فيلم أمل رمسيس “ممنوع”.. وهل للمنع فلسفة؟
يبدأ الفيلم التسجيلي المصري “ممنوع” بلقطات للسماء برحابتها، ودندنة لصوت مخرجة الفيلم أمل رمسيس وهي تردِّد من أشعار صلاح جاهين: “أنا اللي بالأمر المُحال اغتوى”. ثم تخفتُ هذه الدندنة السماويَّة والكاميرا تهبط على الأرض لنسمع أصوات صفَّارات عربات الشرطة كاشفةً لنا عن المواجهة التي يريد أنْ يصنعها الفيلم بين أحلام تحطيم الممنوع وبين الممنوع.
فيلم “ممنوع” فيلم تسجيليّ مُستقلّ، أنتج في أواخر 2010 أي أن أحداثه تسبق مباشرة ثورة يناير 2011 في مصر، وقد وصل الفيلم -فيما يبدو- في زمن تصويره ليوم الخامس والعشرين، لا الثامن والعشرين – فيما يسمى جُمعة الغضب، فضلاً عن أنَّ المخرجة قد نصَّتْ على قيام الثورة وهي تحرِّر الفيلم. مما يضفي عليه مسحة تميُّز لتماسِّه مع تحرُّك شعبيّ وسياسيّ واسع في الأمور نفسها التي تناولها الفيلم في محتواه.
يقوم بناء الفيلم على استضافة مجموعة أفراد يعبِّرون عن أنماط طبقيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة مختلفة. وأسلوب الفيلم هو المحاورة من خلال طرح الأسئلة المُباشرة للضيوف وتركهم يدلون بما لديهم من أفكار ومشاعر حيال الموضوع المطروح بكلّ عفوية وبلا سابقة تفكير، وهذا واضح من التفكير اللحظيّ للأشخاص فيما يُلقى عليهم من كلمات مفتاحيَّة من المُحاوِر وهي مخرجة الفيلم نفسها.
اعتمد بناء الفيلم في الأساس على المحاورة، لكنَّه أرفَدَ هذا بلقطات مُصوَّرة من واقع الحياة؛ قد تظهر والأشخاص تتحدث -والغالب أنْ نرى الشخصيَّة أثناء حديثها-، وقد تظهر أثناء فواصل الحوار. هذه اللقطات الحيَّة ساعدتْ على المُساهمة في تعزيز المعاني المَقولة كرافد بصريّ فوق الرافد السمعيّ الأساس. كما اعتمد الفيلم في بنائه أيضًا على لقطات من أفلام استخدِمَتْ استخدامًا أرشيفيًّا تعبيرًا عن ضدِّ ما يُقال على لسان الشخصيَّات من ممنوعات أو تعبيرًا -فيما يبدو- عن وجهة نظر المخرجة أو تعضيدًا للمسموع.
وآخر ما اعتمدتْ عليه المخرجة في بنائها للفيلم هو الظهير المُغنَّى، أو إدراج الأغاني في أثناء الفواصل الحواريَّة وأثناء لقطات الواقع. وقد كانت مُوفَّقة إلى حدٍّ بعيد في اختيارها للأغاني -غير التي كانت في لقطات الفيلم- أغنية “قوم فوت نام” زياد الرحباني، و”ممنوع من السفر” الشيخ إمام. وكذلك اعتمدت على نمطَيْن من الموسيقى: أحدهما شرقيّ بالناي والدُّفّ والآخر غربيّ شكَّلا سويًّا موسيقى الفيلم الحقيقيَّة لا المُذاعة من اللقطات الأرشيفيَّة.
وقبل الانتقال إلى موضوع الفيلم لا بُدَّ من الالتفات إلى كلّ هذه العناصر التي صنعتْ الفيلم؛ مما يدلّ على أنَّ الفيلم التسجيليّ صناعة دقيقة ومنضبطة، وأنَّه ذو بنائيَّة فنيَّة مهما ابتعد ظاهرُه عن فكرة الفنيَّة. والفيلم التسجيليّ في الحقيقة مهضوم الحقّ والاعتبار في نظرة المُشاهد العربيّ؛ فلا يتعامل معه بعض المُشاهدين -إذا أقبل عليه- إلا كرافد للمعلومات، لا كعمل فنيّ يستحقّ التأمُّل من جهات عدَّة. لهذا يجب أنْ نذكِّر أنفسنا بقيمة هذه الأداة توعويًّا وفنيًّا أيضًا، وأنْ نُقبل عليها -كما نقبل على الأفلام الدراميَّة- لنصنع عمليَّة موازنة فيما نراه وفيما يدخل في تركيب وعينا.
