عودة إلى الماضي: لحظات سحرية على شريط سينما
(1)
أثار فيلم “المذنبون” ضجة هائلة عند عرضه لاتتعلق فقط بمشاهده الجريئة (فهناك أفلام قبله أكثر جرأة بكثير)، ولكنى أعتقد أن مغزى الفيلم وصل لسوء الحظ الى أجهزة الدولة باعتباره دفتر أحوال الفساد فى لحظة زمنية محددة، ولسوء الحظ أيضاً، فإن السلطة الغبية تنبهت فيما يبدو الى أن الفوضى الأخلاقية فى الفيلم، والإنهيار الإجتماعى بكل أشكاله، ليس فى حقيقته إلا نتيجة لخلل سياسى عميق، وهكذا أطيح بحفنة من الرقباء الذين أجازوا العرض العام للفيلم، وأعيد النظر فى قوانين الرقابة لتكون أكثر تزمتاً، ومع ذلك، فقد شارك الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الأولى، وحصل عماد حمدى على جائزة أفضل ممثل عن دور ناظر المدرسة العجوز الذى يبيع الإمتحانات للطلبة.
الفيلم عن قصة لنجيب محفوظ: جريمة قتل ممثلة تكشف عن جرائم أخرى أخطر وأكبر، حالة من التفسخ الأخلاقى والإجتماعى الشامل التى تشمل نماذج لكل الطبقات والمهن والأعمار، من الوزير الى طالبة الجامعة، كلما بدأ المحقق (عمر الحريرى) ومساعده (سعيد عبد الغنى) الإمساك بخيط، اكتشفوا خلفه كارثة.
ورغم أن الفيلم سينتهى بالقبض على القاتل (حسين فهمى)، وكذلك على حفنة من المذنبين، إلا أن معنى الحكاية مزعج جدا: ترى كم شقة أخرى يجرى بها ما يحدث فى شقة الممثلة؟ وهل يحتاج المجتمع الى جريمة قتل حتى يلتفت الى الإنهيار الإجتماعى القادم؟ وكيف ومتى أصبح لكل شئ ثمن من الجسد الى أوراق الإمتحانات؟ وما ارتباط ذلك بالسياسة والإقتصاد والرؤية العامة؟
يعبر الإنتهاك المستمر لجسد الممثلة عن إنتهاك أكبر فى جسد مجتمع مريض ومأزوم وفى انتظار الموت، إن لم يكن عن طريق جرائم دامية، فعن طريق جرائم أخرى تنخر كالسوس فى داخله، وهو ما تحقق حرفياً فى فترات زمنية قادمة.
اعتمد سعيد مرزوق على اللقطات القصيرة التى منحت الفيلم إيقاعا سريعا، على أن يسير الخط التشويقى البوليسى جنبا الى جنب مع الخط الإجتماعى، بحيث يؤدى الكشف عن القاتل فى النهاية الى زيادة توتر المتفرج، وليس إراحته، ثم يختم الفيلم بمشهد المعركة داخل السجن، فوضى كاملة يحاول أن ينظمها ناظر مدرسة منحرف، اكتظ الفيلم بعدد ضخم من النجوم شارك بعضهم فى مشهد واحد فقط، كما امتلأ بألوان من صور الفساد فى مكان واحد بصورة لم تتكرر إلا بعدها بسنوات طويلة من خلال فيلم “عمارة يعقوبيان”، الذى كان أيضا دالا عن خلل سياسى أدى الى فوضى أخلاقية، وانهيار اجتماعى شامل لنماذج تنتمى الى فئات وطبقات وأعمار متعددة، وأعتقد أن مرزوق كان سيكون سعيداً بإخراج فيلم مثل “عمارة يعقوبيان”.
