فيلم “أحمد زبانه”: مراوحة بين التأريخ وغياب التوابل السينمائية
بعدما وضعت الكتابات الصحفية أوزارها، وخفت الزوبعة التي أثارتها العديد من الجهات الفنية والتاريخية، حول فيلم “أحمد زبانه”، لمخرجه السعيد ولد خليفة، وكاتب السيناريو عز الدين ميهوبي، أظن بأنه حان الوقت الذي أكتب فيه على ما أسميه قراءة مهنية في هذا الفيلم.
وربما يكونالأمرالذي منعني من الكتابة رغم مرور شهور على تاريخ أول عرض للفيلم، هو ردود الفعل التي أثارها قبل وبعد انجازه، من صناع السينما أو ممن عايشوا حقبة الشهيد “أحمد زبانة” الذي يدور في فلكه هذا الفيلم، إذ انقسم الرأي ما بين مؤيد له ومعارض، أرجع وأقول بأن السبب الذي منعي هو خوفي أن أتأثر برأي من هذه الآراء، على حساب الفيلم، وهذا ما سيؤثر بشكل أو بآخر على “ريبارتوار” السينما، لذا تريثتعلني أفلح وأنصف.
حرب الذاكرة أو كتابة التاريخ من زاويتين
دائما ما يصاحب الأفلام التارخية التي تدور أحداثها حول الثورة الجزائرية، أو أحد رجالتها، حرب موازية لهذه الأفلام، بين فرنسا والجزائر من جهة، ومن جهة أخرى بين الجزائريين، لكنها حرب لا تستعمل فيها البنادق والمدافع والطائرات الصفراء، بل هي حرب تأريخ وذاكرة، حرب من يصنع التاريخ ومن يكتبه، من يحتفظ بالأرشيف الورقي الموثق، وبين من يعتمد على الأرشيف الشفوي.
ولكي لا تختلط الأمور على الباحث عن الحقيقة التاريخية من أي بلد كان، خاصة الذين يأخذونها من شاشات السينما، وما أكثرهم، اتخذت الحكومة الجزائرية إجراءات عملية كي تخفف من حدة النقاشات التي لا تغني الذاكرة بشيء، إذ أقر برلمانها قانونا حول السينما صوتت عليه الأغلبية، ومما جاء فيه أن أي فيلم تاريخي يتناول الثورة الجزائرية يجب أن يأخذ موافقة من وزارة المجاهدين قبل أن توافق على دعمه وزارة الثقافة أو أي جهة حكومية أخرى.
لكن رغم هذا فقد حدثت العديد من النقاشات التي صاحبت عروض فيلم حول الشهيد “أحمد زبانه”، وهو أول شهيد نفذت فيه فرنسا حكما بالإعدام بواسطة المقصلة.وأهم تلك الانتقادات، هي التي صدرت من طرف الجمعية الوطنية لقدماء المحكوم عليهم بالإعدام، والبالغ عددهم 2050 عضوا، على لسان رئيسها السيد مصطفى بودينة، الذي قال إن الفيلم يقدم مغالطات تاريخية، لا أساس لها من الصحة، ويبرئ فرنسا ويصور الشهيد أحمد زبانه على أنه إرهابي وقاطع طريق.
السقوط في فخ الدراما الوثائقية
رغم توفر جميع العناصر المهمة من ميزانية وفريق تقني فرنسي محترف وممثلين، ليخرج الفيلم في أبهى حلة له، إلاأن المخرج السعيد ولد خليفة سقط في فخ الدراما الوثائقية، حينما غيب جوانب مهمة و ضرورية في بناء مشاهد وحيثيات الفيلم، ليظهر في مجمله جافا، تنقصه التوابل السينمائية، التي تخلق روابط روحية بين المتلقي والفيلم، وتلامس البعد الإنساني فيه، ليتحول بطل فيلم “أحمد زبانه” والذي أدى دوره الممثل الشاب عماد بن شني، إلى رجل آلي، لا يستمتع بشروق الشمس ولا بغروبها، لا يتحسس أوراق الأشجار، ولا يسمع خرير الماء، ليست له أحلام يمتطيها عندما تستقل البلاد، لا يطلق النكات، جاد في طباعه وملامحه، وكأنه مبرمج لغاية معنية.
كل هذه التفاصيل، أو ما تعرف بالحبكات الثانوية،ساهمت بشكل ما، في التقليل من أهمية الفيلم، رغم القامة الكبيرة التي عالجها، خاصة وأن الشهيد أحمد زبانه يعد صاحب قيمة ثورية كبيرة، ويكتسب رمزية تاريخية، بوصفه أول من يعدم بالمقصلة، ومن الذين عانقوا هذه الفكرة وتفطنوا لها هو الإعلامي والناقد السينمائي نبيل حاجي، الذي قال “بأننا لم نلامس روح ووجدان “زبانه” في رحلته النضالية والحربية، موطن ضعف فيلم “زبانه” يكمن في أن كلا من ميهوبي وولد خليفة تورطا في البحث التاريخي والمصادر القليلة عن شخصية “زبانة” الذي عاش أياما بعد اندلاع الثورة، وأهملا الحياكة السردية والبناء البصري.. التي يتطلبها أي فليم سينمائي، وهو الذهاب بالمتفرج في أجواء من السحر يعانق الحقيقة”.
