فيلم” ريجاتا”.. كل مشكلات الميلودراما المزعجة!
تلخص مشكلات الفيلم المصرى “ريجاتا” الذى أخرجه محمد سامى فى معالجته الميلودرامية المزعجة بكل تفاصيلها، ورغم الشخصيات التى كان يمكن أن تصنع عملا هاما ومختلفا، إلا أن الميلودراما أغرقت الشخصيات، وأغرقت الفيلم أيضا.
أصبحنا أمام مناحة متواصلة، وصراخ وعويل، وغرائب وعجائب تجعلك تضرب كفا بكف، بسبب تلك الإنقلابات والقفزات المذهلة ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
كتبت كثيرا من قبل عن مأزق الميلودراما، رغم اعترافنا بأنها من الأنواع الدرامية المعروفة، الميلودراما تجعل شخصياتها مثل ريشة فى مهب الريح لاتملك من أمرها شيئاً، ثم تحاكم هذه الريشة وتبرّرعقابها بدافع أخلاقى أو دينى، وهنا وجه المفارقة وموضع التناقض.
لا يفطن صنّاع الميلودراما الى ذلك لأن الهدف محصور فقط فى التأثير العاطفى على المتفرج فى كل الإتجاهات، دون أن يتعمق التحليل فى مسار يناقش دور الإرادة والإختياروالمقاومة والصعود والهبوط، المهم فقط أن تتوالى المفاجآت المؤلمة، وأن يعلو صوت الكوارث دون مقدمات أو تفسير، ويتبع ذلك مبالغات صارخة فى الأداء، وفى توظيف الموسيقى، نصبح فعلا أمام سرادق عزاء لاينفع فيه صبر أو سلوان.
البطل الضد
ما يحزن فعلا ليست تلك الإنقلابات الميلودرامية فى الفيلم، ولكن إفلات صناع الفيلم لشخصية درامية ثرية يمثلها الشاب المهمش رضا الذى يطلقون عليه “ريجاتا صباح”، والذى لعب دوره عمرو سعد، إنه نموذج للبطل الضد الذى يعانى من التكيف مع عالمه الصغير فى قلب منطقة شعبية.
أطلقوا عليه اسم “ريجاتا”، وهو طراز سيارات معروف، لأن أول سيارة قام بعمل سمكرة لها كانت من هذا الطراز، وأطلقوا عليه اسم صباح نسبة الى أمه (إلهام شاهين) ، لأن رضا مجهول الأب، ونتيجة لذلك يعايرونه بأنه “ابن حرام”، بينما أنجبت صباح شابا آخر اسمه عوض (وليد فواز) من زوج شرعى، ولكن هذا الزوج هرب وترك هذه المرأة البائسة، و المصابة أيضا بالسرطان.
تركيبة مثل الشاب ريجاتا تعد بفيلم كبير على المستوى النفسى والإجتماعى، وخصوصا أن الفيلم الذى كتبه محمد سامى ومعتز فتيحة، يفلسف اسم ريجاتا أكثر فأكثر عندما نعرف أن الكلمة تعنى أيضا “سباق القوارب”، أى أن بطله مثل قارب فى مهب العاصفة: شاب بلا أب، يعمل مع شخصية مشبوهة تدعى سارى (محمود حميدة) يمنحه الفتات، ولذلك يريد ريجاتا أن يسافر مثل آلاف الشباب.
الى هنا تبدو الأحداث مقنعة رغم مقدمة قبل العناوين لمطاردات بالموتوسيكلات فى شوارع القاهرة التى تستحيل فيها الحركة أصلا، ولكن الفيلم يقدم أبطاله بصورة جيدة : الأم التى تخفى عن ابنها حقيقة والده، والتى تعالج من المرض، وعوض الأخ غير الشقيق لريجاتا، نرى هذا الأخ مخدورا، يستمتع بجسد زوجته اللعوب نصرة (رانيا يوسف)، رسم شخصية سارى جيد كذلك ، حيث يبدو واثقا من نفسه، قوى الشخصية، لديه جرأة ووقاحة وحس ساخر.
