“فيلا 69”.. ذاكرة الماضى التى غيّرت الحاضر
وختامها فيلم مختلف وجيد.. فيلم “فيلا 69” هو آخر الأفلام المصرية التى عرضت فى موسم 2013، والفيلم الروائى الطويل الأول الذى تخرجه أيتن أمين، بعد تجربة لافتة فى مجال الفيلم الروائى القصير، رغم بعض الملاحظات على السيناريو، إلا أننا أمام تجربة مميزة، أفضل ما فيها برأيى أن الفكرة كان يمكن أن تنتهى الى عمل كئيب ومزعج، ولكن المعالجة الجيدة انتهت بنا الى عمل به الكثير من الأمل، والمواقف الإنسانية، شئ أقرب الى السهولة الممتنعة.
لا ينتمى “فيلا 69” الذى كتبه محمد الحاج ومحمود عزت فى عملهما الأول، الى سينما الحدوتة التقليدية، ولكنه ينتمى الى فيلم الشخصية والحالة والمشاعر والأحاسيس، لا توجد حبكة نمطية، وإنما سلسلة مواقف هدفها أولا رسم بورتريه إنسانى لشخصية مختلفة، سواء فى تركيبتها أو فى قدرتها على مواجهة مصيرها، تستهدف المعالجة ثانيا تقديم ونسج مواقف تصنع نوعا من المناخ العاطفى الذى يمزج ذكريات الماضى بالحاضر، فى “فيلا 69” حنين حقيقى ليس فقط الى الذاكرة، ولكن الى تلك النوعية المختلفة من الأشخاص، فى زمن تحول فيه البشر الى أرقام، تتحدد قيمتهم بالتقليد وليس بالمغايرة أو التفرد.
على قدر تقليدية بطل الفيلم حسين (خالد أبو النجا)، جاءت المعالجة غير تقليدية، رغم أن حكاية حسين يمكن روايتها أيضا بشكل كلاسيكى تماما: رجل يعانى من مرض خطير تتغير حياته بدخول شقيقته وحفيدها الشاب الى حياته، يمكن فى هذه الحالة أن تقدم تقريرا للمتفرج عن نوعية المرض، وبداية اكتشافه، وربما التاريخ المرضى السابق للبطل، ومخاوفه على ميراثه، مع فلاشات متنوعة عن علاقته المتوترة مع شقيقته، وأسباب التوتر، وحكايات حبه وعشقه، وأصدقاء الماضى، وزملاء الجامعة، ثم تفاقم المرض، ولحظات الرجل الأخيرة.
بسيط ومعقد
ولكن المعالجة جعلت المرض أقرب الى خلفية الصورة، وكأنه اللون الأسود الذى يجعل خطوط وملامح الشخصية أوضح وأكبر، مجرد حيله لرسم معالم رجل يجمع بين البساطة والتعقيد، تتحول حكاية المرض الى وسيلة تكشف ذكريات قديمة، وعلاقة مضطربة مع الأقارب، ومنفتحة مع الخدم، ومرتبكة مع جيل آخر يمثله حفيد شقيقته، نعرف فى المشاهد الأولى أن حسين، المهندس الكبير الذى يقطن بمفرده فى فيلا 69 الواقعة أمام النيل، يتعاطى بعض الأدوية، ولكن خطورة المرض لن تتضح إلا فى وقت متأخر، ونتيجة هذه الخطورة لن تظهر أبدا، لأن هدف الرحلة عدم إغلاق أى قوس من الأقواس.
تفتح الكاميرا على أمواج النيل، هناك بقعة ضوء تتحرك حولها المياه فتصنع دوائر بلا نهاية، صوت حسين المفعم بالشجن يتذكر ماضيه: أول قبلة، أعوامه الثلاثة فى باريس، نسمع الأغنية الوهابية البديعة “كان أجمل يوم يوم ما شكى لى”، سيصبح اللحن، والمقدمة الموسيقية للأغنية هما تيمة موسيقى سمير نبيل التصويرية، التى سنسمعها فى مشاهد قليلة على مدار الفيلم.
حسين شخصية قوية وصارمة، يتعامل بغضب مع الشاب الذى يعمل معه فى مكتبه الهندسى، يكرر حسين دوما كلمة تعبر عن القرف الشديد، ولكنه يتعامل بمودة واضحة مع خادمه عبد الحميد، ومع ممرضته هناء (المخرجة الشابة هبة يسرى فى دور مميز أدته ببراعة وحضور وتلقائية)، الخدم ينادونه باسمه مجردا بلا ألقاب، يسأل الممرضة عن أدق تفاصيل حياتها، أخوها الذى يضربها، خطيبها الذى لا يستطيع توفير ما يكفى من أموال لإتمام الزفاف.