سعاد حسني في “زوجتي والكلب”
الملاحظ أن مرزوق أصبح تدريجيا يتحول فى أفلامه من الأزمة الفردية (كما فى زوجتى والكلب) الى أزمة شرائح بأكملها (كما فى أريد حلا)، أو مجتمع بأكمله كما فى “المذنبون”، أصبح الهم الإجتماعى طاغياً وخصوصا عند تحليل جرائم شهيرة كما فى فيلم “المغتصبون” المأخوذ مباشرة عن ملف قضية حقيقية، أو فيلم “المرأة والساطور” المأخوذ أيضا من جريمة حقيقية، أو فيلم “هدى ومعالى الوزير” المقتبس أيضا عن حكاية المرأة الحديدية هدى عبد المنعم، وتوظيف الأموال، حتى الفيلم الكوميدى “آى .. أى” جاء فى شكل كوميديا سوداء عن التجارة بصحة المصريين، وعن رخص ثمن المواطن العادى فى مقابل النفخة الكاذبة للدولة ومسؤوليها وحكامها.
الملاحظ أيضا أن مرزوق قدم فيلما فى الثمانينيات أكثر مباشرة بعنوان “إنقاذ ما يمكن إنقاذه” من بطولة محمود ياسين وحسين فهمى، يكاد يكرر معنى فيلم “المذنبون” عن انهيار المجتمع الشامل، ولكن بتماسك درامى وفنى أقل بكثير، وبضجة أقل بعد أن اعتادت الرقابة والسلطة فيما يبدو على تلك النوعية الجريئة من الأفلام!
(2)
فيلم “دعاء الكروان” ليس فقط أحد افضل أفلام السينما المصرية فى تاريخها كله، ولكنه نموذج لمغامرة فنية حقيقية، الرواية التى كتبها د طه حسين ليس من السهل تحويلها الى دراما سينمائية لعدة أسباب:
(1) الرواية العظيمة أقرب ما تكون الى قصيدة شعرية كما وصفها ثروت عكاشة، حافلة بالمشاعر والأحاسيس، والمزج بين الإنسان والطبيعة على الطريقة الرومانتيكية، ولكنها تحتاج الى تحويل هذا الشعر الى حركة وفعل وحوار، الدراما أفعال وليست أوصاف، الكلمة لغويا مشتقة من معنى ” أن تفعل”، كما أنها تحتاج الى تكثيف زمنى حتى لا تتسع المسافة بين قصتى الرواية: حكاية هنادى وحكاية آمنة.
(2) الأحداث غريبة تماما عن موضوعات السينما المصرية: البطلتان خادمتان، والبطل مهندس، والشرير هو العمّ البدوى القاتل، ورغم أن قلب الأحداث واقعى وخشن للغاية (جرائم القتل بسبب الشرف فى أسرة بدوية)، إلا أن الإطار والمعالجة نفسها رومانتيكية شديدة العذوبة والرقة، التحدى هنا أن تنقل الشعر المكتوب الى شعر بالصورة، وأن تسرد مأساة بمنتهى الرقة.
(3) تنتهى الرواية بشكل مفتوح، مأزق الحب الذى يجمع بين آمنة والمهندس، يعذبهما الى الأبد، عقاب مستمر وبلا حل، بينما يحتاج بناء السيناريو الى نتيجة تلزم عنه، وتتسق مع الشخصيات ومقدماتها.
(4) يمتلك العظيم طه حسين فى كل رواياته موهبة السرد والحكى، ويمتلك أسلوبا عذباّ مميزا أشبه بالجمل الموسيقية المترادفة، ولكن تظل مشكلة رواياته فى افتقارها فى مناطق كثيرة الى الوصف التفصيلى بسبب ظروف طه حسين المعروفة (فقد الكاتب العظيم بصره فى سن الثالثة إثر علاج خاطئ لعينيه)، هنا سيكون على السيناريو أن يقدم تفاصيل التفاصيل الوصفية سواء عن المكان الطبيعى أو عن أبطاله.
لحسن حظ الرواية وحظنا، فقد وقعت فى يد اثنين من الكبار: هنرى بركات منتجا ومخرجا ومشاركا فى السيناريو، والروائى يوسف جوهر مشاركا فى السيناريو والحوار، وقد نجح الاثنان بامتياز فى حل كل مشكلات نقل الرواية الى السينما.
(1) احتفظا بحيلة الفلاش باك فى السرد الموجودة أصلا فى رواية طه حسين، والتى تتيح تكثيف الأحداث، وضغط الزمن، والاستماع الى صوت آمنة ، بالمناسبة الفلاش باك حيلة سبق إليها فن الرواية، ونقلها فن السينما، وليس العكس كما يعتقد الكثيرون.