المكان أيضا يبدو حاضرا سواء فى المشاهد الداخلية أو الخارجية، بل إن أذكى لقطات الفيلم عندما ترتفع الكاميرا سريعا وسط خناقة فى الحارة، لنكتشف ضيق المكان وسط مناطق شعبية وبعيدة عن بنايات القاهرة، التى تبقى حاضرة فى الذهن للمقارنة عندما نراها ليلا وسط الألوان والأضواء، بينما يجلس ريجاتا ساهما ، فوق مركب نيلى يشق الأمواج بهدوء لايتناسب مع معاناته الداخلية.
يصبح من الطبيعى أن ينضم ريجاتا الى أخيه غير الشقيق عوض وصديق ثالث أصغر سنا يدعى سيد ( أحمد مالك) لكى ينخرطوا بشكل مباشر فى نشاط سارى المشبوه، سيصبحون جميعا واجهة على الورق لشركة أسست لتهريب الفياجرا تحت ستار تجارة أخرى، ستتم العملية، وسيحصل ريجاتا على ربع مليون جنيه نصيبا لا يحلم به، مما سيمكنه من الحصول على تأشيرتين لدخول إيطاليا له ولأمه صباح، بل ويقرر ريجاتا أن يحصل على تأشيرتين إضافيتين لعوض وزوجته نصرة.
طوفان الفواجع
لكن الميلودراما تنطلق فجأة حاملة معها طوفانا من الفواجع العجيبة،ريجاتا المهتم أساسا بالسفر يكتشف بالصدفة أن نصرة تتحدث تليفونيا مع شخص تعرفه، يستنتج أنه عشيقها، يراقبها، ثم يخبر أخيه عوض، تحدث مشادة عائلية منزلية تنتهى بدفع ريجاتا لعوض ليلقى الأخير مصرعه بعد سقوطه من الشباك، تنتهز نصرة الفرصة ، وهى المطعون فى شرفها والتى فقدت زوجها حالا، فتسرق بقية نقود ريجاتا التى حصل عليها من صفقة الفياجرا، تبدأ صباح فاصلا من العويل والصراخ: ابنها مجهول الأب، قتل ابنها معلوم الأب.. وعجبى.
ساندي التي تقوم بدور الراقصة في الفيلم
لم يخيب الفيلم ظنى عندما بدأ يكمل قصته كلها بناء على هذه العقدة المفتعلة، يظهر ضابط بوليس شاب هو عمر (فتحى عبد الوهاب)، هذه قضيته الأخيرة قبل أن يسافر الى الإمارات للعمل كمدير للأمن بمبلغ ضخم، يحتاجه الضابط لعلاج طفلته المريضة أيضا، نستكمل بقية الأحداث على طريقة “اين أذنك يا جحا؟”، فالأم صباح تعترف بأنها هى التى ألقت ابنها عوض من النافذة، وطبعا الضابط لن يصدقها، وبدلا من أن يسلم ريجاتا نفسه لإنقاذ أمه التى يحبها، فإنه يبحث عن نصرة التى سرقت أمواله، ثم يكتشف، ونكتشف معه، أنها عشيقة سارى، نلف وندور فى لعبة البحث عن الفاعل فى قضية سقوط عوض من النافذة، مع أن الحكاية كلها تكييفها القانونى قتل خطأ لا يستدعى كل ذلك.
تتاح الفرصة للقاءات بين ريجاتا والضابط عمر لكى يسلّم الأول نفسه، ويظهر ريجاتا أمام نصرة فينقذها سارى، الذى ينقلب بدوره على نصرة فيقيدها، تهرب نصرة بطريقة ساذجة من سارى، ونكتشف أنها ايضا تريد السفر الى أوربا، تطلب تأشيرة من عبدة سفريات (أمير شاهين) الذى يحضر التأشيرات نظير مبلغ مادية ضخمة.