مخرج الفيلم سعيد ولد خليفة
وأرجع وأقول إنه رغم التجارب السابقة للمخرج السعيد ولد خليفة (أخرج أربعة أفلام)، واهتمامه بالنقد السينمائي، وقد كنت من المعجبين بمقارباته السينمائية، إلا أنه لم يستغلها بطريقة جيدة، وأغفل أشياء مهمة في الفيلم، ولو تداركها في حينها، لكانت الصورة مغايرة تماما، خاصة الحبكات الثانوية التي تتماشى مع الموضوع الرئيس كما سبق وقلت.وتقول الخبيرة ومستشارة كتابة النصوص في هوليوود: ليندا سيجر، ” تؤدي الحبكة الجيدة عدة وظائف، وهي أن تضيف بعدا للنص، حين يكون البطل الرئيس يصنع القصة، يكون منشغلا بالأحداث، ولكن الحبكات الثانوية تعطي البطل فرصة أن يشم الزهور، وان يحب، وأن يستمع بهوايته”.
لذا نرجع ونقول إن العمل كان فيلما دراميا وثائقيا أكثر منه فيلم روائي، ويرجع هذا للأسباب والمعطيات التي سبق ذكرها، نختصرها في غياب الانسجام والروح والفنية اللازمة، والتعويل على المشاهد التسجيلية.
نقاط القوة تتحول إلى نقاط ضعف
لم يستغل المخرج سعيد ولد خليفة، وكاتب السيناريو عز الدين مهوبي، الشهرة العالمية التي إكتسبها أحمد زبانه، والمعطيات الضرورية المتوفرة، لصناعة فيلم بحجم الشهيد.
ومن أهم تلك المعطيات، الرسالة المؤثرة التي كتبها الشهيد قبل إعدامه، والمقصلة بوصفها آلة إعدام جديدة، وزبانة أول ضحاياها، وتعطلها مرتين أثناء تنفيذ الحكم، والعلاقة القوية التي كانت تجمع الشهيد مع عائلته، هذه الأخيرة مغيبة تماما طوال مئة وأربعين دقيقة مدة الفيلم، أقول إن هذه المعطيات كانت ستكون حلقات قوة في الفيلم، لكن سوء استغلالها حولها إلى نقاط ضعف، ولو توفر نصفها لدى مخرج من هوليوود، وكانت الشخصية غربية، لصنع فيلم من الطراز العالمي، وتحول زبانه إلى ” تشيجيفارا”.
وعندما نبحث جيدا في تاريخ السينما العالمية نجد أن هناك العديد من الأفلام التي تدور حول السير ذاتية، استطاع منتجوها أن يحولها إلى رموز عالمية، ومنها فيلم وليام والاس الذي أدى دوره الممثل الكبير “ميل جيبسون”، هذا البطل- أقصد والاس- الذي يتشابه كثيرا مع أحمد زبانه، خاصة وأن كلامها يبحث عن استقلال بلاده، وناشد الحرية، وكافح المستعمر، لتكون النهاية إعدام كل واحد منهما، ولاس بالشنق وزبانه بالمقصلة، لكن الفرق بينهما أن فريق الأول من منتج ومخرج وكاتب سيناريو استطاعوا أن يحولوا بطلهم إلى شخصية تحررية عالمية، بعدما نسجوا خيوط حب وود بينهم وبين الفيلم، وردموا الهوة والفاصل بينهم وبين المتلقي، ليدخل فيهم ويتوحد، بسبب الاحترافية الكبيرة، على عكس فريق فيلم أحمد زبانه باستثناء الفريق التقني، حيث أعاد إعدام الشهيد أحمد زبانه مرة أخرى حسب تعبير سمير مفتاح حسب تصريحه لجريدة ” الفجر” الجزائرية.
من الأدب الإستعجالي إلى السينما الإستعجالية
على العموم ليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها فيلم جزائري هذه الانتقادات والمناقشات، فقد سبقه فيلم ثوري أخر يحاكي حياة الشهيد “مصطفى بن بولعيد”، لمخرجه أحمد راشدي، لكن لا يجب أن يستغل دعم الدولة للأفلام الثورية بشكل سلبي، بل بالعكس يجب تدوير هذه العقارب في اتجاهها الصحيح، من أجل التأسيس لسينما جزائرية رزينة ومميزة، ونسج علاقة متينة مع المتلقي، بدل السقوط في متاهة السينما الاستعجالية، حسب تعبير الروائي الجزائري الطاهر وطار عن الأدب الإستعجالي، وعدم استهانة المخرجين بالتفاصيل الصغيرة، لأنها هي من يكمل الصورة الكلية للفيلم، مثل فيلم ” أحمد زبانه” وهو موضوعنا الرئيسي، لم يعطيمخرجه الكثير من الأشياء حقها، وتعامل بشكل غير مسؤول مع أشياء لا يجب إغفالها، مثل تسريحة شعر مؤدي دور زبانه، ولحيته التي لم تتغير مع باقي سجناء ” بربروس”، ومحافظته على نفس الملامح طوال فترة الفيلم تقريبا، والمبالغة في بعض المشاهد، ككثرة ثغاء الغنم والماعز وهيمنة أصواتها على السوق لكن الصورة تبرز عكس ذلك، وتصوير السجن العريق والمشهور “بربروس” سابقا و”سركاجي” حاليا، كمكان نقاهة وراحة، حيث لم يظهر أجوائه وقسوة حراسه مثلا، والحميميات التي تطبع يوميات المساجين، وكيفية تمضيتهم للوقت، حتى أن أمر السجن عندما استدعى المساجين في الساحة لم يتجاوز عددهم 12 مسجونا، وهذا ينافي الحقيقة، كما أن أقمصة المساجين الداخلية البيضاء نظيفة دائما، لا توجد بها ولا قطرة عرق واحدة، هي ملاحظات وأخرى، أهملها المخرج وكاتب السيناريو على السواء، لأسباب مجهولة، لكن المعلوم هو أن الفيلم جاء من أجل سد ثغرة في السينما الجزائرية، فحفر أخرى أشد اتساعا.