(2) لم يسترسل السيناريو فى قصة ثالثة وهى مقتل والد هنادى وآمنة بسبب تورطه فى ارتكاب الزنا فى بيئته البدوية، حتى لا يدخل فى تعقيد إضافى، اعتبر مقتل الأب مجرد بداية لمأساة طرد العائلة وسقوط بناتها.
(4) للتعامل مع ثنائية الواقعية والرومانسية تقرر أن تكون مشاهد العنف على خلفية من الطبيعة الهادئة، وأن تتم بدون دماء، بركات هو أشهر من قدم مشاهد القتل بلا دماء، وكأنها حالة انتقال حركية، ثم زادت جرعة الرومانسية فى الجزء الأخير من الفيلم، كما أن له الريف الخاص به الذى يقع فى المنتصف بين واقعية شاهين وصلاح ابو سيف فى أفلامهما عن الريف، وتجميلية محمد كريم الذى كان يقوم بغسل البقر والجاموس بالمياه “عشان الصورة تطلع حلوة”.
(5) اختار السيناريو نهاية تتسق مع أبطاله وشخوصه غير موجودة فى الرواية: العم سيواصل القتل بدعوى الشرف، والمهندس سيكتشف معنى الشرف الحقيقى عندما يكتشف الحب، وآمنة لن يبق لها سوى صوت الكروان، وكأنها كتب عليها الشقاء والصدمة بموت الأب أولا ثم موت الأخت هنادى ثم موت من أحبته، نهاية رومانتيكية بامتياز تقول إن الحب عابر للطبقات (خادمة ومهندس) ، وللعادات والتقاليد (البدو والحضر) وللأزمان ( رغبة هنادى فى أن يحبها المهندس فى الماضى تتحقق حرفيا مع أختها فى الحاضر)، كما أن الحب هو الشئ الوحيد الذى يستحق التضحية، أما العم فهو لا علاقة له بالحب، ولذلك يمثل دور مبعوث الموت الدائم.
تحكى فاتن حمامة أن فريق الفيلم زار طه حسين فى منزله قبل التصوير، وعندما عرف أنها ستلعب دور آمنة قال لها مندهشا : ” وح تعرفى تلعبيها ؟!”، حزنت فاتن من الملاحظة، وقبلت التحدى بعد أن كانت قد تخصصت تقريبا فى أدوار الفتاة القاهرية البسيطة، عندما عرضوا الفيلم للدكتور طه حسين، كان سعيدا للغاية، وقام بتهنئة فاتن بحرارة، لا شك أن شاعرية الفيلم قد طرقت مسامع عميد الأدب.
ورغم صعوبة اللهجة المحلية للغاية، إلا أن فاتن أدتها ببراعة مصحوبة بمشاعر شديدة التعقيد (من الخوف الى الكراهية الى الإنتقام الى الحب الى الشعور بالذنب)، وأحيانا تجتمع هذه المشاعر فى مشهد واحد، تؤديه فاتن بكل سلاسة، ودون أدنى مبالغة ميلودرامية، مع أن الحكاية تسمح بذلك، لاشك أن الفضل يعود أيضا الى إدارة بركات الواعية للممثلين، هو بالتأكيد من أكبر المخرجين الذين يديرون المشخصاتية، لدرجة أننى حلمت يوما بفيلم من بطولة الممثل يوسف شاهين، ولكن تحت إدارة بركات الهادئة والمقتصدة فى الإنفعال والحركة، ولا ننسى دور موسيقى أندريه رايدر التى تترجم عواطف عاصفة ومتناقضة ومثيرة للألم والشفقة.
روعة “دعاء الكروان” الرواية والفيلم فى أن الشخوص واقعية تماما، ولكنها تتحرك بقلبها وليس بعقلها، كلهم يفعلون ذلك مهما تطرفت عواطفهم أو مشاعرهم، حتى اندفاعات العم عاطفية هوجاء، الأب كان عاطفيا قتلته مغامراته، هنادى قتلها قلبها، وآمنة تعذبت لأن لها قلبا، الكروان هو الشاهد على الإنسان الذى يعيش حائرا بين غريزته وقلبه، وهو صراع بلا بداية ولا نهاية.
