عدمية الحلم بين فيلليني وأنطونيوني
فيليني: ثمانية ونص فيلم داخل حلم انتقل المخرج الايطالي فيديريكو فيلليني من الحلمية والشاعرية الشكلانية الحدثية الي الحلمية النظرية في فيلمه “الطريق”، وفيلم ليالي كابيريا” كمثال وليس اجمالي افلامه السابقه، الي عالم الاحلام اللغوي والبصري النظري، في فيلمه (8,5)، حيث قام بوقفة سينمائية فكرية هائلة في هذا الفيلم حول نفسانية الحلم، ليصنع فيلماً داخل فيلم، هو يريد أن يحكي عن تجربته السينمائية في افلامه السابقة. ويريد ايضا أن ينظر للحملية السينمائية، وهو ما تقرأه سرديا في كتابه “انا فيلليني”.
هل اصبح فيلليني في فيلم “ثمانية ونصف” سرياليا يعيش في عالم من الخيال والحلم والعبث والجنون والتوهمات والهذيان، ليصنع فيلماً حلميا هذيانياً؟ والاجابة نعم ولا، ففيلليني صنع منظومة فكرية سريالية خاصة به في هذا الفيلم، لتعبر عنه، وليس لتعبر عن او تطبق حرفياً او جزئياً سريالية دالي، او لويس بونيل، بغض النظر عن المقارنة بينهم زمانيا وفكرياً، فيلليني صنع فيلم في ثمانية عن فيلليني نفسه واعمالة بمرجعية فيللينية بحتة.
يحلم فيلليني في فيلمه وينتقل بين عالم الي عالم أخر، ليعبر عبر المشهدية عن احلامه في افلامه السابقة الثامنية، وأنه يحلم ليكتب ويخرج فيلمه واحدا بعد الآخر، وايضا يخرجنا هذا الفيلم عبر الاحلام، لنجد اننا أمام حلمية فيللينية بامتياز خالص، في كل شئ عبارة عن حلم، وعلاقتنا بالواقع ما هي الا امتدادا لاحلامنا. في هذا الفيلم يتفوق فيلليني علي أي توقع او رؤية او رأي أي احد في الاحلام والسينما، او علاقة السينما بكونها حلما بصريا ذهنيا، فهو يتفوق علي رأي ادغار موران، الذي يصف السينما بأنها عالم الحلم شاسع الخيال، وبعيد المنال، ولا يمكن القبض على مختلف مكوناته إلا من خلال العيش فيه من جهة والابتعاد عنه من جهة أخرى.، حيث يعبر فيليني في كتابه انا فيلينين اقتباس من الكتاب.
ويعتبر فيلليني جزءا من المدرسة الواقعية الايطالية التي كان لها تأثير هائل في تجاوز المجتمع الايطالي الكثير من ازماته الاجتماعية والنفسانية، ويعتبر فيلليني من اكثر الاكوان السينمائية والمخرجيين تعبيرا عن الكائن الحالم الذي يعيش فصاما لاينتهي مع واقعه واحلامه. وهو يختلف عن المخرج العقبري انطونيوني في حركة الحلمية المشهدية، الذي يتسم الاول بالبطء، وفيلليني بالحركة والاندماج بالواقع، الاحلام تندمج مع الواقع، احلامك تشكل كل شئ، اما انطونيوني يريد العزلة، التعبير بالحلم عن معني اخر، ففي افلامه، يريد الايحاء بعزلة الانسان المعاصر في عرض يميل إلى الحلم أكثر من إتباعه للمدرسة الواقعية.
اما فيلليني يريد ان يعبر عن الحلم نفسه، كأنه مادة الخلق السينمائي والبصري، والمادة الخام لتخريج المشاهد والمعاني والافكار، فيلليني لا يريد الدوران والرمزية لشئ من الحلم، الذي يعتبر كائن خلقي فليمي في حد ذاته. فيلليني يريد حلماً وليس فيلماً، المشهدية والحوار هي خلاصة الذهن الحلمي، هل اقترب بذلك من نظرية الفيلم الناضجة والصحية، بمعني أن الفيلم هو عبارة عن احلام وانواع متعددة من عالم الخيال، حيث تؤثر السينما علي الذهن الذي يصنع صور محسوسة وكلمات واراء ، ترتبط بالاحلام والخيال القصصي والسردي، هذه التأثيرية الفيللينية لنظرية الفيلم هي اقرب الي الحقيقة السينمائية.
