Rita Hayworth and Shawshank Redemption

حسب معجملونج-مان، فالكلمة تعني: التحرر من طاقة الشيطان، وهي قدرة لدى السيد المسيح. وتعني كذلك: شيءٌ شديد السوء، فلا ينبغي الاحتفاظ به.

ومن ثمّ، فإن ترجمة العنوان، كما هو متعارف عليه، بـ“الخلاص من شوشانك”، يُعَدُّ قتلاً لمعنى الاسم.

تبدأ أحداث الفيلم بقطع متوازي بين مشاهد محاكمة “آندي دفرين” المتهم بقتل زوجته وعشيقها، في منزل الأخير، وبين مشهد الخيانة، ومشهد المتهم ثمِلاً، يحشو مسدسه خارج المنزل في سيارته. تتم إدانة الزوج، والحكم عليه بالسجن في “شوشانك”.

منذُ اللحظة الأولى داخل السجن، ندرك أنّه مكانٌ لقتل الإنسان الكائن بداخل أجساد النزلاء، وتحطيم إرادته … مشاهد رشهم بالمياه ومسحوق قتل القمل. ومأمور السجن يعلن أن السجن ومن فيه، هم مِلكٌ له.

منذ البداية ندرك أن الصراع داخل بناء الفيلم، هو ليس بصراع أشخاص، بل هو بين إرادة التحرر الإنسانيّة، وروح السجن الثقيلة التي تقتل تلك الإرادة. ويتم التعبير عن ذلك الصراع الجوانيّ داخل النفوس بآخر خارجيّ بين النزلاء، وبين العوامل المحيطة بهم من حراس ومجرمين خَطِرين، وقضبان السجن وكل عوامل الإهانة الممكنة.

ونقسم النزلاء هناك إلى نماذجٍ ثلاثة:

نموذج أعلن عجزه منذ البداية عن تحمل كل ذلك، فما كان منه إلا أن مات.

والنموذج الثاني –وهو يتجلى في الجميع عدا “آندي”- هو هؤلاء الذين انتصر “شوشانك” عليهم، فقتلهم من الداخل.

يقدِّمُ لنا الفيلم، هذا النوذج في مثالين، أحدها ناضج نراه في بداية الأحداث متمثِّلاً في العجوز “بروكس”، الذي كان يعمل في مكتبة السجن. والذي يقدم على قتل أحد زملائه كي يُسجن من جديد، ولا يتم الإفراج عنهذلك بعد أن صدر قرار العفو عنه. وعند خروجه من السجن، يهلعُ من مرآي السيارات والناس. يعمل في محل للبقالة، ويقيم بأحد الأماكن التابعة للسجن. ولكنه يفشل في أن يحيا كإنسانٍ حر، فينتهي به الأمر إلى الإقدام على الانتحار في حجرته!!

أمّا المثال الثاني، فهو “ريد” الذي لعب دورهمورجان فريمان“. ونحن مع هذا المثال منذ البداية، وبالتدريج حتى لحظة نضجه في النهاية. “ريد” هو الرجل الذي يجلب الأشياء إلى داخل السجن. عبر مشهد يتم تكراره خلال الفيلم، نتابع نضج ذلك النموذج.  في المشهد يتم عرض المذنب على لجنة لتقييم سلوكه، وهل تم تأهيلُه بحيث أصبح جاهزًا للاندماج في المجتمع أم لا؟ في كل مرة يؤكد لهم أن تأهيله قد تم، وأنه أصبح فردًا صالحًا. وفي كل مرة يتم رفض العفو حتى تأتي المرة الأخيرة التي يُعرَض فيها على اللجنة، وفيها يدرك “ريد” أن الصبيَّ المراهق الأحمق الذي ارتكب جريمة قتل قبل أربعة عقود، صار شيخًا في عقده السادس، وأن مسألة انضمامه إلى المجتمع ثانية، هي محض عبث.

ففكرة التأهيل هي كذبٌ كبير. ويطلب من وكيل النيابة أن ينهي الجلسة، وألاَّ يضيع وقته. وهنا يصدر العفو عن “ريد”. وكأن اللجنة تنتظر لحظة موت الإنسان في السجين، وتحوله إلى كائن قد تم تدجينه تمامًا، قبل أن تلقي بهم إلى المجتمع ثانية، ذلك المجتمع خارج جدران السجن، الذي لم يعد السجين مؤهلاً للانضمام إليه.

يخرج “ريد” من “شوشانك”، ويعمل في ذات محل البقالة الذي عمل فيه بروكس” من قبل، ويسكن في ذات الحجرة، ونرى ذات العجوز قد تم إنتاجه أمامنا مرة أخرى. نرى شيخًا غادر جسدُه السجن، ولكن روحه ظلت هناك، وظلَّ هو يطلب الإذن كلما أراد قضاء حاجته.

