في بعض الصلات الممكنة بين السينما والتسامح
“البحث عن زوج إمرأتي” و”صمت القصور نموذجان
تنطلق هذه الدراسة من فرضية بسيطة مفادها أن التعامل المتسامح مع ظواهر اجتماعية انقرضت أو في طريقها إلى الانقراض كان هو العامل الحاسم في الاستقبال الجيد الذي لقيه كل من فيلم المخرج المغربي محمد عبد الرحمان التازي “البحث عن زوج إمرأتي”(1993 )وفيلم “صمت القصور” (1992)للمخرجة التونسية مفيدة التلاتلي .وسنحاول البرهنة على الفرضية المذكورة مركزين على نقاط الالتقاء بين هذين العملين.
يحكي فيلم “البحث عن زوج إمرأتي” علاقة تواطؤ لذيذ تجمع بين زوجات ثلاث لرجل واحد هو الحاج بنموسى، زوجات ثلاث يتبادلن الإطراء ويواسين بعضهن البعض ويوزعن الأدوار بينهن داخل البيت الكبير الذي يقتسمن غرفه ويقتسمن في نفس الآن عواطف صاحبه.
وبالرغم من أن المخرج محمد عبد الرحمن التازي قد صور هذا الوضع بحب وحنان واضحين )هل لذلك علاقة بإهدائه الفيلم لأمه؟( فإنه قد قام، في نفس الآن، بتصفية حساب أكيدة مع مرحلة تاريخية معينة وبالأساس مع أسلوب حياتي معين أضحى من غير المقبول بل ومن غير الممكن تبنيه بفعل التعقيدات والتغيرات التي عرفها المجتمع المغربي . لذا فإن المخرج قد أضفى على التوازن الذي يسم العلاقة بين الزوجات الثلاث وزوجهن طابعا مثاليا ليؤكد أن هذا التوازن غير قابل للتحقق على أرض الواقع ، مما يجعلنا إزاء عودة إلى مرحلة مضت من أجل القطع معها وليس من أجل التبشير بقيمها وأجوائها.
نفس هذه الموضوعة، أي موضوعة العودة ، نجدها في فيلم ” صمت القصور” الذي يتمحور حول قرار عودة إلى فضاء معين هو فضاء أحد القصور، توازيها أو هي نفسها عودة أو اسـتعادة لزمن مضى . وبالرغم من أن عالية ، الشخصية الرئيسية في الفيلم، قد عرفت إحباطات وصدمات عديدة بهذا القصر، إلا أنها اقتربت من أبوابه ومن جدرانه وما تبقى من أثاثه بحنو وحب وبثقة في النفس كذلك تدل على ذلك حركة الكاميرا الهادئة والبطيئة وتــــكرر الاستعادات)الفلاش باك(المتعلقة بلحظات سعادة وبأحزان ظلت موشومة بذاكرة عالية التي استشعرت ، حينما علمت بخبر موت سيدي علي مالك القصر، الحاجة إلى إعادة تركيب وترتيب مقاطع أساسية من حياتها وإلى القيام بزيارة إلى ماضيها قصد التصالح معه.فتوالت الاسترجاعات وتقاطعت وقائع قديمة مع شخصيات عادت من بــعيد.
ويقدم لنا الفيلم، عبر الأحداث والمناخات التي تذكرتها الشخصية الرئيسية، صورا جميلة لنساء جميلات كان رجال القصر يستمتعون بهن وبرفقتهن ، نساء ذوات وعي زائف وخاطئ يقبلن وضعيتهن الدونية دونما حرج وبقدر كبير من الجبرية وكأن قدرهن هو أن يحمين التقاليد ويحرسنها ولو كان في ذلك مس بكرامتهن .وتتوقف الكاميرا كثيرا عند جلساتهن الحـــميمة وتسجل دعاباتهن وبعض مظاهر تعاستهن ، كما تتــوقف الكاميرا عند مشاهد عشق محملة برهافة وحسية نادرتين في السينما العربية.