(3)
قبل تحليل هذه النهاية المهيبة لفيلم “المومياء”، التى تعتبر من أفضل فينالات/ نهايات الأفلام المصرية والعربية، لابد من التوقف عند أسباب اختيار شادى عبد السلام لإيقاع الفيلم البطئ من وجهة نظرى:
(1) إيقاع الفيلم، أىّ فيلم، ليس قالبا جاهزا نستخدمه فى كل مرة، ولكنه يرتبط عضويا بموضوعه، نحن فى حياتنا العادية نفعل ذلك تلقائيا، نتمهل لنشرح أشياء وعبارات معينة تستدعى التركيز والتأمل، ونسرع فى الحديث عند أجزاء تستدعى السرعة.
(2) إيقاع المومياء البطئ يرتبط بأنه عن فكرة البعث بمعناها الروحى والجسدى، فى الحاضر والماضى، عند الفراعنة وعند حفيدهم ونيس، وهى فكرة تأملية تحتاج الى إيقاع متمهل، يتيح لك تأمل الحوار والصورة شديدة الثراء بكل عناصرها، ويجعل هناك مسافة بينك وبين الشاشة، هناك تأثر وليس هناك اندماج كامل.
(3) منح هذا الإيقاع البطئ الفيلم القدرة على الإيحاء بالتوغل فى الزمن، الأحداث فى نهاية القرن التاسع عشر، والفراعنة الذين سيخرجون ينتمون الى عالم أبعد وهو عصر الأسرات القديمة.
(4) رغم أن الحبكة الظاهرة بوليسية (اكتشاف مقبرة ومهربى الأثار) إلا أن الفيلم ليس كذلك، إنه أشبه بمونولوج يدور فى ذهن ونيس، استخدام الإيقاع السريع كان سيعطى الفيلم مظهر العمل البوليسى، وهو أمر غير مقصود على الإطلاق.
(5) رغم أن الحكاية لها أصل واقعى (شاب من أسرة عبد الرسول فى القرنة بالأقصر اختلف مع أسرته على أرباح الغنيمة، فأرشد الحكومة على مكان المقبرة) ورغم أن الأحداث والتصوير تم فى الأقصر، إلا أن شكل المعالجة غير واقعى (راجع حركة الممثيلن التى تشبه المسرحيات الطقسية، وراجع الحوار بالفصحى المبسطة الذى يردده الصعايدة)، ولا يوجد إيقاع مناسب لهذا الجو غير الواقعى مثل الحركة البطيئة المتمهلة للكاميرا، التى تستكمل التأثير اللازم.
فى التحليل المرئى للنهاية العظيمة، أرجو أن تتأمل معى ما يلى:
(1) يتقدم العم خائفاً فى لقطة متوسطة بعد أن شاهد الخيول والعساكر، يحصره شادى، ويحصر أبناء إخوته ووسيط تجارة الآثار (محمد نبيه) بين صرحى المعبد حتى مع تغير الحركة والتكوين، وكأنه يقول إن الماضى قد عاد بصريا ليخنق الحاضر الجاهل ويحاصره، أبناء العم بدأوا يسألون سؤال ونيس : “هل هذا عيشنا؟”، يتحول العمّان الى كومتين مهملتين من اللون الأسود بينما تبدأ بشائر الموكب.
(2) تنطلق التوابيت المحمولة فى حراسة العساكر على الخيول، يدخل الى الكادر رجال بملابس بيضاء، ونساء بملابس سوداء، حركة الكاميرا بطيئة، ناعمة، غير محسوسة تقريبا، يتغير التكوين أساسا بسبب المستويات الثلاثة المتداخلة : المعبد بتماثيله فى الخلفية، والتوابيت والجنود فى الوسط، وأهل القرية ورجالا ونساء فى المستوى الثالث، يشبه هذا الإستغلال لعمق الصورة ما كان يفعله الفنان الفرعونى عندما كان يقسم لوحته الى ثلاثة مستويات منفصلة رغم انعدام البعد الثالث فى رسومات الفراعنة.
