طبيعة السرد في أعمال السيرة الذاتية عند يوسف شاهين
مقدمة
هناك طبيعة خاصة تتميز بها طريقة سرد السيرة الذاتية، تختلف عن طُرق السرد الأخرى. وذلك رغم تباين التجارب وتنوع وجهات النظر، تبعاً لكل مُخرج يسرد سيرته الذاتية، مُستخدماً في ذلك تقنيات السرد الذاتي، من خلال أدوات السرد وآلياته، مثل.. الزمن/ المكان/الشخصية/ الإيقاع ففي هذه النوعية من الأفلام يقوم السينمائي بمحاولة تفسير العالم من خلال كشف ذاته، وبمقدار صدقه مع نفسه، يقوم بخلق عالم جمالي خاص وشامل لظواهر أخرى مُحيطة به. فهو ذات بين مجموع، وكلما كانت هذه الذات صادقة ـ الصدق الفني ـ فإنها تمتد وتتماس مع المجموع، دون أن تفتقد خصوصيتها وتفردها، أو ما يمكن تسميته.. بالتجربة الجمالية للذات.
ويُعتبر يوسف شاهين الوحيد بين المخرجين العرب الذي قام بعمل
سيرة ذاتية شبه مُكتملة، ومُمتدة عبر سنوات طويلة، بداية من عام 79 بفيلم إسكندرية ليه، وحتى عام 2004 بفيلم إسكندرية نيويورك، مروراً بفيلمي حدوتة مصرية 82، وإسكندرية كمان وكمان 90.
وهو يختلف عن غيره من المخرجين، حيث لم يتطرق إلى سيرته الذاتية إلاّ بعد صُنعه أفلاماً كثيرة ذات وجهة نظر موضوعية. وهو من خلال أفلام السيرة هذه حاول تقديم رؤيته الفكرية لما يُحيطه من أحداث، مُحاولاً فهمها، وتحديد موقفه منها، سواء بتكوين موقف إيديولوجي سابق يحكمها، أو موقف مُشوّش لا يستطيع التفسير.
ومن خلال تحليل هذه الأفلام سنحاول التوصل إلى التيمات الكبرى التي تحكمها ـ التيمات السردية ـ وإلى أي مدى كانت هذه الأفلام تتبنى وجهة نظر السرد الذاتي، وهل هذه الرؤية حقيقية في ذاتها، أم أنها مجرد إطاراً وهمياً، لا ينتمي كلية إلى السرد الذاتي، بل يصل في أحيان كثيرة إلى السرد الموضوعي. وهل من الممكن تقديم بعض موضوعات هذه الأفلام من وجهة نظر موضوعية تماماً، بحيث لا تصبح للذات هنا أية منطقية، أي أنها مُقحمة ومُفتعلة؟
فكتابة الذات تعد نوعاً حاداً ومُرهفاً من أنواع الكتابة ـ سواء أدبية أو سينمائية ـ وبالتالي تستمد مبررها من ذاتها فقط، دون الخوف من تهمة عدم الموضوعية أو شمول الرؤية، وهذه السخافات، التي إن وضعها الفنان في حسبانه جاء عمله مُفتعلاً وساذجاً. وقد تأرجح شاهين بين هذا وذاك، داخل العمل الواحد أحياناً، بخلاف إسكندرية كمان وكمان، الذي انحاز إلي الذاتية تماماً، لوجود هَم حقيقي يُقلقه، وصولاً إلي شكل كاريكاتوري لهذه الذات في عمل متواضع فنياً يُسمى إسكندرية نيويورك.
ـ نعتبر وفق مفهومنا أن فيلم المهاجر يُعد من أفلام السيرة الذاتية ليوسف شاهين، ولو بصورة غير مباشرة –وهذا يرتبط بتطور درجات الوعي ـ لا تعني كلمة التطور هنا أية أفضلية أو ميزة ـ ومدى اقتراب أو ابتعاد هذا الوعي عن الصدق الفني.
ومن خلال الدراسة سنحاول توضيح إلى أي مدى نجح الفنان، وفق وعيه في التعبير عن سيرته الذاتية، من خلال آليات كتابة الذات.
