“عفريت مراتي”.. السينما تبتلع الواقع

شادية وحسن مصطفى في "عفريت مراتي" شادية وحسن مصطفى في "عفريت مراتي"

حتى في مرحلة ما قبل الكتابة عن الأفلام، كنت دوما أعتبر هذا الفيلم الكوميدي المصري من إنتاج 1968 عملا رائعا ومميزا، وظل فيلم “عفريت مراتي” يدهشني دوما بمحاكاته الساخرة لأفلام مصرية وعالمية، وبقدرة بطلته شادية، وهي مطربة بالأساس، على تقديم مشاهد كوميدية ناجحة، رغم صعوبتها، وقد صارت ممثلة كوميدية فعلا تحت إدارة أحد أهم مخرجينا الكبار، فطين عبد الوهاب، الذي تفوق في إخراج الكوميديا، مع شادية، ومع غيرها من الممثلين والممثلات.

ولكن “عفريت مراتي” يبدو لى اليوم أكبر بكثير من كونه أحد أفلام المحاكاة الساخرة القليلة جدا في السينما المصرية، حيث لم يكتف بذلك، وإنما انطلق لمناقشة قضية اجتماعية، وهى انشغال زوج عن زوجته، ولتقديم التحية للسينما عموما، باعتبارها حياة موازية، قادرة على سد الفراغ، بل وابتلاع الواقع نفسه، وهذا ما سيحدث في الجزء الأخير من الفيلم.

المحاكاة الساخرة (أو البارودي) تهتم بفكرة المحاكاة الساخرة في حد ذاتها، ليس في مشهد واحد بعينه، كما في مشهد محاكاة شعبان عبد الرحيم وأشرف عبد الباقي وسامي العدل وياسمين عبد العزيز لمشهد أغنية “عاشق الروح” في فيلمهم ” رشة جريئة”، ولكن المحاكاة في أفلام البارودي تكون في صميم فكرة الفيلم وأحداثه وبنائه وكل مواقفه.

 لدينا أربعة نماذج ممتازة لهذه النوعية، بخلاف “عفريت مراتي”، هى أفلام: “أخطر رجل في العالم” من إخراج نيازي مصطفى (1967)، و”عودة أخطر رجل في العالم” من إخراج محمود فريد (1973)، وفيلم “فيفا زالاطا” من إخراج حسن حافظ (1976)، وفيلم “لا تراجع ولا استسلام.. القبضة الدامية” من إخراج أحمد الجندي (2010).

 الصياغة الكوميدية        

هذه الأفلام تنطلق أصلا من فكرة المحاكاة الساخرة، وينعكس ذلك على البناء كله، وليس على مشهد أو مشهدين، والمدهش أنها جميعا نماذج جيدة وناضجة لهذه النوعية الصعبة، واللافت أيضا أنها كلها أفلام قام ببطولتها نجوم كوميديا بالأساس، بل إن الأفلام الثلاثة الأولى كتبها مؤلف واحد هو أنور عبد الله، وقام ببطولتها كوميديان واحد شهير هو فؤاد المهندس، أما الفيلم الرابع فقد كتبه سيناريست شاب هو شريف نجيب، ولعب بطولته الممثل الكوميدي أحمد مكي.

لكن “عفريت مراتي” من بطولة صلاح ذو الفقار وشادية، وهما يمكنهما تقديم الأدوار الكوميدية، وخصوصا مع فطين عبد الوهاب، كما في فيلمهما البديع ” مراتى مدير عام”، ولكن لا يمكن تصنيفهما في دائرة الكوميديين المعروفة، ولذلك فإن المحاكاة هنا ليست للمحاكاة فحسب، ولكن على قاعدة مشكلة اجتماعية نفسية: زوجة تهرب الى السينما، بسبب شعورها بالملل والفراغ في حياتها الزوجية، والمحاكاة الساخرة تتم من خلال هذه المشكلة، أو بسببها، بينما يستهدف فيلما “أخطر رجل في العالم”  و” عودة أخطر رجل في العالم” بالأساس السخرية من أفلام العصابات الأمريكية، ويستهدف فيلم “فيفا زالاطا” السخرية من أفلام الغرب الأمريكية، مع اسقاطات سياسية متناثرة، ويستهدف فيلم “لا تراجع ولا استسلام” السخرية من الأفلام البوليسية، مع خط واضح ينحاز فيه لبطله المهمش حزلقوم، ويجعله بطلا افتراضيا يمثل الكثيرين من المهمشين، وينتظر لحظة اختبار حقيقية، ليثبت شجاعته وأهميته.