(3) يستمر هذا التقسيم الثلاثى فى اللقطات البعيدة لحشود النسوة النائحات (حدث ذلك حرفيا فى الواقعة الأصلية، فقد خرجت نساء القرنة تنوح على التوابيت الخارجة من مقابرها احتراما للموت وجلاله) ، يستغل شادى العبقرى الكثبان الرملية لكى يصنع خطاً لأفق الأرض، وتصنع السماء خطها المعروف لأفق الفراغ، وبينهما يقوم شادى بتحريك مجموعات النسوة (ثلاث نسوة أو أربعة معا متشحات جميعا بالأسود تذكرنا بلوحات صلاح طاهر)، أما حركة الكاميرا فهى طافية وكأنها كاهن يشارك فى طقس البعث والنشور.
(4) تتداخل لقطات أبطال الفيلم المصريين الثلاثة : ونيس الذى يخفى وجهه بيده لأنه وشى بقبيلته ، والمأمور الذى يضرب تعظيم سلام للسفينة، وأحمد كمال (محمد خيرى) الذى يتأمل المشهد من السفينة، البعث لم يكن فقط للمومياوات الخارجة من المقبرة، ولكن للمصريين الثلاثة على اختلاف مواقعهم، لاينطق أحد منهم بكلمة، ولكنهم يواصلون إيماءاتهم، لغة الجسد وحدها تكشف قلقهم أو راحتهم، يتغير منظور اللقطة ما بين الشاطئ والسفينة، وفى الحالتين هناك حركة غير محسوسة للكاميرا اكتفاء بحركة الممثلين أو خيول العساكر بحذاء النيل.
(5) على إيقاع موسيقى غريبة وكأنها قادمة من العالم الآخر (هى بالأساس موسيقى لأحد البشارف التركية تدخّل فيها مهندس الصوت أليكترونيا ليجعلها شديدة البطء)، يتجه ونيس فى عكس اتجاه السفينة، يبتعد عن الكاميرا التى تتخذ زاوية منخفضة قرب النيل، يبدو ونيس صغيرا فى حين تحتل مياه النيل معظم الكادر، تنطلق السفينة فى الإتجاه المعاكس لحركة ونيس، لا يظهر منها سوى ضوء وكأنها منارة عائمة، تحتل الكثبان الرملية معظم الكادر، تُكتب العبارة التى تلخص الفيلم كله : “انهض / فلن تفنى/ لقد نوديت باسمك/ لقد بعثت “.
هذا بالضبط ما حدث، بل لقد نجح الموتى (المومياوات) فى بعث أحفادهم الأحياء (ونيس والضابط وعالم الآثار)، هذا هو مشروع شادى كله: الماضى ليس ميتا، ولكنه قادر على بعث الحاضر، فقط نحتاج أن نفهمه، وأن نسأل انفسنا سؤال ونيس الخالد :” هل هذا عيشنا؟”
لقطة من فيلم “المومياء”
(6) تم تصوير هذا المشهد المهيب على مدى 28 يوما متتالية، لأن شادى كان يريد تلك الساعة السحرية التى تسبق شروق الشمس، لم يكن يريد مشهد موتى وجنازة، كان يريد مشهد بعث واحتفال بعودة الموتى والأحياء معا، اضطر مدير التصوير الفذ عبد العزيز فهمى الى الاستيقاظ يوميا لالتقاط ثوان من تلك الساعة السحرية النادرة يوميا، ثم قام المونتاج بتجميعها فى مشهد واحد متصل.
(4)
وفى عيد الأضحى، الموافق 11 فبراير لعام 2003، غادرنا أظرف المضحكين الجدد، وسفير البهجة الدائمة، الموهوب علاء ولى الدين، عن عمر يناهز 39 عاما.شاهدته لأول مرة فى دور تراجيدى جدا فى فيلم “أيام الغضب” أول أفلام منير راضى، الفيلم كان كئيبا، ولكن علاء كان رائعاً، فى ندوة الفيلم التى أقيمت فى نقابة الصحفيين، أشاد بطل الفيلم نور الشريف بهذا الممثل الجديد، الذى كان يجلس صامتا فى نهاية القاعة، فدوّى المكان بالتصفيق الحاد، بدا لى شخصيا شديد الخجل والبساطة، ملامح وجهه الطفولية مع بدانته الظاهرة، جعلته أقرب الى شخصية كارتونية محببة، كان لديه بجانب الموهبة العظيمة شئ آخر اسمه “الحضور المكتسح”.
