” عندى صورة ” ولكنك لم تستفد بها!

من قبيل التكرار أن أؤكد سعادتى بأجيال جديدة تصنع الأفلام، وتضع رؤيتها وأفكارها على الشرائط، ومن قبيل التكرار أن أتحدث من جديد عن معرفتي الكاملة بالصعوبات التى تواجههم، أثناء تنفيذ الأفلام وإنتاجها، ولكن الأمانة مع القارىء أولا، ومعهم ثانيا، تقتضي أن أكتب عن أخطاء تجاربهم الأولى، هذا فى رأيى أثمن ما يمكن أقدمه لهم. لاتوجد، إلا فيما ندر، تجارب أولى كاملة الأوصاف، والأصل هو أن يستفيد المخرج من تجاربه، وأن ينضج ويتطور مع الوقت والعمل، وخصوصا إذا كنا فى إطار نوع صعب من الأفلام هو الفيلم التسجيلى.

وفيلم “عندي صورة.. فيلم رقم 1001 فى حياة أقدم كومبارس فى العالم” للمخرج محمد زيدان تجربة غير ناضجة على الإطلاق، رغم أن العمل قد فاز بجائزة رفيعة من مهرجان الجونة، لكننا نتعامل مع الفيلم نفسه كما شهدناه. خرجتُ حزينا بعد مشاهدة الفيلم لسببين: الأول لأن الجهد الكبير الذي بذله صناع العمل انتهى الى صورة مشوشة ومتواضعة، والثانى لأنه كانت لديهم فكرة وشخصية ذهبية، ولكنهم لم ينجحوا فى استغلال الفكرة، ولا الشخصية التى عثروا عليها.

مطاوع عويس الكومبارس الشهير فى السينما المصرية هو موضوع الفيلم، الرجل تعرف الناس شكله وملامحه، ولكن القليلين يعرفون اسمه، قنع عويس بمشاهد قصيرة فى أفلام لا يذكر عددها بالضبط، شخصية كهذه يمكن أن تكون كنزا فى اتجاهات كثيرة، أبسطها توثيق رحلته قبل رحيله، وقد توفى فعلا منذ فترة قصيرة، وقد شاهدته قبل وفاته يوم تكريم جمعية الفيلم له سنة 2015، ولعله كان الظهور العام الأخير له، وكان يعمل وقتها مساعدا للمخرج هانى لاشين.

لكن فيلم “عندي صورة” يبدو حائرا تماما فى معالجة موضوعه، فمرة يترك ضيفه ليقدم صورا ظهر فيها، ومرة يظهر مساعد المخرج القديم كمال الحمصاني، رفيق مشوار عويس، لكى يقدم رؤيته للفيلم التسجيلى عن صديقه، ويمارس مهام الإخراج أو التوجيه، ومرة نشاهد الصديقين وهما يتوقفان أمام السينمات فى شوارع الإسكندرية، ومرة نشاهد ما يقترب من كواليس تصوير بعض المشاهد، خليط مشوش وغائم، لا يُشبع خطا، ولا يستكمل معلومة، ولا يخلق جوا، ويزيد الأمر سوءا بشاعة الصوت، ورداءة الصورة، التى تصل أحيانا، كما فى مشهد حضور عويس لأحد الأفلام ، الى درجة الظلام التام فى بعض اللقطات.

كل شىء مأخوذ من السطح، ولقطات الأفلام الأرشيفية، رغم الجهد الذى بذل فى جمعها، متباينة الجودة، يبدأ الفيلم وينتهى دون أن نعرف حقا هؤلاء البطلين: عويس والحمصانى، لا أقصد معرفة الرقم القومى والمهنة، وإنما  معرفة الإنسان نفسه: لحظات كفاحه، ما أخذه من مهنته، وما أخذته منه، أحلامه الصغيرة، أسرته، إحباطاته، علاقته بأفراد مهنته، الشخصيات تتحدث، وتضحك، وتسير، ولكنها أشباح بمعيار المعرفة الحقيقية، لا أسئلة من فريق الفيلم، المندهشين والضاحكين طوال الوقت، لقد اكتفوا بالإنبهار واللعب، ونسوا أن يعرفوا الإنسان وراء الصورة، والغريب أن عويس الذكى كان يتطوع بأن يحكى لهم عن زملائه الكومبارس فى الصور، مفسرا وموضحا بعض المعلومات عن ظروفهم، وسبب أسمائهم الغريبة، هو الذى يحكى من دون أن يسأله أحد، فالكل يتأملون الصور من الخارج، والفيلم الذى صنعوه يترجم مع الأسف هذه النظرة السطحية.