ليس هناك ما يشغل حسين سوى إعادة الترتيب الصارم لمكتبته، كل كتاب فى مكانه، أو تقديم الطعام لقططه الصغيرة، أو مراقبة جاره اللواء السابق الذى لا يتوقف عن الجرى بدعم من الحقن التى تعطيها له هناء (المخرج خيرى بشارة فى دور عدّاء صامت)، مع غياب الخادم عبد الحميد فى قريته بدعوى رعاية والده المريض، تظهر الأخت نادرة (لبلبة)، وحفيدها الشاب سيف (عمر الغندور)، حجة نادرة سفر ابنتها، وعدم عثورها على مفتاح شقتها، ولكنها تقتحم عالم حسين المغلق، المهندس الذى لم يخرج منذ شهر، ومعها حقائبها، وحفيدها، وسائقها وسيارتها، ومشاحناتها، وفوق كل ذلك، شخصيتها القوية .
نسيج ماهر
بعد أن قدم الفيلم شخصيته المحورية، تسير العلاقة فى اتجاه التوتر بين حسين وشقيقته وحفيدها معا، كان يمكن فى رأيى أن يتوازن السرد بشكل أفضل بحيث لا تغيب الشقيقة طويلا عن الصورة حتى كدنا ننساها، ولكن فى مقابل عدم التوازن الواضح، فإن البناء ينسج بمهارة تطور مشاعر حسين من رفض وجود الحفيد، الى التواصل معه، ومع الفتاة آية التى يحبها (سالى عابد)، بل ومع جيله كله، حيث يعزف حسين على العود، فيعزفون معه بآلاتهم الغربية، تتطور أيضا علاقة حسين مع نادرة من الغموض الى المكاشفة، حيث نعرف أنه يعاملها بجفاء لأنها هدمت فيلا الأسرة والذكريات فى المعمورة لبناء عمارة كبيرة، كما أنها حاولت أن تفعل نفس الشئ فى فيلا 69 لولا حضوره من باريس.
حسين يضع قدما فى الحاضر، وقدما أخرى فى الماضى، له عشيقة هى سناء (أروى جودة) هى ابنة صديقه، الفتاة مصورة تعلقت به لمدة سنة، تركها، ثم استعاد علاقته معها منذ شهر، هذا الشهر هو سر الفيلم، لايقول الفيلم أبدا أنه توقيت اكتشاف المرض الخطير، من وقتها لم يذهب حسين الى مكتبه الهندسى، استعاد فتاة أحبها، سنكتشف أخيرا أن الشقيقة لم تأت طامعة أو شامتة، ولكنها عرفت من خادمه بالمرض، جاءت لترعاه، وذهب الخادم، ليس لرعاية والده، وإنما لأنه لا يستطيع أن يبقى لمشاهدة نهاية مخدومه الذى أحبه.
بلا نهايات
يغلف هذه المواقف الحاضرة ذكريات مندثرة اندمجت فى البناء، يظهر رفاقه وزملاء السبعينات وصديقته القديمة إحسان داخل حجرته، نراه طفلا صغيرا يجرى يلعب مع طفلة تمثل نادرة وهى صغيرة، لا تقدم هذه المشاهد باعتبارها فلاشات صريحة الى الماضى، ولكنها تعرض كجزء من الحاضر، وكأن الماضى اقتحم فيلا الذكريات، لم تعد الفيلا مجرد مكان وجدران، ولكنها الماضى موصولا بالحاضر الذى يمكن أن يتغير، كلما جاءت الفرصة سمعنا على شريط الصوت أغنيات قديمة مثل سهرت منه الليالى لعبد الوهاب، أو موسيقى ذكرياتى للقصبجى التى يعزفها حسين على العود، رأينا حسين ينحاز أيضا الى أغنية “غلبت أصالح فى روحى” لأم كلثوم ضد “إنت عمرى” التى يعتبرها “أزبل” (من الزبالة) أغنيات المطربة الشهيرة.