أتذكر عندما كنت أشاهد فيلم “آيس كريم فى جليم” فى عرضه الأول بالسينما، أن مجرد ظهور علاء جعل الجمهور يصفق ويضحك، حتى قبل أن ينطق بكلمة واحدة، كان دوره صغيرا للغاية، مجرد موظف أمن بدين فى شارع 9 بالمعادى، كلما رآه عمرو دياب، وقع من الضحك، وعندما يترك عمرو المكان، يبكى رجل الأمن البدين، فتشتعل الصالة بالتصفيق والضحك على هذا الممثل، الذى يدخل القلب بلا استئذان.
تابعته فى كل أدواره المساعدة التى جعل منها بطولة خاصة به، دخل مدار اهتمام شريف عرفة فمنحه دوريه المبهجين فى “الإرهاب والكباب” و”المنسى”، فى الفيلم الأول يلعب شخصية زوج يريد الإنتحار من أعلى المجمع هربا من زوجته النكدية البدينة، وفى الثانى ظهر فى مشهد واحد عبقرى: شاب يبحث عن منظر عار فى فيلم بمهرجان القاهرة السينمائى، ثم منحه شريف عرفة البطولة المطلقة فى ثلاثة أفلام متتالية: أولا فى “عبود على الحدود”، ثم فى “الناظر” (وهو أفضل أفلامه حيث لعب ببراعة أربع شخصيات مختلفة أشهرهن طبعا الست جواهر التى اعتبرها أفضل نموذج نسائى لعبه ممثل رجل فى تاريخ الفيلم المصرى)، وأخيرا فيلم “ابن عز”. توفى علاء بعد مشاهد قليلة صورها من فيلم “عربى تعريفة” من إخراج عمرو عرفة.
علاء ولى الدين هو أحد حبات عقد اللؤلؤ الذى صنعه مجموعة من الكوميديانات البدناء من إلياس مؤدب ومحمد رضا وحسن أتلة (بتاع ساعة تروح وساعة تيجى) الى جورج سيدهم الجميل، وصولا الى الكوميديان الموهوب الذى لم يأخذ حقه “ماهر تيخة”، والذى هاجر الى أمريكا (من أشهر مسرحياته هاللو شلبى فى دورعضو الفرقة المسرحية البدين، ومن أشهر أفلامه سفاح النساء فى دور طالب الطب الذى يقتنى جثة، وفيلم مطاردة غرامية فى دور العريس البدين)، ويضاف الى هؤلاء سمير ولى الدين (والد علاء وأحد أقرب اصدقاء عادل إمام وسعيد صالح، ومن أشهر أدواره جابر الفراش فى مسرحية مدرسة المشاغبين وشخصية الصعيدى فى البنسيون فى فيلم البنت الحلوة الكدابة).
اعتمد علاء على بساطته المتناهية، وعلى نظرته المندهشة التى تجعله أقرب الى طفل كبير تاه من أسرته، أو ألقى به فى خضم تجربة أكبر منه بكثير (سواء عند دخول الجيش عن طريق الخطأ، أو فى إدارة مدرسة ورثها عن والده، أو بعد الهروب من الشرطة كما فى ابن عز)، لديه سلاسة مدهشة فى ضبط الإفيه، من النادر أن يرفع صوته، تشعر أنه واثق تماما من نفسه لأنه استحوذ عليك أصلا بمجرد ظهوره، كانت لديه قدرة على الإضحاك، وعلى أن يدفعك للتعاطف معه فى نفس الوقت.
ذلك اليوم، نزلت صباحاً لزيارة عائلية، الشوارع خالية، يوم العيد، فى سيارة الميكروباص، قالت سيدة: “صحيح الخبر ده يا جماعة ؟.. بيقولوا علاء ولى الدين اتوفى بعد ما دبح خروف العيد؟”، أصابنا الصمت التام، لم ينطق أحد بكلمة، أحست السيدة بالذنب، طأطأت رأسها ثم نظرت الى خارج النافذة، خفنا جميعا أن نسأل لكى لا يكون الخبر حقيقيا، كان الخبر صحيحا مع شديد الأسف.