والفيلم لا يدين هؤلاء النسوة بل يتعامل معهن بتسامح ويتفهم عواطفهن وآلامهن ويجعلمن الصمت معبرا للتواصل العميق معهن. والصمت هو، بالفعل، مكون مركزي في هذا العمل ومن هنا وروده في العنوان في الصيغتين العربية والفرنسية وإن كانت الصيغة الفرنسية Les silences du palais)( هي أكثر توفـقا في الإعلان عن أجواء الفيلم باعتبار أن حالات وأنماط الصمت المشار إليها هي عديدة ومتـباينة كذلك ، فهناك صمت يعني الخنوع وآخر يكشف عن رغبة محتجبة .
وقد يعني نمط ثالث تواطؤا من نوع خاص بين شخصيتين كما هو الأمر بين سيدي علي وعالية أو توترا له مبرراته كما هو الحال بين عالية وأمها ، وقد يعني أحيانا عدم اكتراث أو احتجاجا كما هو الأمر مع عالية التي اختارت أن تصمت طويلا بعد أن شهدت كيف أن أمها تغتصب ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها.
وشخصية عالية هي بالتأكيد ذات طابع مأساوي، فسيدي علي لم يجرؤ على إعلان أبوته لها رغم حبه لها واعتزازه بها باعتبارها دليل خصوبته التي لم تستطع زوجته الشرعية تأكيدها.كما أن علاقتها بأمها هي علاقة متوترة، كما سبقت الإشارة، يتجاذبها الحب وما يشبه الكراهية إذ كانت عالية تلح وتتعمد أن تسأل هذا السؤال المحرج: “من هو أبي؟”. وازداد توتر علاقتهما حدة مع بداية اكتشاف الابنة لأنوثتها. وقد جعلت عالية، بوعي منها أو دون وعي، من حياتها نسخة أمينة من حياة أمها، فهي الأخرى عاشت مع صديق لها دون زواج وحملت منه وتخلصت من حملها مكرهة.
ورغم أنها تعتبر نفسها مغنية فاشلة، فإن الفن قد لعب دورا مهما في حياتها وكان عود أهدته لها أمها بمثابة البلسم الذي جعلها تتجاوز وضعية جد صعبة . كما أنها ذات مرة أعلنت تمردها بترديدها لأغنية وطنية في حفل بالقصر مما أثار هلع الضيوف الأرستقراطيين . وسيصفها صديقها ذات نقاش بأنها” مترددة كالوطن “. وفي نهاية الفيلم و بما أنها كانت حاملا من جديد فقد أصرت، ضدا على رغبة صديقها، على أن تحتفظ بالجنين الذي في أحشائها وفاء، بمعنى من المعاني، لذكرى أمها.
وفيما يتعلق بشـخصية الحاج بنموسى، فإن فيلم “البحث عن …” لا يقدمه بوصفه متسلطا أو أنانيا ، بل يقدمه كرجل طيب وشهم يقع بسرعة تحت سحر الجمال الأنثوي. وهو يضعف ويتألم كثيرا حينما يضطر لفراق زوجته الشابة هدى. ونحن، باعتبارنا متلقين، نتعاطف معه دون أن نتفق معه، كما أننا نستمتع بالجانب المرح من شخصيته سواء تعلق الأمر بتصوره للعالم أو بسلوكه اليومي.
وهذا الجانب من شخصيته جعل السجل الهزلي مستثمرا بشكل وازن في الفيلم لضمان التواصل مع الجمهور العريض إن عبر الحركات المبالغ فيها والتي تذكرنا بأجواء الكوميديا دي لارتي Comedia delarte أو عبر اســتعمال بعض التعابير الشـــعبية وترديدها للـــتأكد استعمال الجمهور لها لاحقا كمناداته للزوجة الأولى بللا حبي “1”.
وهنا نرغب في الإستشهاد بالروائي المبدع ميلان كونديرا Milan Kunderaحينما اعتبر أن ” الفكاهة هي المجال الذي يعلق ]أو يؤجل [فيه الحكم الأخلاقي” “2”. لذا فإننا لا نشعر بأننا مطالبون بأن ندين أو نساند الحاج بنموسى في “غرامياتـــــــــه المرحة ” بل إننا نجد أنفسنا نقوم بدور شهود يستمتعون بما يقدم إليهم .و هذا لا ينفي أن شخصية الحاج بنموسى لها جانبها المأساوي هي الأخرى فهو يواجه وضعا لم يستطع حله ،ولأنه” يعيش بحرقة ودونما وعي حالة قصوى من حالات التوتر بين الحداثة والتقليد “3” كما أنه أحس بأنه غبن مرتين : غبن حينما تسرع في تطليقه لهدى وغبن ثانية لأنه لم يحسن اختيار الزوج المحلل الذي سيجعل من زواجه من هدى زواجا حلالا وإن كان يتم للمرة الثالثة . غير أن الطابع الهزلي لتصرفات الحاج بنموسى هو ما يجعلنا نتناسى البعد المأساوي في شخصيته.