يتم اختزال المرض فى لقطات قصيرة متكررة لحالات القئ التى يحاول حسين أن يخفيها، تمتد جسور بينه وبين حفيد أخته، يبدو أنه رأى فيه شبابه، تنهار سناء عندما تعرف حقيقة مرضه، ولكن حسين يتخلى تدريجيا عن سلبيته، يوفر للمرضة وخطيبها فرصة الزواج، يهديهما طقم الصينى العائلى، يفتح أمام الحفيد سيف آفاق معارف جديدة، كأنه ابنه الذى لم ينجبه، سنعرف أن حسين تزوج مرتين من قبل بلا نجاح أو سعادة، لا ينتهى الفيلم بنهاية حسين، ولكن ببدايته الجديدة: يخرج بسيارته العتيقة، بذكرياته الكاملة، بصحبة سيف وصديقته آية، الماضى والحاضر معا، تخترق السيارة ميدان التحرير،وشوارع وسط البلد، تندفع لتذوب فى عمق الصورة، بينما ترتفع الكاميرا الى أعلى مع أصوات صخب المدينة.
ليس فى “فيلا 69” نهايات من أى نوع، لأنه ببساطة وصف لحالة، هناك تغير ولكن بطئ وناعم وغير محسوس، تستطيع أن تتحدث عن مصالحة بين ذكريات طاغية وحاضر مزعج ومستقبل غامض، ما زال النيل يجرى، ومازال الأصدقاء يعيشون فى حجرة نوم حسين، ومازال المهندس المريض قادرا على تغيير حياة غيره، ما زال فى العمر بقية يمكن أن تحوّل النهاية الى بداية.
باستثناء الطريقة الباهتة وغير المتوازنة التى ظهرت بها شخصية نادرة التى أراها شخصية محورية وثرية لم تأخذ مساهتها الواجبة، فإن الفيلم متماسك بصفة عامة، شخصية حسين نفسها شديدة الطرافة، صريح الى درجة الوقاحة، ولكنه طيب القلب، علاقته بالخدم والممرضة رسمت ملامح إنسانية لامعة، كما منحت الفيلم لمسات كوميدية جيدة، اجتهد خالد أبو النجا بمساعدة الماكياج فى تقديم شخصية صعبة وأكبر من عمره، أفلتت منه بعض المشاهد فلم يكن مقنعا فى مسألة فارق السن، أتحدث بالتحديد عن مشاهده مع سناء، المفترض أنه زميل والدها، وفى مثل سنه، فى مشاهد أخرى كثيرة نجح أبو النجا فى ضبط التعبير، ولكنه لم يتخلص أبدا من فوضى اضطراب الكلمات وسرعتها عند الغضب أو الإنفعال، ربما كان من الأفضل أن يؤدى الدور ممثل أكبر سنا بالفعل بدلا من هذا الصعود والهبوط الملحوظ فى الأداء.
لبلبة أيضا كانت تائهة، بدا أداؤها مصطنعا، ولم تجد مساحة لكى تعبر الشخصية عن جانبها الإنسانى، نادرة قوية الشخصية وصدامية مثل شقيقهأ ولكنه تحبه فعلا وتريد أن تقف معه فى أيامه الأخيرة، هبة يسرى كانت الأفضل بحيوية دورها وتلقائيته، كما كان الثنائى عمر الغندور فى دور سيف وسالى عابد فى دور آية جيدا ومعبرا عن جيل جديد مختلف ومتمرد، الاثنان فى أول أدوراهما.
نجاح أيتن أمين الأهم كان فى خلق ونقل هذا الجو الإنسانى الحميم مع القدرة على استغلال كل أجزاء الفيلا تقريبا من السطح الى البدروم، ومن النيل الى الأشجار والشرفات والردهات وحجرات النوم، حاصرت بطلها فى تكوينات مغلقة مناسبة، لعبت اللقطات المقربة الكثيرة دورا هاما فى نقل تعبيرات الوجوه وانفعالاتها، بدا المكان باردا ومكتوما، حسام شاهين مدير التصوير استخدم بشكل جيد مصادر الضوء الطبيعى فى النهار، وأنوار الأباجورات ليلا، هناك دوما حزمة من الضوء تحاول النفاذ الى عالم أو وجه أو حجرة حسين، مشاهد الماضى المندمجة فى الحاضر قدمت أيضا بذكاء وسلاسة، وإن كانت ستحدث بعض الإرتباك عند من اعتاد على السرد التقليدى.
“فيلا 69” عمل طموح ومؤثر، نجح فى أن ينقل عالم بطله الداخلى والخارجى، وصف أزمة، ولكنه منح أملا، وقدم التحية الى الذين قاوموا هدم ذكرياتهم الجميلة، وحاولوا القتال حتى آخر نفس لتغيير حاضرهم، ظلت الفيلا وصاحبها شهودا على التمسك بحياة مختلفة لإنسان مختلف.