عن السينما والنقد: إشكاليات الكتابة عن الفن السينمائي
كان اختراع السينما ومن ثم إقامة أول عرض سينمائي في العام قبل قرن وعقد من الزمن، أمرا مبهرا للمشاهدين الأوائل الذين فوجئوا بالعالم يتحرك أمامهم على الشاشة.
حصل الأمر نفسه لاحقا في أرجاء العالم الأخرى التي تعرض جمهورها لمشاهدة عروض الأفلام السينمائية للمرة الأولى. غير أن درجة الإبهار والانبهار كانت متفاوتة، وكذلك الأمر بالنسبة لنوعية الانبهار. فالدرجة والنوعية أمران لهما علاقة وصلة وثيقة بالمستوى الثقافي للشعوب التي تعرفت على هذه التجربة.
فبعض الشعوب المتقدمة حضاريا، رأت في هذا الاختراع المبهر للوهلة الأولى والجديد من نوعه، تطويرا تقنيا لفنون سابقة، وعلى نحو أخص، لفن الفوتوغرافيا، أي الصور الثابتة، في حين أن الشعوب المتخلفة حضاريا قد رأت في فن السينما أو بالأحرى، في العرض السينمائي، ضربا من ضروب السحر يعجز العقل عن فهمه تماما مثلما كان عليه الأمر بالنسبة لأفراد إحدى القبائل المقيمة في مجاهل أدغال إفريقيا، الذين سجدوا للكائن الخرافي الذي نزل إليهم من السماء (أو عليهم)، أي الطائرة الشراعية التي رأوها للمرّة الأولى في حياتهم وهي تهبط في حقل قريب.
وإذا كانت المشاهدة الأولى للسينما بمثابة الصدمة التي احتاج البعض إلى وقت طويل للاستفاقة منها، فإن هذه الاستفاقة أفرزت، وبسرعة لدى الشعوب المتقدمة تقنيا وحضاريا، نقادا وباحثين بدأوا يفكرون على المستوى النظري ويتأملون في هذا الفن الجديد، أي السينما، ويبحثون في طبيعته وخاصيته وبنيته الفنية وآفاق تطوره المستقبلي.
أما في البلدان غير المتطورة فإن الذي كتبوا عن السينما بقوا في البداية عند المستوى الأول واستمروا في الكتابة تحت وقع الانبهار بهذا السحر الذي يعرض عليهم خيالات متحركة على شاشة بيضاء في قاعة معتمة واحتاجوا إلى بعض الوقت كي ينفك الشعور بالسحر عنهم ما يسمح لهم بالكتابة عن السينما من منطلقات ثقافية تتراوح في مستوياتها المعرفية ما بين البسيط والمتوسط.
بعد سنوات قليلة من اختراع السينما وبعد أن أصبحت ظاهرة جماهيرية وعالمية، ترسخ نوعان من الكتابة عنها وتعايشا جنبا إلى جنب: النوع الأول جدي ونظري، يبحث في نظرية السينما أو يقرأ الأفلام قراءة نقدية وتحليلية، وهو النوع الأكثر فائدة من الناحية الثقافية ولكنه الأقل حجما وانتشارا والمعدوم الحظوة عند مشاهدي الأفلام، والنوع الثاني سطحي، لا يخلو من الابتذال أحيانا، ولا يرى في الكتابة عن السينما إلا مجالا لسرد ملخصات لقصص الأفلام أو عرضا سطحيا لما فيها من مواضيع أو متابعة أخبار عن ما يدور في صناعتها أو فضائح وأسرار العاملين فيها وبخاصة ما يتعلق منها بالحياة الخاصة لنجوم السينما ومشاهير الممثلين والممثلات. وهذا النوع الثاني هو الذي انتشر في كافة وسائل الإعلام المتخلفة حضاريا.