مطاوع عويس بجوار أحمد مظهر

أما لماذا استخدمت تعبير “اللعب” فى وصف ما شاهدت، فلأن فكرة لامعة مثل منح الفرصة لاثنين من المهمشين فى عالم السينما ( كومبارس ومخرج مساعد) لكى يكونوا أبطالا، ولكى يتحققوا إبداعيا، قد تحولت الى لعبة، وأطلقت الضحكات على عويس والحمصانى، بينما أراد الفيلم أن يكرمهم، هنا يصل الأمر الى حد الكارثة، بالطبع قدرات الاثنين وثقافتهم ليست عظيمة، ولكنك لا يجب أن تختبر أبطالك، بل يفترض أن تتعاطف مع حلمهم، وتحتفى بتحقيقه مهما كانت قدراتهم،  الفيلم نظر الى بطليه، بدون قصد طبعا، على أنهما كائنات فضائية  قادمة من سينما بائدة، بل إن من يشاهد الفيلم يستكثر على البطلين أن يكونا قد عملا مع أساطين الفن فى القرن العشرين. فكرة أن يكون المهمش بطلا لأول ولآخر مرة، قدمت بمنطق اللعب والتسلية، بينما تكفى وحدها، إذا كانت قد قدمت بالجدية والإتقان المطلوب، لكى تجعلنا نكتشف البطلين بصورة أعمق، أما الذى شاهدناه من كواليس وضحكات، فهو أبعد ما يكون عن تكريم البطلين.

ماذا يمكن أن يصل إليك بعد مشاهدة هذه التتابعات المصورة ؟ مخرج الفيلم يحب السينما، وكذلك مطاوع عويس والحمصانى، والجميع فى الإسكندرية، ربما لأن الفيلم من إنتاج شركة من الاسكندرية، بينما أهم أفلام عويس والحمصاني فى القاهرة، وتحديدا فى الأستديوهات، هما شاهدان على عصر الأستديوهات القاهرية الكبرى، ولكن من توقف ليسأل؟ المهم أن نرى الرجلين، وفريق الفيلم على الشريط، ثم تكون الإنتقالات فى المونتاج كيفما اتفق، وأنت وحظك، قد تقع على صورة فوتوغرافية، أو كواليس تصوير، أو مادة أرشيفية.

 عبثا حاولت أن أفهم منهجا فى بناء الفيلم، وفى الإنتقالات من خط الى آخر، بدا لى أحيانا أن عويس والحمصانى تائهان فى الإسكندرية، لا يفهمان بالضبط المطلوب منهما، عويس بالذات شخصية طيبة، ومتعاونة، ويريد أن يحكى، ولو حتى من باب الحنين الى الماضى، ولكن أحدا لا يسأل، أو يسأل أسئلة ساذجة، لذلك ترك الرجل الحكاية تمشى حسب الظروف، فى أحد المشاهد نراه محشورا فى تاكسى.

 وفى مشهد آخر يأخذونه للتصوير عند عامود السوارى(!!)، يريد الرجل أن يكون جادا، ولكن اللعبة لا تسمح له بذلك، يطلبون منه أخيرا أن يوجه كلمة الى الكاميرا، فيقول لها عبارات تحية ومحبة، ينتهى الفيلم دون أن نعرفه حقا، أما صوره فى الأفلام، فنحن نعرفها، ولن يكلف أحد نفسه رغم ذلك بكتابة اسم الفيلم وسنة العرض على كل مشهد نراه، مثلما لم يكلف أحد نفسه أن يسأل عويس السؤال الملح: لماذا لم ينتقل من خانة الكومبارس الى خانة أصحاب الأدوار المساعدة مع أنه يمتلك موهبة التمثيل؟ لماذا لم يصبح مثل محمد صبيح أو محسن حسنين مع أنهما كانا مثله يظهران مع المجاميع فى أدوراهما الأولى؟

انتزعوا عويس والحمصانى الى الإسكندرية ليصنعوا عنهما فيلما، فانتهينا الى صور متحركة متلاحقة، لاتثير تعاطفا، ولا تترك ذكرى، ولا تجعلك مستريحا من النتيجة، ذلك أن صناع الأفلام الأبيض والأسود قدموا مطاوع عويس فى لحظاته القصيرة، بصورة أفضل، وأكثر لمعانا، مما فعل صناع الفيلم الوحيد الذى قام ببطولته.

كانت عند الرجل صور وحكايات، ولكنهم لم يستفيدوا منها، وكانت لديهم بالتأكيد نوايا طيبة، وطاقة حب للسينما، ولكن ذلك كله لا يكفى وحده لكى تصنع فيلما جيدا، فالمهم ليس فقط ماذا تقول؟ ولكن أيضا أن تعرف كيف تقول؟

Visited 106 times, 1 visit(s) today