يمكن القول إذن إن “عفريت مراتي” يمزج بين السخرية والفكرة الاجتماعية والنفسية، بل إن هذه الزوجة المريضة بخيال السينما يمكن أن تكون موضوعا لفيلم مؤلم ومؤثر، بعد أن صارت تعيش في عالم مواز، لا هي جزء منه، ولا هى قادرة على أن تعيش في واقعها، وهناك فيلم بعنوان “عصابة الدكتور عمر” بطولة مصطفي قمر، أعاد استلهام مشكلة “عفريت مراتي” في عمل كوميدي جديد، ولكن بمعالجة نفسية صريحة.

القصة والسيناريو

 كتب قصة فيلم “عفريت مراتي” لوسيان لامبير، وهو اسم مهم للغاية، نراه كاتبا للقصة والسيناريو في الإلام مصرية جيدة ومتميزة في حقبة الستينيات في القرن العشرين، ثم اختفي اسمه تماما في الفترات التالية، معلومات قليلة جدا عنه، مثل أنه من أصول فرنسية، ويبدو أنه ولد في مصر أيضا، ولكن لا يوجد شيْ مؤكد في هذه المعلومات، مما يتطلب جهدا مطلوبا في البحث والاستقصاء والتحقيق، ومن خلال باحثين متفرغين، يستكملون الناقص في تاريخ السينما المصرية العظيمة وصناعها، وهو نقص كبير بل وفادح في بعض الأحيان.

سنجد اسم لوسيان لامبير مؤلفا للقصة على فيلمين من أفضل أفلام الستينيات الكوميدية، ولنفس المخرج فطين عبد الوهاب: فيلم “عيلة زيزي”، وفيلم “عفريت مراتي”، وسنجد اسم لوسيان لامبير ك كاتب للسيناريو في ثلاثة أفلام هامة في الستينيات مأخوذة عن روايات هى: “لا وقت للحب” عن قصة يوسف إدريس وإخراج صلاح أبو سيف، و”لا تطفيء الشمس” عن قصة إحسان عبد القدوس، وإخراج صلاح أبو سيف، وفيلم ” النظارة السوداء” عن قصة إحسان عبد القدوس، وإخراج حسام الدين مصطفي.

لوسيان كتب أيضا سيناريو فيلم “عائلة زيزي” عن قصته، وهو أحد أمتع الأفلام المصرية في الستينيات، بل لعله من أفضل الأفلام العائلية الضاحكة في تاريخ السينما المصرية.

من خلال أعماله فقط يمكن أن نتحدث عن كاتب سينمائي متميز، فاهم وطموح ومختلف، وحتى عندما ترك مهمة كتابة السيناريو لقصته ” عفريت مراتي”، فإنه تركها لأحد أسطوات كتابة السيناريو والحوار وهو علي الزرقاني، الذي ترجم   ببراعة حيوية الفكرة، وخيالها المدهش، الى مشاهد وحوارات، صارت اليوم من كلاسيكيات الفيلم الكوميدي المصري.

فالمشاهد الافتتاحية على العناوين، تدخل مباشرة الى عنصري اللعبة: واقع الشخصيات، وواقع البطلة عايدة الموازي، فبينما يلعب صالح ( صلاح ذو الفقار) الشطرنج مع زميله وصديقه ( عادل إمام)، فإن عايدة ( شادية) تعيش شخصية غادة الكاميليا، وتطلب من صالح أن يودعها الوداع الأخير، ونكتشف من خلال سرد صالح، و عن طريق المشاهد الأولى القليلة، سر الأزمة والمشكلة: عايدة مريضة بالأفلام التي تشاهدها، إنها تهرب من واقعها بالعيش في المشاهد التي تراها في أفلام السينما المجاورة، والزوج صالح يعانى من هذه الازدواجية، ولا يعرف علاجا لها.

تقديم مثالي

هنا تقديم مثالي للشخصيات وللمشكلة معا، وهنا خيال تمثيلي تمثله عايدة والشخصية التي تتقمصها، يقتحم واقع صالح وصديقه، وهناك منزل وشقة، ولكنهما يفتحان على دار سينما، سنرى أفيشاتها في مشاهد تالية، بل وسنختتم الفيلم كله بأفيش فيلم جديد يعرض في قاعتها.

سيكون منهج السرد تنويعة في كل مرة على اقتحام واقع عايدة الخيالي في شخصية جديدة، لواقع حياة زوجها صالح، سواء في بيته، أو في عمله، ومع التكرار، الذي يمثل بارودي صريح باذخ الخيال والتنفيذ، تحديدا في لوحة محاكاة مشهد مقتل الراقصة في فيلم “ريا وسكينة”، وفي مشهد محاكاة شخصية إيرما لا دوس أمام ضيوف صالح وزملائه في العمل.
 ستكون المحاكاة موظفة  دوما ضمن الدراما، ودافعا لتصاعد وتأزيم الموقف، وفي كل مرة نرى وجهين ل عايدة: الشخصية التي تأثرت بها وتقلدها، وشخصيتها الأصلية، وهى شخصية تثير الرثاء، لأنها تدرك أن ما تفعله مرض يستوجب العلاج، وأن هذا المرض يسبب المتاعب لزوجها الذي تحبه.

