سكورسيزي و”الأيرلندي”: ملحمة الوداع

Print Friendly, PDF & Email

ارتبط المخرج مارتن سكورسيزي  بصداقة عُمر مع الممثل روبرت دو نيرو، بعد فيلمهما المشترك “كازينو” 1996 وأراد المخرج أن يقدم ممثله في فيلم كبير عن العصابات، وبحكم مشاهداته الواسعة للسينما الفرنسية، لم يكن يٌخف إعجابه بأداء الممثل جون غابان في كهولته، وكان يرى أن يقدم مشخصه المفضل بعض النماذج من تشخيصات جون غابان البوليسية للقاسم بينهما في إكراه السن، إلا أن روبرت دو نيرو كان له رأي آخر، إذ دل مخرجه على رواية اسمها ” سمعت أنك تطلي جدران البيوت” التي صدرت في 2004 عن سيرة حقيقية لقاتل مأجور اشتغل حارسا شخصيا لمجموعة من الشخصيات التي بصمت التاريخ الأمريكي خلال القرن الماضي .

استغرق البحث عن ممول للمشروع تسع سنوات، وبعد إن استنكفت الاستوديوهات الكبرى لارتفاع التكلفة وللاستهلاك الذي طال أفلام العصابات، قَبِلَ عملاق البث الرقمي المدفوع نيتفليكس الرهان بضخه تمويل وصل إلى 160 مليون دولار.

أول ما يلفت النظر في الفيلم هو العنوان، ففي بلد مثل أمريكا حيث لا يولون أهمية كبيرة للأصول، قد يبدو الإصرار على العنوان مستغربا، لكن التسمية التي تحيل على أصول البطل تؤدي هنا وظيفتين، تقود احداهما إلى التمييز الذي كان يطال الأقلية الكاثوليكية التي يشكل الإيرلنديون أغلبيتها بتاريخ الأحداث، وتدلل ثانيهما على التميز الذي حققه فرانك شيران بولوجه الدائرة الضيقة للمافيا الايطالية ونيل ثقة أعضائها بالشكل الذي جعلهم يَسِمُونه بأصوله الإيرلندية.

يبدأ الفيلم بولوج الكاميرا بوابة إحدى المؤسسات عبر تقنية مونتاج بديعة تشبه الطريقة التقليدية للفتح بطريق القزحية، تتحرك الكاميرا عبر ترافلينغ نحو الأمام فينفتح الفضاء ليملأ الشاشة، تتقدم الكاميرا في لقطة – مشهد على خلفية الأغنية الجميلة ” في سكون الليل” لفرقة الشياطين الخمسة في استحوار أفقي يكنس المكان من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين لٌيُظهر من يشغلونه وكلهم مسنون فيُدرك المشاهد ماهية المحل الذي هو عبارة عن دار راحة للمسنين، تنعرج الكاميرا يسارا إلى المطعم حيث تقف عند فرانك شيران (روبرت دو نيرو) الذي يدخل بداية في مونولوج داخلي ثم في حكي لشخص لا نراه ولكن نرجح في نهاية الفيلم أن يكون قسا فيما يشبه الاعتراف، يُعرف فرانك بالمهنة التي كان يمتهنها وهي طلاء المنازل الكناية الشائعة في قاموس المافيا عن القتل المأجور الذي يُخضب فيه القاتل الحيطان بالدماء التي تنهمر من جماجم ضحاياه ، ثم يتوالى الحكي.

جو بيشي في دور العراب راسل بوفالينو

اختار السيناريو طريقة مبتكرة للخروج عن الأسلوب الخطي للسرد ببنائه على رحلة تقود لسينما الطريق: يُدعى العراب راسل بوفالينو (جو بيشي) لزفاف ابنة صهره وقريبه بيل بوفالينو( راي رومانو) محامي اتحاد نقابة سائقي الشاحنات، وعلى طول الرحلة من فيلادلفيا إلى ديترويت، يفضل عراب عائلة بوفالينو أن يقطع المسافة بالسيارة بمعية صديقه المقرب فرانك شيران وزوجتيهما، حيث يمكنه المسار البري من استخلاص الأتاوات في الطريق، ولكن كانت له في الرحلة مآرب أخرى منها أمر جلل نترك للقارئ اكتشافه عند المشاهدة.