أولاً: طبيعة السرد الذاتي
كتابة الذات:
“كتابة السيرة الذاتية هي فن الذاكرة الأول، لأنها الفن الذي تجتلي فيه الأنا حياتها، صراحة وعلى نحو مباشر، مُسترجعة هذه الحياة في امتدادها الدال، أو في وقت معين من أوقات هذا الامتداد، له مغزاه الخاص، وذلك من منظور لحظة حاسمة من لحظات التحول الحدّي في عُمر هذه الأنا”(1)
الأهم في تقييم الأعمال الأدبية والفنية هو شكل ومضمون هذه الأعمال وليس في كونها سيرة ذاتية، إنها شكل لتناول العلاقة بين الفرد والمجتمع، وللتعبير عن حقبة معينة من تاريخ المجتمع، كما عاشها المبدع”(2).
نحن نتفق وكاتب الفقرة الأولى في تعريفه لكتابة الذات، ولكننا نريد توضيح عبارة (المغزى الخاص) لأن هذا المغزى هو المشكلة التي يعاني منها كاتب الفقرة الثانية، وبعبارة أدق..
ما هي حدود الذاتي والموضوعي؟
إن كتابة الذات لا تعني في المقام الأول إلا بنفسها، دون الوضع في الاعتبار أية موضوعية– سواء وجهة النظر أو كل ما هو خارج عن سياق الذات – فالكتابة نفسها هي التي تخلق عالمها، مهما بدا في أنها تتماس مع عالم موضوعي، فهي بالفعل تعيش في العالم، ولكن هذا العالم ـ الخارج عنها_ليس هو همّها الأساسي، لهذا فالذات تعيد تشكيل العالم وفق رؤيتها. (المغزى الخاص) والمغزى الخاص المقصود نرى أنه يكمن في تحرر هذه الذات بفعل الكتابة ـ أدبية أو سينمائية ـ فقط التحرر من الذكريات عن طريق هذا الفعل، دون النظر إلى أية قيمة خارجية تضاف إلى تجربة الكتابة الذاتية/التجربة الجمالية، ولا يعطي هذه الكتابة قوتها، إلا مدى صدقها الفني التي تحاول الوصول إليه وكلما كانت هذه الكتابة صادقة وحقيقية، فإنها لن تحيد عن ذاتها، في سبيل صدق وهمي يطلق عليه الموضوعية.
وهذا ما يريده أو يراه كاتب الفقرة الثانية، من وجوب تعبير السيرة عن ما هو تاريخي واجتماعي وسياسي حتى تكتسب قيمة ما،ونحن نرفض هذا الكلام، ونراه مناقضاً لفهم كتابة السيرة الذاتية، فالقيمة كما قلنا تكمن في مدى صدق هذه السيرة، وهو الذي سيجعلها تتماس مع الآخرين (المتلقين)، دون الالتجاء إلى ما هو خارجي عنها،حتى تكتسب قيمة ما، وهذا يحدث بالفعل مع كُتاب السيرة الضعفاء فنياً، يحاول ملء فراغ هذا الضعف/الزيف، من خلال القوة الخارجية لما هو موضوعي .. كالتاريخي والسياسي والاجتماعي.
فكاتب السيرة يعرف ضعفه الفني، ويلجأ للموضوعية ليخفي هذا الضعف، كنوع من التحايل ليس أكثر، فلا يوجد لديه هم حقيقي يريد التخلص منه، ويصبح الأمر على غرار اللعبة الساذجة، وبالتالي لا يتفاعل معها إلا مَن يشترك معه في هذه السذاجة.
ولا ننكر أهمية السياسي والاجتماعي، طالما كاتب السيرة في المقام الأول فرد ضمن مجموع، ولكن هذه الأهمية تأتي كعامل هامشي ضمن عوامل كتابة السيرة، وليس الأساس. فالكتابة الهشة تريد مَن يؤيدها، وهي كتابة لا تثق في نفسها لذا يتم تضمينها أحداثاً مُقحمة، يكون قد تفاعل معها وبها آخرون حتى لو لم تكن هذه الأحداث مقحمة، فإن تضخيمها، والمساحة التي تشغلها تجعلها تفوق الذات أهمية، وليس العكس، وإلا لماذا نطلق عليها من الأساس أنها كتابة عن الذات!