ولا يمنعه من الانتحار، إلا الأمل الذي زرعه “آندي” داخله، عندما وعده أنهما سيعيشان معًا خارج شوشانك، ورسم له الطريق الذي يمكنه من خلالها أن يلحق به.

قبل أن نعرج إلى النموذج الثالث المتمثِّل في شخصية “آندي دفرين” التي لعبهاتيم روبنس، دعونا نتوقف قليلاً.

تكلمنا عن الصراع داخل الفيلم، ويمكننا ألاَّ نحمِّله بأكثر مما قلنا، ولكننا نصطدم بمجموعة من الإشارات تكتسب دلالاتها من معرفتنا بالخلفية الفكريّة لـ “فرانك دارابونت”، والظاهرة في أعمالٍ أُخرى له. وأعني منها فيلمه “الضباب” المُنتَج في العام 2007 عن رواية قصيرة لـ “ستيفن كينج” أيضًا. يحكي الفيلم عن مجموعة من الأشخاص المحاصرين داخل “سوبر ماركت”، بعد أن اجتاح الضبابُ المدينة، حاملاً في ظلامه أعدادًا هائلة من المسوخ التي عبرت إلينا عبر ثغرة زمكانيّة، جرَّاء بعض تجارب الجيش الأمريكيّ. تدور الأحداث، ويتحول المحاصرون إلى مجموعتين؛ الأولى -وفيها أغلبهم- تقودهم سيدة مخبولة، تتحدث بلسان الكتاب المقدَّس، وتخبرهم بأن ما هم فيه من بلاء، إنما هو حصيلة الخطايا التي اقترفوها، والتي دنست الدنيا من حولهم، وها هم يتطهرون بعذاب الربِّ لهم. وتقنع أتباعَها بألاَّ يغادروا المكان.

والمجموعة الثانية، هم قلة قررت الخروج، والمقاومة من أجل النجاة، ولكن تمنعهم عن ذلك السيدة ومن حولها. إلى أن يتمَّ قتلها على يد أحدهم. وتخرج الفرقة التي قررت ألاَّ تترك مصيرها لعبث الأقدار، وأن تملك زمام أمرها. وفي النهاية يأتي الخلاص لهذه الفرقة متأخرًا بعد أن أقدموا جميعًا على الانتحار، إلا واحد منهم. يأتي الخلاص في صورة فرق من الجيش جاءت لإنقاذ الناس.

الصراع هنا واضح تمامًا، بين من يخضع لإرادة خارجة عن إدراكه (إرادة الرب)، وبين من يريد أن يدير الكون من داخله، وأن تكون الأحداث فيه ناتجة عن إرادة البشر، الذين هم “مسئولون عن قراراتهم حتى النهاية” كما يقول الوجوديون. هذا صراع بين فكرة الإيمان بالله وقدره، وبين النزعة الإلحاديّة الماديّة. والمخرج يميل إلى التصور الثاني الذي وإن أودى بحياة أبطاله، لكنهم ملكوا أمر نفسهم، وقرروا مصيرهم بأيديهم، ونحن على كل حال لم نعرف مصير الجماعة الخانعة التي قبلت بقرار الربّ!!

نعود إلى النموذج الثالث .. “آندي” الذي تمت محاكمته متهمًا بقتل زوجته، ونحن -المشاهدين- لم نرَ وقائع القتل ولكننا نرجِّح أنه هو الفاعل، على الرغم من إنكاره. يدرك “آندي” في أيامه الأولى طبيعة الصراع في السجن، ويبدأ مواجهته بالإبقاء على دفء الحريّة الإنسانيّة بداخله. ويتم التعبير عن هذا الصراع –وكما أشرنا من قبل- في صورة مجموعة من شواذ السجن الذين يجعلون من “آندي” هدفًا لاغتصابهم لقد اغتصبوا جسده (كالسجن الذي يحبسه بين قضبانه) لكنهم قط، لم ينالوا من روح التحدي والقتال من أجل الحريّة بداخلهيتعرض لهجومهم مرارًا، ولكنه يقاوم، ويقاتل في كل مرة. هذا هو حرفيًّا الصراع الذي يمثله السجن في داخل كل سجين.