موضوع الفيلم هو فكرة “الممنوع” في مجتمعنا، فيما يمكن جمعه في ثلاثة أنماط من الممنوعات: الممنوعات الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة من أوَّل اعتراض ضيفة على منع لعبها مع الصغار -حينما كانت طفلة صغيرة-، وسلطويَّة المجتمع، وفكرة القُبلة في الطريق العامّ، وخروج الفتيات مع بعضهنّ والأوقات المسموح لهنّ بالخروج فيها. ثاني نوع من الممنوعات الثقافيَّة والتوعويَّة ومنها منع بعض الكُتُب من النشر، وإعادة تحرير بعض الفقرات في المنشورات الثقافيَّة، ومنع بعض الأفلام وتغيير بعض أسمائها، ومنع التصوير في الشوارع إلا بتصريح، ووصف الوعي المُجتمعيّ أنَّه قائم على فكرة الرقابة.
والنوع الثالث المُهيمن -ولعلَّه القصد الأصيل من الفيلم- وهو الممنوع السياسيّ. وحدِّثْ ولا حرجَ فقد أورد الفيلم كُتلاً ضخمة من الممنوعات -بعدما رأى أنَّ الإتيان بالسلوكيات المُفردة لنْ يُجدي- منها القبض على المُدوِّنين، ومُصادرة الصُّحُف، ومشكلات قانون الطوارئ وانتهاكاته، ومُدَّة قانون الطوارئ حيث امتدّ لثلاثين عامًا قبل ثورة يناير. ووجود نقاط تفتيش وكمائن في القاهرة أكثر مما في الأراضي المُحتلَّة الفلسطينيَّة، ووصف الحكومة أنَّها “حكومة احتلال”.
وفي الفيلم جزء وضعتْه المخرجة وهو زيارة قام بها عشرات يظهر فيها غالب ضيوف الفيلم الشرفاء لمَعبر رفح ليدخلوا إلى أراضيهم العربيَّة في “قطاع غزَّة” مُقدِّمين الدعم. ونراهم وهم مُتشكِّكون من دخولهم وعبورهم لفلسطين، لنتأكَّد بعدها أنَّ الاحتلال الصهيونيّ لا يجثم على أراضينا الفلسطينيَّة فقط، بل في نفوس كثير من حُكَّامنا أيضًا. وهنا نقف أمام موقفَيْن: الأول يحكم على مثل هذه الزيارات أنَّها ساذجة وأنَّها ليست طريقًا للحلّ، والثاني يُثمِّن تلك الأفعال. وفي الحقيقة ليس بهذه الزيارة وحدها تُحرَّر الأراضي، لكنَّ هذه الزيارة وكل نشاط لشُرفاء الوطن ولو بشقّ تمرة في إنكار الباطل وإحقاق الحقّ هامٌّ للغاية في إدراك الهدف الكُلِّيّ. إنَّ هذه الزيارة والحديث والكتابة وإدامة تذكير وعينا بقضاياه -وكل الأنشطة الأقلّ من الاشتباك العسكريّ- هو ما يُسمَّى في الحضارة بـ”النِّضال”؛ وكمْ من نضال غيَّرَ التاريخ.
بقي شيء- قد يكون الأهمّ- هو التنويه على أنَّ الفيلم اختار الاكتفاء بآراء شخوصه-المُحترمين المُقدَّرين بالقطع- وهذا اختيار فنيّ لصاحب العمل. لكنَّه لمْ يأتِ برأي مُختص في الفلسفة ليوضح الموضوع الفلسفيّ الذي نتناوله “المنع”؛ باعتباره موضوعًا فلسفيًّا أصلاً -وله أبعاد اجتماعيَّة وليس العكس-. وهذا ليس عيبًا فنيًّا في الفيلم، بل هو مأخذ عامّ وحسب. بالعموم ترتبط فكرة المنع بأفكار أعظم، منها “الحُريَّة” والتشكيل النسقيّ العامّ للأمَّة، والظهير الأيدولوجيّ لها، وأفكار أخرى عديدة. وهنا أنوِّه على أنَّ ما جاء بمنتهى الحسم والوضوح على لسان بعض الشخصيات هو في الأصل موضوعات بالغة العمق والتفرُّع والتعقيد قد لا تتسق ولهجة الحسم هذه. وإنَّ الفلاسفة بل العقول الجمعيَّة للأمم لا تحسمها أصلاً ولا تستطيع، بل تختار فقط.