كان يمكن أن تستمر اللعبة بهذه الطريقة حتى النهاية، لأنها ظريفة ومسلية للغاية، ولأن محاكاة شادية للشخصيات مدهش وبديع، ولكن الفكرة يتم تطويرها الى مستوى لامع حقا: فالواقع الذي يمثله صالح سيذهب الى الخيال، لكى ينقذ زوجته عايدة، سيزعم صالح أنه زعيم عصابة اسمه حوّاش، وسيصنع مع زملائه عالما وهميا لزوجته عايدة، حتى يخلصها من الملل، وهكذا ينتقل الخيال السينمائي الذي تعيشه عايدة في دار العرض المقابلة، الى شقتها وبيتها، وبمساهمة زوجها.

هذه المعالجة نقلت المحاكاة أيضا الى مستوى جديد فبدلا من مستوى محاكاة مشاهد بعينها، لا رابط بينها سوى أنها أعجبت عايدة، فتأثرت بها، وقررت تقليدها، الى مستوى آخر هو محاكاة أنواع سينمائية بأكملها، مثل أفلام العصابات والسرقة، وبدلا من أن تكون عايدة هي اللاعب الوحيد، ينضم إليها الزوج وصديقيه عادل إمام وحسن حسين.

في تطوير ثالث للفكرة، سيكون على الجميع، وهم يمثلون ويسخرون من أفلام العصابات، أن يقوموا بسرقة البنك الذي يعمل فيه صالح، وذلك بتحريض من رائف (عماد حمدي) الذي سيدخل الى مضمار اللعبة، تحت راية علاج عايدة من التمثيل بالتمثيل، أو مقاومة تأثير السينما، بالدخول الى عالم السينما دخولا شاملا، الكل الآن يلعبون سينما، ويستفيدون منها.

تمثيل في تمثيل

يعنى هذا البناء أن السينما لم تقتحم حياة عايدة فقط، ولكنها اقتحمت فيلمنا الذي تقوم ببطولته عايدة المريضة، وأن عدوى التمثيل قد انتقلت الى الجميع: صالح وصديقيه ورائف أيضا، وأن المسافة بين واقع صالح وعمله وأصدقائه، وخيالات عايدة وأدوارها المستعارة، قد انمحت تماما، لدرجة أنك كمتفرج تشعر بحيرة حقيقية من التفرقة بين البوليس الحقيقي، والبوليس المستعار، وبين السخرية من أفلام العصابات، وبين السخرية ممن يسخرون من أفلام العصابات، وذلك بمحاولة توظيفهم في سرقة حقيقية.

لذلك أقول إن “عفريت مراتي” لم يكتف باستدعاء السينما، ومحاكاتها بشكل ساخر، ولا بتوضيح تأثيرها على جمهورها، ولا بالتأكيد على أنها واقع مواز للواقع، ولكنه جعل السينما تلتهم الواقع حرفيا، وتفرض عليه قانونها هزلا وجدا، بدأنا من قاعة عرض خارج الشقة، وفي مواجهة الشباك، ثم انتهى الفيلم الى نفس السينما، وهى تعرض فيلما لشارلي شابلن، الآن صالح هو الذي يتأثر بالسينما، ويقلدها، ولعل الدور الآن على عايدة لكى تعيده الى الواقع، أو لعلها سعيدة بأنه يذكرها بالسينما.

عفريت الزوجة صار عفريتا للجميع، فعندما يخذلنا الواقع نهرب الى خيال السينما والأفلام، هذا العالم الموازي أكثر إثارة من حياتنا الرتيبة المملة، وفارس الأحلام، كما تغني شادية في الفيلم، إذا لم نجده في الواقع، سنجده في الأفلام، وعايدة المفتونة بشخصيات الأفلام التي تراها، هى أيضا شخصية سينمائية في فيلم، فكأنها سينما من كل الجهات والزوايا.

لا يجب أن تختلط الأمور حتى لا تتحول الى مرض، ولكن الواقع وحده لا يكفي، لابد من خيال يعيد إلينا التوازن، ولابد من صورة واسعة يتحول فيها مشهد قتل الى مشهد ساخر، حياتنا مزيج من الاثنين الواقع والخيال، والسينما أيضا تقدم هذا المزيج ببراعة، ثم تتركك تضحك وتتأمل وتفكر وتختار.

Visited 160 times, 1 visit(s) today