ما بين الذكرى والتاريخ
وهي تنويعه أخرى توضح مفهوم القيمة الفنية/ الجمالية.. فإذا وضع كاتب السيرة الذاتية هذه القيمة في اعتباره قبل الكتابة، فسيصبح التاريخي هو الأساس، وذكريات الكاتب ستدور في فلكه، وتتحول القيمة الفنية المعتمدة على السيرة أساساً، إلى قيمة موضوعيةلا تنتمي للسيرة، هذا التشوش سيضعف من القيمة الفنية، لحساب ما يطلق عليه بالموضوعية، وهذا سينصرف لكل مفردات العمل من أماكن وأحداث، بل ووجهة نظر الراوي المتأرجح ما بين الذاتي والموضوعي. فهو في الأصل يشك في صدق ما يرويه، فيتعلل ويضيف كل ما يخرج عن سيرته، ويحاول جاهداً أن يجعل التاريخي مُلتحماً بالذكرى، ليضفي عليها أهمية مزعومة، لم تكن تمتلكها من الأساس.
ثانياً: عناصر السرد الذاتي
(1) الزمن:
“الذاكرة هي حبكة حكاية، هي في جوهرها بالذات صوت.. يتكلم، يكلم ذاته، أو يهمس، ويروي ما حدث” (3)
يستلزم السرد الذاتي زمناً خاصاً، لا يُصنف في الغالب وفق تقسيمات الزمن الثلاث (ماضي/ حاضر/ مستقبل)، فهو زمن نفسي (فني) في المقام الأول، يُعيد صياغة زمن الأحداث وفق منظور الذات. وعلى ذلك فحركة الزمن هنا تختلف عن أنواع السرد الأخرى، فالزمن العام للعمل عبارة عن عدة أزمنة متداخلة، وليست متجاورة، بمعني .. فالعودة للماضي، أو الاستشراف تنبع من حركة الزمن السردي نفسه، ولا تخضع كما في أنواع السرد الأخرى إلى طبيعة الحدث، حيث أن الحدث في هذه الأنواع هو الأساس، الذي يترتب عليه كل العناصر السردية الأخرى، وهنا تصبح الأزمنة متجاورة، وليست متداخلة كما في سرد الذات. وفي العمل الذاتي الجيد فنياً، يتم دمج الزمن الوصفي في الزمن السردي، وهو ما يُطلق عليه“جينيت” التردد والتفرد(4).
فالتردد يختص بالوصف، والتفرد يختص بالسرد، ويصبح الوصف ضمن إطار زمن الحكاية، مثل استخدام الشخصية لمفردات المكان، من خلال الحدث، أي.. توظيف مفردات المكان من خلال الحدث، كما في المشهد السينمائي الجيد. ويعتبر (التداعي) كمنطق لترتيب الصور، هو الذي يحرر الحكاية من الزمن القصصي ـ الترتيب العِلّي للأحداث ـ مع ملاحظة أننا نتحدث في المقام الأول عن ذكريات، تتم صياغتها في شكل فني، لذلك يتخذ الزمن النفسي/ الفني، شكلاً متميزافحدوث الحدث هو زمن قصصي، وتذكره هو زمن الحكاية، والخوف من نسيانه، أو وَشك نسيانه هو زمن السرد. كمالابد وأن نقر حقيقة ما بالنسبة لزمن السرد الذات فالحكاية تقود بطلها حتى النقطة التي ينتظره فيها السارد، لكي يجتمعا ويمتزجا في النهاية، وعند هذه النهاية يتحول البطل إلى سارد.(5) لذلك فالمسافة بين نهاية القصة ولحظة السرد، هي الزمن الذي يحتاج إليه البطل ليكتب ما يمثله، وليس الكتاب الذي يكشفه السارد، في مدة خاطفة. أي أن لحظة السرد هي نفسها لحظة موت القصة المسرودة.
(2) المكان
المكان في السرد الذاتي، يختلف عنه في أنواع السرد الأخرى، ذلك لأنه يخضع للزمن الذاتي تماماً. فهذا المكان يريد تأكيد حضور الزمن المنفلت رغماً عن صاحبه، هذا الزمن الذي يتم تحريفه إلى أقصى حد، حتى يصبح جديراً بالقبض على لحظات تريد الذات تثبيتها بشتى الطرقفتصبح الأماكن.هي إطار زمني للتخيلات والأحلام، فهي أماكن زائفة، رغم كل المحاولات لجعلها حقيقية، لأن السارد الذاتي يريد رؤيتها ـ الأماكنـ من خلاله هو، وليست كما هي في الحقيقة.