وباختصار بالغ، وبالعموم أيضًا فإنَّ “المنع” هو تصرُّف إجرائيّ ينبع من موقف هو الرفض للشيء. فالذات ترفض الشيء موقفًا ثمَّ تمارس عليه المنع إجرائيًّا بعد ذلك. والمنع تصرُّفًا وموقفًا يقوم به الأفراد وتقوم به الدول والجماعات. فهو عنصر من عناصر السلوك الإنسانيّ، وهو شقيق الموقف الآخر للإنسان -عمومًا- أيْ “القبول” والرفض. فهُما الموقفان الأساسان للإنسان في حياته. وكما سلف تتعلَّق فكرة المنع، وموقف الرفض بأفكار أعمق وأعقد كثيرًا؛ منها ما يمكن أنْ يُسمَّى “المرجعيَّة”. والتي على أساسها يقرر الإنسان موقفَيْ القبول أو الرفض، ويُؤسس عليه إجراءه من السماح أو المنع.
وننوه هنا إلى أنَّ الفيلم صدَّر “المنع” كعدوٍّ يحارَب وهذا ليس صحيحًا أبدًا، بل كما يرى كل شخص المنع تصرف اعتياديّ تمامًا في حياة الأشخاص والشعوب؛ بل هو والقبول العنصران الأساسان في الموقف الإنسانيّ تجاه غيره من البشر وتجاه الأشياء. وضيوف الفيلم بألسنتهم طالبوا بالمنع وهم لا يدرون؛ فعندما قرَّروا أنَّ أشياء – كحظر الرقابة على الكتب مثلاً- يجب ألا تحدث فمعنى ذلك أنَّهم طالبوا بمنعها. فقد اتخذوا موقفًا هو “المنع” حيال ما رفضوه. وهذا الأمر الأول الذي يجب أنْ يوضَّح في فلسفة المنع.
الأمر الثاني أنَّ بعض الأقوال في الفيلم لمْ تستطعْ أن تميِّز بين “المنع” وبين “التنظيم”. فليس تنظيم الشيء منعًا له. فمثلاً ضيفة في الفيلم اعترضتْ على أنَّ إدارة المدينة الجامعيَّة للطالبات تحدِّد ميعادًا لدخول الطالبات إليها! وهنا قد خلطتْ بين المنع وبين التنظيم؛ فإنَّ بنات الناس اللاتي ذهبن للتعليم هنّ أمانة في أعناق تلك المؤسسة والمدينة الجامعيَّة ليست فندقًا بالإيجار ترجع إليه الفتاة وقتما تحب. بل هو مكان يتيح للبنات المُغتربات السكن ليتمكَّنَّ من الدراسة، لذلك يضع لهنّ مواعيد مُحددة -وهنّ أمانة الآباء عنده- ليرجعن، ويسمح بالإذن المنفرد لممارسة نشاط تعليميّ بعد مواعيده. ولا شكّ أنَّ نقطة كهذه يجب أنْ توضَّح ليس لكبار السنّ الذين سيشاهدون بل لصغارهم الذين قد تختلط عليهم الأمور فيُظهرون البطولة في غير مكمنها، من موقف مُضلِّل لهم. ولعلَّ الجميع يعرف أنَّ التنظيم يصير حُجَّة للحكومات مثلاً لمنع أشياء كثيرة ليس من حقها منعها. ولكنَّ هذا لا يبرر إسقاط التنظيم بالقطع! بلْ نُواجه التبرير وليس الأصل “التنظيم”. فالتنظيم أمر أساس في إدارة الأمور جميعها.
