“طريق مسدود” .. صراع إنساني لإنقاذ قلب
في ليلة مظلمة تكتسي بالسواد مثل صورة الفيلم التي اختارها المخرج السلوفيني ڤينكو موديرندورفير بالأبيض والأسود لتستحوذ على مدار الأحداث بالكامل في أحدث أفلامه “Deadlock” أو “طريق مسدود” وهو الفيلم الذي نافس في المسابقة الرسمية في الدورة 37 من مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط وحصل مخرجه على جائزة أفضل إخراج في ختام المهرجان.
يطلق على الفيلم باللغة السلوفانية اسم “Zastoj” بمعنى “ركود” وقد يكون الاسم الإنجليزي هو الاكثر ملائمة للأحداث لكن يبدو ان المخرج أراد أن يشير إلى حالة الركود التي سيطرت على المجتمع السلوفيني خلال الأعوام الأخيرة على كافة المستويات اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وبالطبع سياسيا، حالة الركود التي غلفت بالأبيض والأسود للدلالة على أن الزمن لا يتغيير وظل متقوفا على هذه الدولة منذ عقود وأيضا لأن تفاصيل أحداث الفيلم تعود بالزمن إلى دراما الخمسينيات والستينيات.
تدور أحداث الفيلم في ليلة واحدة أو في ساعات قليلة في ظل حالة الركود العامة التي كانت خلفية الأحداث لكنها تتحرك في تلك الليلة الممطرة المظلمة فقط من خلال ظهور ضيف غريب الأطوار تحولت من خلاله الأحداث إلى لقاء عابر بين أسرتين من طبقتين اجتماعتين مختلفتين اشتركا في حدث واحد أو جمعهما مصير مشترك للمرة الأولى وبدون هذا الحدث لن يجتمعوا مطلقا.
الأسرة الأولى هم عائلة إمير “بيتر ميسوفسكي” وزوجته ميرا “ميريام كوربار” الذين ينتمون للطبقة تحت المتوسطة أو العاملة الذين يعيشون في وسط العاصمة ليوبليانا وسحقتهم الحياة داخلها التي أصبحت قاسية على أبنائها في ظل ارتفاع مستوى المعيشة وتدني معاشات التقاعد للزوجين، فهم أسرة بالكاد تتمكن من العيش.
على النقيض تماما نجد أسرة أندريه “أوروس فورست” وزوجته باربرا “باربرا سيرار” الذين ينتمون لطبقة الأثرياء من رجال الأعمال الذين يعيشون على شاطئ الأثرياء بعيدا عن صخب وقبح العاصمة، هاتين الأسرتين في الظروف العادية من الصعب أو المستحيل أن يجمعهما علاقة إنسانية أو لقاء مشترك إلا عندما يرتبط الأمر بإنقاذ حياة الأبناء، وقتها تذوب الفوارق وتقترب المسافات وتتقابل الأفكار وتتداخل التوجهات والرؤى من خلال حوار تحول إلى صراع إنساني يحرك المياة الراكدة ويقف معه الزمن قليلا.
يتمتع فيلم “طريق مسدود” بمحدودية الأبطال فهم أربعة فقط وأيضا محدودية الأماكن فمعظم الأحداث تدور داخل منزل الأسرة الفقيرة من خلال تنفيذ الفيلم على طريقة المسرح سواء من خلال الاعتماد بشكل كبير على الجمل الحوارية الطويلة في مكان واحد وهو المنزل باختلاف الأماكن غرفة المعيشة، البلكونة و المطبخ بين الأبطال، أو من خلال التتابع في ظهور الأبطال الأربعة ففي البداية ميرا التي تجلس بمفردها في المنزل ثم فجأة يظهر أندريه الضيف الغريب الذي يطرق باب المنزل طالبا أن تستمع له، ثم ظهور إمير الذي يقلل حدة وخوف زوجته من تواجد هذا الضيف الغريب ثم في النهاية ظهور زوجة هذا الضيف وهي بربرا.
مع ظهور كل شخصية يعطي لنا السيناريو تفاصيل بسيطة عن الخلفيات السابقة كنوع من التأسيس لبناء الشخصيات لكلا منهم سواء على مستوى جمل قصيرة أو من خلال المظهر العام الذي يجعلنا نشعر بالفارق الطبقي الكبير بين الأسرتين، خلال الظهور المتتابع للشخصيات الأربع استعرض المخرج تأثير الوضع الاقتصادي والاجتماعي للدولة السلوفينية على كلا منهم سواء الدخل القليل والبطالة لدى أسرة إمير أو الثراء الفاحش لدى أسرة أندريه.
يخبر أندريه الضيف الغريب الزوجين الفقيرين أن ابنهما الوحيد “ميرساد” تعرض إلى حادث بدراجته البخارية وتم نقله إلى المستشفى ويقوم الضيف بسيارته الفارهة بنقل إمير وزوجته إلى المستشفى ليجدا الإبن في غرفة العناية المركزة وبعد العودة إلى المنزل مرة اخرى يقوم أندريه بإخبار الزوجين بأن انهما دخل في كومة او غيبوبة طويلة بنسبة كبيرة لن يخرج منها وان حالته سيئة نظرا لتعدد اماكن الإصابات ومعدلات خطورتها التي تجعل وجوده على قيد الحياة مسألة ساعات قليلة، وهنا تتسائل ميرا كيف يعلم هذا الضيف بما حدث لإبنهما قبل الشرطة وقبل أن تخبرهما المستشفى وكيف لديه كل هذه المعلومات التي لم يحصلا عليها من الطبيب المشرف على حالة ابنهما !.