 أثناء المَسير يعود فرانك شيران بطريقة الفلاش باك لتذكر ظروف لقائه براسل، وكيف استطاع كسب ثقته، ثم كيف عرفه هذا الأخير على جيمي هوفا ( ال باشينو) رئيس اتحاد نقابات سائقي الشاحنات التي كانت ثاني أقوى نقابة عمالية في البلاد بتاريخ الأحداث فصار حارسه الشخصي وذراعه الأيمن .

يتركز مقطع الفيلم في حل أحد أكبر ألغاز التاريخ الأمريكي الحديث ألا وهو اختفاء الزعيم النقابي جيمي هوفا صاحب الكاريزما الطاغية في عام 1975؛ إذ لم يعثر له على أثر حتى اليوم.

تدور الحبكة حول شخصية القاتل المأجور فرانك شيران الذي يقتل ببرودة دم، وهو استعداد نمى عنده في مرحلة مبكرة، فأثناء تواجده بالجبهة الايطالية في الحرب العالمية الثانية لم يكن يتوان بناء على تعليمات رؤسائه في إطلاق النار على الأسرى العزل بعد أن يكون قد أجبرهم على حفر لحودهم.

على أن الفيلم لم يهتم بتسليط الأضواء على خلفيته النفسية ولا تفسير نزوعه نحو الفتك، فقد انتقل فجأة من سائق توصيل بسيط إلى قاتل محترف، وحين يقتل لا يرف له جفن حتى إن كان الضحية صديق ربطته به علاقة شخصية أو عائلية. ومن الألغاز التي لا يجد لها المتفرج تفسيرا العلاقة الملتبسة بين فرانك شيران وابنته بيغي التي ظلت تنفر من والدها منذ سن جد مبكرة بشكل يصعب معه الإقتناع بأن للأمر علاقة بنشاطه الإجرامي فحسب.

والظاهر أن شخصية القاتل المأجور لم تكن إلا خلفية للجوهر الذي شكل عمق هذا الفيلم ألا وهو علاقة المافيا بمحيطها الاقتصادي والسياسي في أمريكا ستينيات القرن الماضي.

عالج الفيلم تأثير المافيا على السياسة الأمريكية وتأثرها بتقلباتها، فأبرز دور المافيا في انتخاب جون كينيدي رئيسا في العام 1960 بشروط منها استعادة المكاسب التي فقدتها في تجارة القمار بكوبا عقب ثورة فيديل كاسترو في العام 1959، ثم دورها في تمويل عملية خليج الخنازير الفاشلة، وعلاقتها القديمة بوالد الرئيس جوزيف كينيدي التي جعلت عرابي المافيا يتدخلون لديه لوقف الحملات التي كان يشنها ابنه المدعي العام روبرت كينيدي.

يذهب الفيلم أبعد من ذلك حين رجح سيناريو كان دوما أحد أقرب السيناريوهات حول مقتل الرئيس كينيدي، فعندما تعجب فرانك من تفكير الرؤوس الكبيرة في اغتيال جيمي هوفا أجابه راسل ” إذا كانوا قد قتلوا رئيس الولايات المتحدة فكيف برئيس اتحاد النقابات”؟!