لقطة من فيلم “البحث عن زوج امرأتي”
وفي المقابل تتميز شخصية سيدي علي في “صمت القصور” بوقارها واتزانها إذ أنها لا تنسى انتماءها الأرستقراطي. وهو يتشبث بعلاقته غير الشرعية مع أم عالية من غير أن يتخلى عن الإمتيازات التي يوفرها له وسطه الأسروي والمجتمعي، هذا الوسط الذي يتسامح ويقبل هذا الوضع الملتبس لأن اختراق الممنوعات والتستر على الخرق يشكلان جزءا من تقاليده وأعرافه. وبالرغم من ذلك فإن مفيدة التلاتلي لا تنتظر منا أن نكره سيدي علي، بل تجعلنا في بعض المشاهد نعجب بوقاره ونحسده على علاقته بأم عالية.
والملاحظ أن الفضاءات التي تتحرك فيها شخصيات فيلم “صمت القصور” هي فضاءات مغلقة ومنغلقة على نفسها مما يؤكد انفصال القصر عن العالم الخارجي. كما أن الكاميرا تركز على الأبواب وهي تغلق حتى داخل القصر نفسه الذي يأوي عالمين متجاورين ولا يتقاطعان إلا في سياقات معلومة ونعني عالم أصحاب القصر وعالم الخدم الذي تنتمي إليه أم عالية .وفي بعض لحظات الاسترخاء القليلة تخرج الكاميرا إلى الحديقة لتجعل الشخصيات تتحرك بحرية أكبر. وهذا الإحساس بالانطلاق هو الذي جعل سيدي علي يطلب من عالية ، ذات صباح مشمس، أن تأتي لتلتقط لها صورة معه ومع أفراد الأسرة كاعتراف ضمني منه بأبوته لها وجاعلا منها بذلك نقطة تلاقي هشة بين العالمين المذكورين آنفا.
وصفة انغلاق الفضاءات تنسحب بنفس القوة على الفيلم المغربي الذي جعل شخصية الحاج بنموسى هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن تدبير تحركات الشخصيات النسائية .وما سبق له ارتباط وثيق بتصوير الفيلمين لوضعية اجتماعية معينة هي وضعية الحريم ، هذه الوضعية التي خصصت لها الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي العديد من المؤلفات ومن بينها سيرتها الذاتية الروائية ” نساء على أجنحة الحلم “4”.
في هذا الكتاب تتذكر الباحثة بفرح لحظات من مرحلة الطفولة كما عاشتها في حريم بمدينة فاس خلال منتصف القرن الماضي واصفة أجواء التسامح وكذا بعض عوامل التوتر التي كانت تسم العلاقات القائمة بين أفراد من أسرتها و أفراد من عائلتها، ومشيرة إلى الصدمات المتــــكررة )الاستعمار ، تمرد الأبناء …(التي أثرت بشكل عميق على التوازن الذي كانت عائلتها تعيش في كنفه. وقد اعتبرت فاطمة المرنيسي أن وضعية الحريم تفترض تقسيم الأمكنة إلى صنفين: صنف داخلي مخصص للنساء وصنف خارجي لا يقبل الحضور الأنثوي، وتفترض هذه الوضعية كذلك فهما معينا، أي تقليديا، لطبيعة العلاقة بين الجنسين وتصورا محددا للعالم .وذلك ما يمكن معاينته، بالفعل، في فيلم “البحث عن زوج إمرأتي” حيث تتحرك النساء في فضاء مغلق، وداخل هذا الفضاء تحاول كل واحدة منهن أن تنفرد بحيز خاص بها.