ومع ظهور البطلة الرابعة والاخيرة بربرا زوجة اندريه يكشف الضيف عن سر وجودهما وزيارتهما الثقيلة التي هما بالطبع جاءا إلى العاصمة وإلى منزل تلك الأسرة مضطرين وكان السبب المباشر الصريح الذي قاله أندريه “لأننا أبوين”.
أندريه وبربرا لديهما ابنة تدعى أنيا في نفس المرحلة العمرية لميرساد لكن أنيا تعاني من مرض قديم في القلب وتحتاج إلى عملية زرع قلب من شخص آخر في مرحلة الغيبوبة المميتة لكن قلبه مازل يعمل يتمتع بمواصفات طبية محددة مثل السن الصغيرة والكفاءة وهي النقاط التي جعلت الأطباء المختصين برعاية حالة أنيا في وصف قلب ميرساد بالمثالي.
أصبح الفيلم أمام أسرتين ليسا فقط مختلفتين في الطبقة والصفات لكن أيضا في تحديد أولويات المستقبل، فكل أسرة ترغب في حماية حياة ابنها، لكن ماذا سيكون الوضع إذا كانت حياة الأبناء مرتبطة ومتداخلة بينهما فحياة أنيا وأسرتها متوقفة على قلب ميرساد، وحياة أسرة ميرساد متوقفة عليه فهو الإبن الوحيد حتى وان كان في غيبوبة مميتة لكن أسرته تتمسك بالأمل حتى لو ضعيف بدلا من أن تتخذ قرار بموته دون الانتظار.
معظم مشاهد الفيلم في منزل أسرة إمير كانت في غرفة المعيشة التي تحتوي على منضدة طعام “سفرة” متواضعة تتكون من أربعة مقاعد فقط حيث يجلس الرباعي عليها كأنهم على طاولة المفاوضات حيث تتخذ مسارات الحوارات بينهم مراحل مختلفة فالزوجين الثريين كانا الاكثر ثباتا في موقفهما الذي كان محاولتهما إقناع الزوجين الفقيرين بأن قلب ابنهما هو الأمل الأخير لإبنتهما وقاما بتقديم كل الإغرءات المالية الممكنة التي وصلت إلى أن أندريه عرض زوجته الجميلة على إمير، عكس موقف الأسرة الفقيرة الذي شهد ثلاثة تحولات في البداية الرفض الشديد والحاد ثم التعاطف وأخيرا الموافقة على العرض من الناحية الإنسانية أولا.
خلال عملية المفاوضات بين الأسرتين أظهر المخرج ڤينكو موديرندورفير بطلين جديدين دون ظهورهما في الأحداث والاكتفاء بتواجدهما على سرير المرض في غيبوبة، فنجد أن خلال تحدث كل أسرة عن ابنها وعرض مميزات وابتكارات كلا منهما وان كل أسرة كانت تنتظر مستقبل أفضل لإبنها، يرسم موديرندورفير لوحة سينمائية لشكل المستقبل في سلوفينيا بين الغيوبة والركود التام وبين الحاجة الملحة إلى عملية لزرع قلب أو لكسر حالة الركود، التي كسرها خلال أحداث فيلمه من خلال لقاء طبقتي المجتمع لكن في وجود تعارض بين هذا المستقبل، هذا اللقاء الذي توقف الزمن خلاله حيث ركز المخرج كاميرته كثيرا على ساعة منزل إمير التي لا تعمل وظلت طوال الأحداث متوقفة.
رغم الصورة السوداء الأقرب إلى المأسوية التي أظهرها موديرندورفير طوال الأحداث إلا أنه أراد ان تكون النهاية تحمل بصيص من الأمل ان كنت أفضل بشكل شخصي أن تكون النهاية مفتوحة في اللقطة التي جمعت بين ميرساد وهو في الغيبوبة مع أنيا وهي على سرير المرض كلا منهما في نص الشاشة، أو حتى من خلال المشهد الذي جمع الرباعي تحت الساعة ذات الزمن المتوقف، لكن المخرج انحاز للنهاية المتفائلة بعد موافقة أسرة إمير التبرع بقلب انهما لإنقاذ أنيا أو محاولة إنقاذ جزء من مستقبل سلوفينيا.
رغم الاختلافات الظاهرة والكبيرة بين الأسرتين لكنهما التقيا في أمر واحد فقط وهو توتر أو تراجع العلاقة بين كل زوج منهما وعلاقته بزوجته لكن هذا اللقاء المفاجئ الذي كسر الركود لكنه أيضا قام بإخفاء الفتور قليلا سواء بين إمير وزجته ميرا او أندريه وزوجته بربرا لأن الرباعي اجتمعوا على هدف واحد هو التركيز على الصراع لإنقاذ الأبناء، وبرغم النهاية التي تحمل تفاؤل إلا أن المخرج اختار أن يكون مشهده الأخير داخل غرفة العمليات ولم يهتم بمسألة نجاح أو فشل العملية فقد أولى اهتمامه بإظهار مدى صعوبة إجرائها وأن عملية الإنقاذ ضرورة ملحة لكنها صعبة.