وهذا ما يوضح وجهة نظرنا في الموضوعية المزعومة، التي يحتمي بها كاتب السيرة الضعيفة فنياً، ليجعل من هذه السيرة قيمة ما، تقع خارجها، ولا تنبع منها في الأساس، ويعرف أن وجهته واهية.
ويتضح ذلك في السينما أكثر من الأدب ـ باستثناء أدب الذات التوثيقي/راجع رواية نجمة أغسطس لصنع الله إبراهيم على سبيل المثال ـ في وضع العديد من اللقطات الأرشيفية والتسجيلية، التي توثق لأحداث حقيقية، لإضفاء قيمة مُفتقدة في سيرته الذاتية.
(3)الإيقاع
يتكشف الإيقاع من خلال تكرارات في العمل تدل عليه، تكون في الأعمال الناجحة كاشفة ومفسرة للعمل، كحالات التداعي (عوليس ـ الزمن المفقود)/العلاقة بين الوصف والسرد (تلك الرائحة)/وجهة نظر السارد (راشومون ـ المواطن كين)/علاقة الراوي بالشخصيات (مواطن ومخبر وحرامي)/الروائي والتسجيلي (إسكندرية ليه ـ حدوتة مصرية).
(4)السارد
سارد العمل عموماً إما أن يكون سارد ذاتي أو موضوعي، رغم تعدد أشكاله في كل من النوعين. إلا أن وجود سارد عليم قادر على السيطرة الموضوعية، يقابله سارد ذاتي، يعطي معنى للكل، من خلال تجربة روحية تظل امتياز للبطل (هنري ميللر في مدار السرطان/ الخبز الحافي لمحمد شكري/إني أتذكر،المقابلة لـ فيلليني). ذلك على سبيل المثال لا الحصر.
ويلاحظأن في كل سرد ذاتي، هناك كل من السارد والبطل، تحكمهما علاقة خاصة، حيث يتناول السارد البطل بنوع من التفوق المتعطف، أو التهكمي. فالسارد هنا يعلم الحقيقة، بخلاف البطل، الذي يكتشفها فجأة، وقد يتتابع صوت كل منهما، أو يتطابق في لحظات معينة، حيث يتيح السارد للبطل بعض لحظات اكتشاف الحقيقة، ليمارسها البطل بدوره، ويريد السارد الاستمتاع بها مرّة أخرى (6)
هذه بعض الملاحظات حول طبيعة السرد الذاتي.. عناصره، وأساسه المتمثل في الذكريات، وبالتالي في عامله الأوحد، وهو الزمن، وكيف أن الزمن في السرد الذاتي، هو الذي تدور حوله العناصر الأخرى، من مكان وإيقاع ووجهة نظر السارد، فهذا الزمن الوهمي، هو الذي يُضفي الوهم والقيمة الفنية بالضرورة، للأعمال التي تتناول السيرة الذاتية لصاحبها، دون اللجوء إلى وسائل أخرى بعيدة عن طبيعة السرد الذاتي، والتي عند استخدامها توضح مدى فقر هذا النوع من السرد، مما يفضح ويفصح عن مدى افتعاله وزيفه.
ثالثاً: تطبيقات
(أفلام يوسف شاهين السيريّة)
سنحاول من خلال تحليل الأفلام الثلاثة، التي يُشاع أنها أفلاماً تندرج تحت وصف أفلام السيرة الذاتية، أن نوضح إلى أي مدى تنتمي هذه الأفلام لهذا النوع من السرد، وهي… إسكندرية ليه/حدوتة مصرية/إسكندرية كمان وكمان.
(1) إسكندرية ليه 1979
شاب من أسرة بورجوازية شِبه متوسطة، يحلم بالسفر إلى أمريكا لدراسة السينما. هذه هي الفكرة، ولكن لأن الفكرة تصلح لأي نوع من السرد، دون أن تقتصر على نوع بعينه، ودون أن يكون هناك هماً حقيقياً، يجعلها لا يمكن سردها إلا من خلال الذات، فقد جاء العمل ليفضح زيف هذه الذات، التي كانت تجري وراء الشكل، ليس أكثر. وأول هذه المظاهر وأخطرها هو بطل السيرة/الفيلم نفسه.