تشتدُ وطأة السجن، و”آندي” يقاوم، ويحاول الفرار بروحه إلى خارج الأسوار، مرة بملصقات الأفلام التي يزين بها غرفته، ورقعة الشطرنج التي صنعها من الأحجار المتناثرة في فناء السجن، والمكتبة التي أقامها. وكأنه عندما أدرك أن جسده أسيرًا، بعيدًا عن دنيا الناس، قرر أن يحضر الدنيا إلى داخل زنزانته. ونرى المشهد الذي يطلب فيه زجاجات البيرة من أحد الحراس كأجر على معاونته في مسألة لها علاقة بالحسابات، ويتم تقديم البيرة الباردة لزملائه وكأنه يبعث روح التحرر بداخلهم. ويَذيع صيتُه في مجال الحسابات. الأمرُ الذي يغري مأمور السجن بالاستعانة به من أجل بعض الفساد الماليّ، الذي يدرُّ ربحًا وفيرًا على ذلك الأخير.

وهنا تتدخل السماء لتبرئة “آندي” بعد كل ما مر من سنين، في صورة شاهد يثبت عدم إقدامه على جريمة القتل. وأمام إرادة السماء تقف إرادة مأمور السجن، الذي يرفض خروج المتهم البريء، ويودعه الحبسَ الانفراديّ. ويقتل شاهد النفي. وتبدو إرادة المأمور وقد انتصرت، ولكن تأتي النهاية بهروب “آندي دفرين” من “شوشانك”، عبر نفقٍ حفره بمطرقة صغيرة خلال عشرين عام، وقد انتصرت إرادته على (عجز إرادة السماء)، وظلم إرادة الأرض.

يمكننا التوقف قليلاً عند فكرة (عدم تدخل إرادة السماء منذ البداية، وعجزها لاحقًا، وعلو يد البشر في التحكم بمصير “آندي” في النهاية) … وبتذكر خلفية المخرج التي رأيناها منذ لحظات عبر فيلمه “الضباب” … وببعض إشارات الفيلم، ومن ذلك ربما تكون للرؤية التالية وجاهتها.

يمكننا أن نُسقطَ رمزَ الدين (أو قل الفكرة الإيمانيّة) على سجن “شوشانك، الذي يضع مأموره دبوسًا على هيئة صليب، ويقول للمساجين من اللحظة الأولى أنه لا يؤمن إلا بالكتاب المقدَّس الذي يكمن الخلاص بداخله ويخبرهم أنه لا يقبل إهانة اسم الرب داخل سجنه. والنزلاء الذين يدخلون إلى زنازنهم عرايا كما لحظة الميلاد، هم بشرُ هذه الدنيا، الذين إما هم عاجزون عن تحمل أقدارها، أو يخدعون أنفسهم بوهم الرب الذي يسيطر عليهم، فيفسرون أحداث الكون بقوة خارجة عنه، ومن ثمَّ يقبلون بها.  وهناك أولئك الذين أعلنوا رفضهم، يهربون عن طريق الفنون (نرى النفق الذي حفره “آندي” للهرب وقد تمت تغطيته طيلة أعوام بملصق لأحد الأفلام)، وعن طريق القراءة )المكتبة التي أقامها البطل وهدده مأمور السجن بحرقها إن لم يعاونه)، وموسيقى موتسارت” التي رددها “آندي” في جنبات السجن ذات مرة، باعثًا بها نسمات الحرية، تداعب أرواح الإنسان في المساجين … موسيقا “موتسارت” التي رافقته في حبسه الانفراديّ، يتردد صداها في روحه، كالأمل للخروج من السجن.

وتتبلور هذه الرؤية في مشهد ساخر بنهاية الفيلم، إذ ندرك أن آندي” استخدم الكتاب المقدَّس كـ(شيء) يخفي بداخله المطرقة التي حفر بها نفق الهروبوقد كتب في سخرية في أولى صفحات الكتاب “الخلاص يكمن بداخله” … الخلاص في شكله الماديّ الذي يدير الكون، لا في القوة الروحيّة التي يمثلها الكتاب المقدس.

إن “آندي” هو (مسيح) “فرانك دارابونت”.. أو قل مسيح “نيتشه” الذي تكلم عنه في تفسيره لخاتمة أوبرا “دون جيوفاني”، التي يقف فيها الشرير أمام تمثال ضحيته، يسخر منه، فيتحرك التمثال قابضًا على يد قاتله، ويطالبه بالتوبة، فيرفض “دون جيوفاني”، ويكرر التمثال الاستتابة، ويتكرر الرفض، إلى أن يحترق الخاطئ بنيران خطيئته. وهو ما اعتبره نيتشه انتصارًا للإنسان الذي يحلم به، الإنسان الذي تحرر من كل إطار فُرِضَ، وفَرَضَ هو إرادته. حتى وإن تعرض للحرق كعقاب نهائيّ، فهو مسئول عن قراراته حتى النهاية.

والله أعلم

Visited 8 times, 1 visit(s) today