وبالطبع، فإن الذين كتبوا بجدية عن فن السينما، وحتى في وقت مبكر من عمرها وحيث كانت معظم عناصرها التعبيرية في مرحلة مخاض، باتوا لاحقا جزءا من التاريخ الثقافي للسينما كفن وكوسيلة اتصال وكظاهرة اجتماعية، ولا زالت كتاباتهم إلى اليوم تحظى بالاهتمام عند من يهتمون بالسينما كفكر وكفن في مختلف دول العالم ويجري التعامل معها باعتبارها مراجع مفيدة يستشهد بمقولاتها واستنتاجاتها الباحثون في أزمان لاحقة.
أما الكتابات الأخرى المكتفية بالأفلام، الانطباعية في غالبيتها العظمى، أو الإخبارية الطابع والسطحية التي تكتفي بسرد ملخصات القصص، فلم تدخل في التاريخ الثقافي للسينما وليس لها أية قيمة تذكر، باستثناء كونها قد تفيد كمرجع يساعد الباحثين في مجال دراسة نوعية استجابة وسائل الإعلام الشعبية لظاهرة السينما وهي استجابة تقتصر على نمط معين من الأفلام ينتمي إلى صناعة السينما المتخصصة بإنتاج الأفلام التجارية الترفيهية المهيمنة على أسواق العرض في العالم والأكثر شعبية عند غالبية الجماهير من رواد صالات عرض الأفلام في مراحل وظروف محددة.
غير أن الغريب في الأمر أنه على الرغم من تطور توجهات ومستويات الكتابة عن السينما من الناحية النظرية، وظهور ثم انتشار العديد من مناهج التحليل النقدي الجاد للأفلام، ومع تطور وعي عامة الناس بطبيعة السينما وتطور خبراتهم في مشاهدة الأفلام، فلا زلنا نلاحظ أن النوع الآخر من الكتابة عنها لا يزال يسود في العديد من الدول عبر صحف أو وسائل إعلام لا تزال تنظر إلى السينما بسطحية كوسيلة ترفيهية، ولا تتعامل معها كوسيط فني وثقافي.
ثمة نوع ثالث من الكتابة عن السينما لا يرقى إلى مستوى الكتابة النظرية والتحليل المنهجي للأفلام كما لا يهبط إلى مستوى الكتابات السطحية أو الترويجية. هذا النوع الثالث هو نتاج تفسير انطباعي لقصص الأفلام مرتهن لحالة من العشق للسينما تتملك الكاتب وتجعله يتمتع بمشاهدة الأفلام على اختلاف مستوياتها فيكتب عنها متأثرا بما جادت به عليه من متعة.
ويتضح هذا النوع أكثر ما يتضح عند الكتابة عن الأفلام القديمة التي انطلقت علاقة الكاتب بالسينما منها، حيث نلمح في العديد من الكتابات التي تنشر عن السينما ككل أو عن الأفلام نوعا من الحنين إلى ماضي السينما يشبه إلى حد كبير الحنين إلى الطفولة، حيث يتذكر المرء بحب لحظات من وقائع ساذجة في طفولته.
فالسينما التي عرفها معظمنا في الطفولة كعالم مبهر، باتت لهذا السبب بالذات، جزءا من ذاكرة الطفولة نفسها وجزءا من التاريخ الشخصي للإنسان وهذه خاصية تتميز بها السينما عن باقي الفنون والآداب الأخرى، فهي فن مرئي مسموع له قدرة علىالإيهام بالواقع،ومشاهدة فيلم سينمائي كانت ولا تزال نوعا من العيش الواقعي لفترة قصيرة من الزمن، لحدث ولعلاقات إنسانية.
ويعكس هذا الأمر نفسه في حالات كثيرة على الكتابة عن الأفلام، حيث تبقى الكتابة أسيرة لرؤية ذاتية لا تستطيع أن تتخلص من التأثر العاطفي والانفعال لأنها لا تزال تحتفظ بحرارة الالتحام مع الفيلم.
* ناقد من الأردن مقيم في عمان