هل هناك فارق من أن هذا البطل يريد دراسة أي شيء آخر غير السينما؟
أي .. من الممكن أن يحل محله عدد لا حصر له من الأبطال، لديهم الهدف نفسه، دون أن يحدث خلل في السرد!
وهذه أول نقطة، تجعل من هذا العمل لا ينتمي للسيرة الذاتية كلية. فالذي كان يُحرك المخرج هو الرغبة في الحديث عن نفسه بأي شكل، وكان من الممكن أن يحقق ذلك، ولكنه يعرف أنه لا يملك شيئاً، لذلك لجأ إلى إضفاء كل ما هو موضوعي وبعيد عن السرد الذاتي، حتى يجعل للعمل/الفيلم قيمة ما.
(الحرب العالمية/ الإخوان/ الشيوعيون/ الضباط الأحرار/ اليهود)
إنه يريد الحديث عن الأربعينيات في نهاية السبعينيات، ولكنه يحتكم لأيديولوجية لا تنتمي للبطل الذي اختاره، هذه الفكرة التي حشد لها حشداً كبيراً من اللقطات والمشاهد التسجيلية لتوحي بأهمية ما لهذه السيرة، في ذلك الوقت، لتعويض ذات هزيلة لن تقدم شيئاً.
سيقول البعض إن الذات هي المؤثرة والمتأثرة بما يحيطها، ولابد وأن تكشف عن المجموع، وكلمات من هذا القبيل، وكأنها دعاية انتخابية، ولكن الذات تكتفي بنفسها، وتتماس مع كل ما هو موضوعي بلا إقحام، ومن خلال صدقها الفني فقط.
ولنستعرض بعض الآراء، التي لا نعتقد في صحتها، والتي رغم التمجيد الظاهري لما تدعوه العمل الذاتي، تستدل على قوته من خلال كل ما هو موضوعي مُقحَم، يأتي من خارج هذه الذات.
“نلاحظ أن المخرج قد مزج بين العام والخاص.. فالفيلم يعتبر بمثابة تعبير (موضوعي) عن فكرة الوعي والذاكرة والماضي والأنا، وهنا لا يمكن فصل الأنا عن النحن”(7).
لقد وضعنا كلمة موضوعي بين قوسين، لنظهر مدى صحة فكرتنا، كما أن الكاتبة ستفطن للعيب الذي نراه في العمل، ولكنها ستحوله إلى ميزة، ككل مَن تناول أفلام شاهين السيريّة، فتقول في موضع آخر“شكلتالشخصيات التي قدمها شاهين في إسكندرية ليه، وسيلة لتجسيد رؤيته للعديد من المواقف والأزمات المعاصرة لفترة الأربعينيات،أي لم تكن سرداً خالصاً لسيرة شاهين الذاتية، ولكنها وسيلة لإخفاءهذه الذات وراء تلك الشخصيات”(8).
بالطبع لم يكن السرد خالصاً كسرد ذاتي، ولكنه (رؤية)، فنحن نعتبر هذا الفيلم مجازاً على سبيل الرؤية الذاتية، باعتبار أن كل مخرج يحاول تقديم رؤية ما، من خلال موضوعه، أياً كان الموضوع، ولكنه لا يندرج تحت مُسمى السرد الذاتي. لأن هذا سيطرح العديد من الأسئلة التي لن تكون في صالح الفيلم..
فمن وجهة نظر مَن يتم سرد الفيلم؟
سنجدها وجهة نظر المخرج، وهي وجهة نظر موضوعية، وليست ذاتية.
كما أن الإيقاع بالفيلم لا ينتمي لإيقاع السرد الذاتي، الذي هو زمني في الأساس، بل إيقاع مُستمد من الخارج/ موضوعي، إضافة إلى التناوب بين الروائي والتسجيلي، مع ملاحظة أن الأجزاء الروائية هي التي كانت تتبع الأجزاء الأرشيفية والتسجيلية، حتى تعطي الشكل الروائي الهش والمشوش قيمة ما، تجعله يتماس مع الآخرين، لأن المخرج يعرف أن حكايته تتشابه وحكايات لا حصر لها، لذلك فهي لم ولن تهم أحد.
هذه الحكاية الذي يُعلي من شأنها ناقد آخر، يرى أن قيمتها المُثلى تتجلى في كل ما هو خارجي عنها، أما مفردات الحكاية الذاتية، فيعدها أقل أهمية، إذ يقول:
“إسكندرية ليه فيلم عن مدينة، وعن زمن، وعن كائنات بشرية،لكن أيضاً فيلم عن الحرب والسلام، وعن السياسة وعن الموت وعن البراءة، وعن مسائل أقل أهمية مثل الشذوذ الجنسي والأحلام المقموعة، والخيبة”(9).