وهناك بالطبع حدود مرسومة وفاصلة بين الفضاء الداخلي والفضاء الخارجي. وبما أن هدى، الزوجة الثالثة للحاج بنموسى، لم تحترم هذه التفرقة الصارمة فإنها استحقت العقاب والتطليق . ونلاحظ نفس المنطق في فيلم “صمت القصور” حيث يعيش القصر ايقاعا خاصا به يتركه بمنأى عما يقع في الخارج، كما أن القصر نفسه به حدود وموانع تفصل بين الطوابق السفلى والطوابق العليا .وأما أصداء التظاهرات ومعارك المطالبة بالاستقلال فلا تصلنا إلا عبر أحد الخدم المكلف باقتناء المؤونة وعبر المدرس صديق عالية .وتلخص فاطمة المرنيسي، التي شاركت في فيلم “البحث عن…” بدور بالغ القصر، ما تعنيه بالحريم قائلة الشخصيتين الرئيستين في الفيلمين معا، هدى وعـــالية، كان بالأساس ضد هذه الوضعية وهذا الإقصاء غير المقبول.
إن الفيلمين يختلفان من حيث السجلات التي اعتمدناها ، فأحدهما اختار أن يحاور الجمهور العريض واعتمد على تقنية التشويق وعلى المشاهد الفكاهية لاستمالة هذا الجمهور. أما الفيلم التونسي فيندرج أساسا ضمن سينما المؤلف التي تخاطب ذهن المتلقي وتطمح إلى جعله شريكا مساهما بشكل إيجابي في الفعل الإبداعي . وقد تمكن فيلم “البحث عن…” من تحقيق معادلة صعبة هي كونه نجح جماهيريا وتجاريا وحظي في الآن نفسه باهتمام العديد من النقاد . وقد يكون مرد ذلك إلى أن الفيلم قد توفق في تشخيص مرحلة محددة من تاريخ مجتمعنا “التشخيص باعتباره – كما حدد ذلك الباحث والمبدع محمد برادة – يحيل على الإنسان وعلى بيئته وتفكيره وأيديولوجيته انطلاقا من الملبس وكل الأشياء التي تشخص وجوده داخل بيئته ومجتمعه ” “6”، فعبر التشخيص يمكن تعميم فهم معين للتاريخ ويمكن إعطاء المقاربة المعتمدة عمقا أكبر فيتم تذويتها و تنسيبها. وتذويت الرؤية يقتضي بالضرورة قدرا من التسامح وابتعادا محسوسا عن الضوابط الصارمة .والمتلقي المغربي، بغض النظر عن انتمائه الاجتماعي وتكوينه الثقافي، قد تصالح عبر هذا الفيلم وتجاوب مع صورة محتملة من صوره السينمائية وتنفس الصعداء إذ تبين له أن الواقع المغربي، بتعقده وغناه، يمكن أن يشكل مادة خاما لإنتاجات تخييلية جيدة.
أما لماذا كان فيلم “صمت القصور” عملا يصعب نسيانه فلأنه يتميز بشاعرية لافتة للإنتباه وبغنائية عميقة واقتصاد صارم وباستثمار موفق للموسيقى و للغناء وبتمكن قوي من أدوات التعبير السينمائي ، ولأنه يذكرنا بتلك القولة الجميلة التي تنسب للشاعر الفرنسي أراغون: “المرأة هي مستقبل الرجل”.
* ناقد سينمائي من المغرب
الهــــــــــوامـــــــــــــــش:
1- ” للاحبي” هو عنوان الجزء الثاني لفيلم ” البحث عن زوج إمرأتيوقد أنجر سنة 1996 و خيب انتظار العديدين وخاصة لضمور الجانب الفكاهي فيه.
2-Milan Kundera , les testaments trahis , gallimard , Paris , 1993, p 16
3-Michel Serceau , Le manque et le masque . A propos de ” A la recherche du mari de ma femme” ,In :
دفاتر المهرجان ) مهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط ( ، العدد الأول ، ص 5
4-فاطمة المرنيسي ، نساء على أجنحة الحلم ، ترجمة فاطمة الزهراء أزروي نشر الفنك ، البيضاء ، 1988 .
5- المرجع السابق ، ص 222
6- وقائع ندوة : محمد برادة . رهانات الكتابة ، مختبر السرديات لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك ، البيضاء ، 1995 ، ص 52