يبدو الجهد الذى يبذله رجل البوليس عمر ضخما مقارنة بتفاهة الحكاية، وكأنك بالضبط أمام المفتش كولمبو، بل إن سارى يسخر من عمر فى أكثر من مرة، ومعه حق بالطبع، يستهلك السيناريو كل الألعاب، وينحاز سيد لمساعدة ريجاتا، وصولا الى مشهد النهاية حيث يواجه ريجاتا نصرة ، وهنا نعرف لأول مرة أنها انتقمت منه، لأنه لم يبذل جهدا للإحتفاظ بها، اكتفى بأنهم رفضوه لأنه ابن حرام، قررت نصرة أن توافق على الزواج من عوض، ثم هاجمت ريجاتا واتهمته بمغازلتها عندما اتهمها بعدم الإخلاص فى وجود أخيه وأمه.
تنتهى الميلودراما الزاعقة بقتل ريجاتا لنصرة، ثم تسليم نفسه للضابط عمر، وهكذا هرب من قتل خطأ واستسلم فى حادث قتل علنى، لا تسأل بالطبع عن أى تفسير سواء فى فواجع الفيلم بعد حصول ريجاتا على التأشيرة، أو عن هذه العلاقات العجيبة التى لا علاقة لها بحكاية سفر ريجاتا وأمه، وبمناسبة الأم، فقد ماتت المسكينة فى هدوء على المركب، بعد خروجها من السجن، وأخذ سيد يصرخ ويبكى عليها، معوّضا غياب ابنها الأصلى ريجاتا، الذى كان مرتبطا بمشاهد أخرى.
انزلق جميع الممثلين الى مبالغات الصراخ والبكاء باستثناء محمود حميدة فى دور مميز للغاية، وفتحى عبد الوهاب الذى سيطر الى حد كبير على ضبط انفعالاته حتى فى لحظات الغضب القليلة، رانيا يوسف بدت تائهة، الشخصية لها حضور جسدى واضح، ولكن ظلت دوافعها مجهولة حتى المشهد الأخير، فلما تحدثت نصرة عن حكايتها مع ريجاتا، بدا كما لو أنها تحكى لنا عن فيلم ثالث غير مقنع، قدم أحمد مالك دورا مميزا، ولكنه يحتاج الى تدريب لمخارج الألفاظ عند الإنفعال، بينما كان وليد فواز جيدا فى دور عوض.
ساهمت الموسيقى العاطفية التى وضعها عادل حقى فى تضخيم أثر المشاهد، وهى إحدى سمات الميلودراما المعروفة، تميز الى حد كبير ديكور عادل المغربى باستثناء ذلك السرير الغريب المحاط بالترتر فى شقة سارى، محمد سامى ، وهو أصلا مخرج أغنيات مصورة ناجح، منح مع المونتير شريف عابدين إيقاعا شديد الحيوية للمطاردات، ولكن سامى زاد من جرعة المبالغات الميلودرامية بتنفيذ يستعذب الصراخ والنواح، والأعجب أن تيمور تيمور مدير التصوير أسرف فى إغراق شخوصه فى ضوء النهار بصورة تستعصى على الفهم، وقد أدى ذلك الى غياب معالم الوجوه وتعبيراتها فى مشاهد هامة وأساسية، عموما محمد سامى مشهور بتلك الإختراعات البصرية الغريبة، أشهرها بالطبع تصوير مسلسل بأكمله قام بإخراجه بعنوان “كلام على ورق” بطريقة الكادر المائل، مما أصاب مشاهدى الحلقات باعوجاج فى الرقبة، ولايفوتنى التنويه الى أن حوار الفيلم من أبرز عناصره الجيدة، رغم أنه سيكون صادما فى جرأته لجمهور السينما المصرية المحافظ، ولكن هكذا فعلا تتحدث هذه النماذج الشعبية فى حياتها اليومية.
أزمة فيلم “ريجاتا” أنه يتحدث عن شخصيات حية ونابضة تنتمى الى القرن الحادى والعشرين، ونراها أمامنا فى الشارع، بينما تنتمى معالجته الميلودرامية المتهافتة الى سينما الثلاثينات، والى عالم مسرح رمسيس فى العشرينات، ويالها من مفارقة جديدة تضاف الى مفارقات الفيلم العديدة ـ