والناقد لديه الحق في تفسيره الخاطئ، لأن صانع الفيلم نفسه لديه المنطق المغلوط نفسه، عندما يحاول صنع عمل مُفتعَل، يتشبّه بالانتماء إلى السيرة الذاتية.
(2) حدوتة مصرية 1982
الحديث عن حدوتة مصرية لن يختلف كثيراً عن إسكندرية ليه، ليس لكونه الجزء الثاني من سيرة المخرج، فهي ليست أعمال سيريّة، وسنقبلها على أنها وجهة نظر ذاتية ليس أكثر.
ولكن اللافت للنظر أن شاهين اقترب من نفسه ولو بمقدار ضئيل،واستغل الأزمة القلبية التي مرّ بها، ولكن هذه الأزمة العضوية لم تكن ذات أثر نفسي حاد، الذي هو المحرك الأساسي لكتابة السيرة، وهو يعلم ذلك، فحمّل الفيلم بكل ما هو موضوعي، وخارجي عن ذاته، حتى لو كانت جميع الشخصيات تتحدث عنه، أو أن يعرض أجزاء من أفلامه، وأزماته أثناء مراحل صنع هذه الأفلام.
“إذا دققنا النظر في مثل هذا الفيلم، نجده يعتبر من أقوى أفلامه،التي عبّرت عن ذاتيته، ومن هنا نجد سؤالاً يفرض نفسه: لماذا كان يضع شاهين أجزاء كاملة من أفلامه السابقة ضمن أحداث الفيلم … يُخيّل إليّ أنه قد فعل ذلك لرغبته في أن يؤكد ذاتيته التي تتمثل في ماهية الحقيقة، من خلال سرده لذكرياته”(10).
لا أدري ما المقصود بـ (ماهية الحقيقة)، ولكن اللجوء لهذه المشاهد كان بهدف خلق توازن ما، فهناك الجزء الروائي والتسجيلي المقحم، لإعطاء قدر من القيمة الفكرية، خاصة وهناك إيديولوجية واضحة في هذا العمل عملت على الحد من قدرات السرد الذاتي، وجعلته يتجاور مع أنواع أخرى من السرد، دون أن يمتزج معها، أو تظهر من خلاله، فكانت هذه الأجزاء، التي يراها المخرج أكثر أهمية من سيرته المُفتعلة، فحمّلها بما لا يُطاق. فهو يُسقِط فكره الإيديولوجي وقت صُنعه الفيلم، على أحداث مضت، حاول منها صياغة عمل سير ذاتي، وهو ما كشف هذه اللعبة، وأوضح مدى تهافتها. وسنجد أنه تخلص تماماً من هذه الآفة في إسكندرية كمان وكمان.
يعتبر فيلم إسكندرية كمان وكمان هو الفيلم الأمثل والمُعبّر عن مفهوم السيرة الذاتية، وهو بذلك يفضح إلى حد كبير الادعاء في الفيلمين السابقين. كما أن آليات بناء السرد الذاتي، التي تميزه عن أنواع السرد الأخرى، نجدها شبه مكتملة في هذا الفيلم. ويتضح ذلك في استخدام..أشكال الزمن المتداخلة/ المكان/ الراوي الذاتي/ الإيقاع.
فالموضوعي هنا يتم الكشف عنه من خلال الذات ومنظورها ومفهومها، على خلاف الفيلمين السابقين، بل يصل الأمر لمناقشة الفكر المجرد عبْر هذه الذات. كما نلحظ من ناحية أخرى أن هناك همّاً حقيقياً يُعانيه صاحب التجربة الذاتية، بدون افتعال أوإقحام. فلم يكن يريد صاحب التجربة إلا التخلص من العبء الذي تمثله، وبالتالي التعبير عنها في عمل فني، لم يكن يريد مشاركة من الآخرين، فقط لتتحقق مقولة نيتشه:”أن تستريح الذات من خلال ذكرياتها/مواجهتها”.
ـ الزمن:
يعتبر العمل عملاً زمنياً في المقام الأول، زمن متداخل يسيطر على العمل ككل.