الحلم البطئ يرصد ابعاد العزلة العدمية الاكتئابية المشهدية تعبر عن عدمية الكون ورمزية النهايات المؤكدة، هذا ما تجده في افلام المخرج الايطالي المجدد مايكل انجلو انطونيوني، المشهد دائما في حالة حلم ولهاث وراء اشياء جديدة، تحاول كسر الملل والحزن بعض الوقت، ثم ينقلب المشهد مرة أخري الي حالة الحلم الحزين البطئ الذي يرصد بكل دقة وتفاصيل مدهشة ابعاد عزلة الانسان عن العالم، وعن نفسه، وعن احزانه الداخلية حتين التي يجب ان يعرفها.
لقطة من فيلم “تكبير الصورة” لأنطونيوني الانسان في عالم انطونيوني لا يعرف شيئا، هو مكلف بالبحث عن شئ جديد من اجل متعة عابرة خاوية، وهو ما تعبر عنه عناوين افلامه الخشنة والجافة ومضمون افلامه ايضا. و بالنظر الي فيلمه “المهنة صحفي” للنجم جاك نيكلسون، سنجد ان المشهدية بطيئة وحالمة للغاية، حيث البطل يذهب بنفسه الي النهايات من اجل اللاشئ، ينتحل صفة رجل اخر ويترك كل شئ ورائه، حتي يتورط في تعقيدات وتفاصيل هذا الشخصية الجديدة التي يرتديها بلامبالاة مبالغ فيه للغاية، والحوار والبصريات في الفيلم يؤكدان ذلك، وينتهي الفيلم بنهاية البطل بدون اجابة واحدة لمئات الاسئلة المحيرة، فكل شئ عدمي في الفيلم وحزين.
ولكن هناك ملاحظتان رغم العدمية والاكتئابية هذه، ان الجماليات البصرية ليس لها حدود في فيليمية انطونيوني، وذلك يصنع متعة حسية وفكرية للمشاهد، بجانب الاجهاد الفكري والشاعري في تفكيكية الرمزية واستيعاب وتأثير العدمي، مما يصنع لوحة سينمائية هائلة التأثير والغني الخيالي والبصري، وهذا التقاطع المدهش الذي يساهم بشكل كبير في توازنية الفيلم، وشمولية عناصره، وتكاملية التكوينات الحوارية والصور والمشاهد السينمائية. البصريات المليئة بمشاهد الصحراء الخاوية والمساحات الفارغة والحديث المستمر مع النفس، هي سمة اخري دائمة في فيلمية انطوينوني، تعبر عن العدمية التي يقصدها، وعن الخواء الروحي للانسان المعاصر، حيث يهتم بالعالم الحديث الملئ بالتناقضات الاقتنصادية والاجتماعية والنفسية وأثار ذلك علي البشر من عزلة واحباط وشعور بالاغتراب.
وما يريده انطونيوني من افكار ومتع بصرية بصيغة يرصده عن طريق الحلم البطئ، حيث يشعر المشاهد بالملل الهائل، وذلك ما علق عله كثير من النقاد، فهو خارج الحلم الفيلمي الغير القصدي مثل حلمية فيليني التي تم شرحها اعلاه، حيث يقصد من كل شئ فكرة ما، فهناك سينما قصدية في المهشدية بشكل مؤكد لا نقاش فيه، فهو يوظف الحلم ويرصد به ما يريد قوله، وما يدور في خلده ووجدانه. وبالنظر الي فيلم “تكبير الصورة” Blow Up، نجد ان نهاية الفيلم هي تأريخ للحلم الذي يعيشه البطل المصور، الذي يظن ان الحقيقة ثابتة ويمكن الوصول له عن طريق الجهد الفردي والذاتي، حيث يصور جريمة بالصدفة البحتة فيحاول البحث عن طرافها من اجل فضول الحقيقة نفسها، فانطوينوني هنا يستخدم الحلم لكي يرمز لضياع الحقيقة، فحتي هامشها المتعلق بالفضول، لا يمكن الوصول اليها، فالمشهد الاخير يتضمن بعض الشباب يلبسون اقنعة بيضات تخفي وجوههم، ويلعبون لعبة التنس في مكان الجريمة دون وجود كرة حقيقية للعبة، يريد انطونيوني جنون الاسئلة دون اجابات الفيلم، ويريد القول في نهايته ان الحقيقة ليست موجود وكل ما نعيشه هو عبارة عن اوهام تجسدها احلامنا.