دي نيرو مع آل باتشينو: ثنائي القوة

لم يَسلم الرئيس ريتشارد نيكسون نفسه من شبهة التعامل مع المافيا، فقد قبل تبرع جيمي هوفا لحملته الانتخابية، وكرد للجميل منحه عفوه الرئاسي،  ليعود الأخير لاستعادة عرشه على رأس اتحاد نقابات سائقي الشاحنات ، فالمنصب ريعي ويقود إلى القضية الثانية التي سعى الفيلم إلى إبرازها وهو الزواج بين النضال النقابي والمال ودور المافيا في تثبيت  من يحافظ على مصالحها وإقصاء من يهددها، يجلس رئيس اتحاد نقابات سائقي الشاحنات على كنز قيمته ثمانية مليار دولار بقيمة ذاك التاريخ، ولكون هذه الأموال غالبا ما تظل مجمدة في صناديق التقاعد والتأمين ، تفتق ذهن النقابيين والمافيا على إقراضها بنسب مخفضة أو بدون فوائد، والمرونة في التعامل مع مطالب المافيا في هذا الشأن هي المؤشر في البقاء على رأس الاتحاد ولكن جيمي هوفا يقاوم هذا في وقت ما بينما أبدى خلفه الحمل الوديع فيتز سيمونز (غاري باسارابا) تعاونا مع المافيا، وهو الذي دفع به هوفا ظانا أنه سهل القيادة.

صرح مارتن سكورسيزي بأن هذا الفيلم قد يكون فيلمه الأخير، وقد لا يتاح له مستقبلا الاشتغال على فيلم كبير بحجمه، لذلك تحس بأن العمل فيلم وداع، أصر مخرجه على أن يصنعه بممثلين من جيله، ولو كلفه الأمر استعمال تقنية تعيد للكهول بعض نضارة الشباب في وقت كان بإمكان “الكاستينغ” أن يمنحه خيارات أكثر اقناعا من حيث السن. من جانبهم قدم الثلاثي روبرت دو نيرو وجو بيشي وآل باشينو، أداء رائعا نقلوا من خلاله على الشاشة خبرة كل السنين الطويلة التي راكموها في التمثيل.

سكورسيزي مع بطلي فيلمه

في المجمل يعد فيلم “الايرلندي” تحفة سينمائية مصنوعة بإتقان شديد ويصعب العثور فيه على أخطاء وهنات سواء في الإخراج أو التصوير أو المونتاج، مع تفوق بصري لا تخطؤه العين في تشكيل الكادرات واختيار حركة الكاميرا و في الجماليات التي برزت من خلال اللقطات العامة والمتوسطة سيما في الرحلة على الطريق كترافلينغ السيارة التي تقطع الإسفلت بسرعة، أو ذلك الذي نفذ عبر الجو باستعمال الحوامة.

في فيلم ” الأيرلندي ” قدم سكورسيزي بعضا من ملامح سينما الغد التي ستعتمد بشكل كبير على الإمكانيات المتطورة التي يوفرها التصوير الرقمي كتصغير سن الممثلين أو تكبيره دون الحاجة إلى العمل المضني في المكياج دون نتائج مؤكدة، كما فتح المجال بفيلم يمتد لثلاث ساعات ونصف لإعادة عصر الأفلام – الملاحم مثل ” ذهب مع الريح” و”الوصايا العشرة” و”دكتور جيفاكو” و “حدث ذات مرة في أمريكا ” وغيرها، ولعل ما سمح بهذه المزية هي المشاهدة المنزلية على منصة البث الرقمي التي تسمح للمشاهد بقطع المشاهدة وتجزئيها بما تسمح به ظروفه، في حين أن موزعي الأفلام في القاعات باتوا منذ زمن بعيد يفرضون على صناع الأفلام مددا معيارية تتراوح ما بين 90 إلى 130 دقيقة .

أخيرا ينبغي التنويه إلى مفارقة خاصة حدثت للفيلم، ففيما لقي إجماعا نقديا كبيرا ورشحه مجمل النقاد المحترفون لأرفع الجوائز، خارج خاوي الوفاض من ليلة الأوسكار، مما عكس موقفا متوجسا من انتاجات منصات البث الرقمي المدفوع بناء على الطلب والتي تؤخذ بجريرة المساهمة في قتل المشاهدة في القاعات المظلمة، على أن توفق نتفليكس في جذب مخرج من طينة سكورسيزي وفريقه من النجوم هو أكبر دعاية لهذه المنصات ولما يمكن أن تصنعه مستقبلا، وما “الأيرلندي” إلا القطرة التي تشكل أول الغيث.

Visited 89 times, 1 visit(s) today