نأتي لنقطة أخرى وأخيرة في فلسفة المنع: هي ضرورة وجود مرجعيَّة أو حاكميَّة أو نقطة استناد عليها نؤسس كمجتمع ما الذي نجيزه ونسمح به وما الذي نمنعه ونبتعد عنه. هذه الحاكميَّة لا يمكن التفكير في أمر الممنوع والمسموح إلا بها. هذه المرجعيَّة هي المِسطرة التي سنقيس عليها أفعال المجتمع. وهي التي سيكون عليها الاعتماد في أن يكون الشيء صوابًا أو أن يكون خطأً. فهي نقطة لا يستغني عنها أيّ نظام مهما كان؛ لأنَّه سيُسأل: على أيّ شيء سنبني الأحكام على أفعالنا؟ وعلى أيّ شيء سنقيِّمها؟
وقد قِيْلَ في الفيلم بعض من الممنوعات الاجتماعيَّة توحي أنَّها من وحي الحريَّة الفرديَّة، وهي كلمات مُبهمة بعض الشيء لا تترك الإنسان إلا في حالة من الدوار منها يرى أن قُبلة شاب لفتاة في الشارع أمرً جميل.. هذا القول قد يُوحي بالحريَّة وتصوُّرِها الجميل في الذهن. لكنَّ القول العفويّ هذا في الحقيقة حُكم أخلاقيّ، يستند على حاكميَّة هي القبول الشخصيّ للأشياء. أيْ أنَّه ردَّ معيار تقييم الأفعال إلى قبوله ورأيه الشخصيين. إلأ أن عيب هذه المرجعيَّة عدم إمكان تطبيقها أبدًا -إلا في نطاق الشخص المفرد أو العائلة الضيقة للغاية- ففي الموقف الذي يقرر فيه إنسان -استنادًا على رأيه أو قبوله- جَوَازَ فعل كهذا لا يستطيع هو نفسه أنْ يمنع شخصًا آخر من فعل آخر قد يضرُّه أو يسيء إليه لأنَّ هذا الآخر سيكون مُعتمدًا على نفس المرجعيَّة التي ارتضاها الشخص الأوَّل وهي “قبوله الشخصيّ ورأيه” أيضًا.
وللعلم فإنَّ حالة “الليبراليَّة المُطلَقة” حال لا يمكن تطبيقها أبدًا، وهي في الكُتُب فقط تسطر أو تقال أمَّا على أرض الواقع فإذا افترضنا تطبيقها فسينهار المجتمع في دقائق قبل أنْ نكمل بيان تطبيقها؛ لأنَّ كلّ إنسان سيفعل ما يريد، وهذا وحده كفيل بهدم كل شيء. لذلك تلجأ بعض الدول في تطبيقها الليبراليَّة إلى الليبراليَّة المُقيَّدة أو المُخفَّفة، وتحاول إيجاد كثير من الضوابط منعًا لانهيار الأمر كليَّةً. وقد سلف أنَّ موضوع الفيلم بالغ الصعوبة والتعقيد في حقيقته.
ووهم آخر يتعلق بالأمر في مجتمعاتنا العربيَّة هو الظنّ بأنَّنا أصحاب القيود والممنوعات وأنّ العالم الغربيّ عالم مُتحرِّر لا قيود فيه. وللأسف نجد هذا الكلام على ألسنة كثير من الكُتَّاب والمثقفين العرب. وهذا بالقطع أمر مرفوع (كلمة منطقيَّة تعبِّر عن المُستحيل) فإنَّ الإنسان بالعموم لا يمكن ألا أنْ يختار. ومعنى “الاختيار” هو الاتجاه ناحية شيء ورفض شيء آخر هو الممنوع. فلا يمكن أن يتوقع إنسان أنَّ هناك مجتمعًا بلا ممنوعات، ولا يصلح الأمر أصلاً بل هو محض ارتباك واضطراب فكريّ تفرضه مناقشة أمور الفكر والفلسفة بغير الهدوء اللازم لها.
هذا اختصار بالغ لبعض النقاط الأساسيَّة التي ناقشها الفيلم ويجب توضيحها كيْ لا يقع مُشاهد الفيلم في اضطراب. ولعلَّ هذا الفيلم يواجه مجتمعنا اليوم ليقول له: فلنفكِّر في قضايانا الحقيقيَّة في مجتمع يغرق عن بكرة أبيه في قضايا زائفة مصنوعة تُلهِيه كلَّ يوم عن قضاياه الحقيقيَّة. وهي سمة المجتمع المريض، وهذه دعوة للصحَّة نوجِّهها له.