“فالفيلم عبارة عن مذكرات شاهين، ما تم وما لم يتم، فلا توجد دراما بالمعنىالمفهوم (تقليدي) ولكن مذكرات عن فترة في حياة البطل، حيث يعبّر فيها عن أحاسيسه وأوهامه وأفكاره، آملاً في نفسه أن يصدق ويصدقه الآخرونوهذه الكتابة بين الروائي والتسجيلي، والماضي والحاضر، والواقعيوالفانتازي، لا تعني الفوضى، فهناك شكل يربط بين كل هذا .. المذكرات”(11).
إسقاط الأزمنة
وحتى يتحايل شاهين في مسألة زمن السرد ، قام بالسرد من خلال التداخل المستمر لهذا الزمن .. الذكرى مع الحلم مع التخيل، وهذه الحيل اتخذت عدة أشكال:
ـ الزمن التاريخي..
تم التعامل مع الزمن بمفهومه ودلالته التاريخية،لمناقشة قضايا أولها الحرية، ثم شكل السلطة، وسبب نشوءها، والتي لا تختلف باختلاف العصر. فالطابع الإنساني المميز لكل شخصية في الواقع الحالي/الحاضر، يتمثل عبْر التاريخ، من خلال مشاهد تصور عدة عصور.
ـ يحيى المعتصم في النقابة، هو قائد جيوش الاسكندر والمؤمن به، وهو أنطونيو المخدوع، وهو الراقص في المولد والممثل في زمن العرض/ عرض الفيلم.
ـ عم هاملت، ومتزوج أمه، هو ممثل أفلام مقاولات.
ـ معتصم النقابة، الثائر في عصر الاسكندر، والقاضي على حُكم كليوباترا.
ـ عمرو هو الاسكندر وهاملت، الشخصية التي أراد أن يقوم بها شاهين
طوال حياته ولم يستطع ، كما أن دماء الاسكندر ما زالت حيّة وهو في مقبرته ، فيحيى ما زال يحيا الماضي، ويُصر عليه.
ـ نادية الممثلة بطلة المستقبل/ النموذج الجمالي للفنان في عصر الاسكندر/ تجربة الحب التي تنتظره بديلاً عن بطله المفقود عمرو.
ـ الزمن النفسي..
ويتخذ هذا الزمن شكل التوحد بين شخصية يحيى الباحث عن عمرو/ هاملت وشخصية “ستيليو” الباحث عن مقبرة الاسكندر.
ـ الحلم والتخيّل..
دور هاملت الذي يجسده عمرو/ مشاهد تنفيذ فيلم هاملت.
نادية ودور كليوباترا من وجهة نظرها.
التخيّل الذي يصل إلى أقصاه، وذلك عند تفكيك مادة الحلم، وإعادة صياغتها وفق منطق مشاهد التخيّل، الذي يمتد بدوره لما هو تاريخي، مُعتمداً على التداعي… يحيى يعلق على ساق نادية المتسخة، فتدّعي أنها تمتلك سيقاناً جميلة، فيصبح يحيى هو المهندس المعماري البطلمي، الذي يقوم بالبحث عن موديل، لتصبح كساق لتمثال الاسكندر، الذي سيوضع أعلى الفنار، ويتضح أن هذه الساق التي اختارها هي ساق نادية، ليس هذا فقط.. فزوجة يحيى عندما تعلق على جمال نادية/الموديل في عصر الاسكندر،يرد المهندس/يحيى بجملة معاصرة من مفردات عمله كمخرج بأنه يضع هوّاية).وبعد هذا المشهد الخيالي جداً، يبدأ شعور يحيى بحب نادية، كبديل لحب عمرو.
كل هذا بالفعل لا يعني الفوضى أو التشوش، كما في الفيلمين السابقين، بل منطق الصدق الفني في سرد الذات، هو الذي يجمع كل ما يبدو متناثراً، فكل سرد ذاتي له منطقه الخاص، الذي يتم من خلاله.
– المكان:
دار المكان وتشكيله وفق إطار الزمن السردي، فتعدد الأماكن ـ نلاحظ هنا الابتعاد التام عن الإقحام لكل ما هو تسجيلي، أو وثائقي، اللهم مشهد مسرح البالون، وهو هنا مُبرر، ويستمد أهميته من طريقة البناء الدرامي للحكاية، وليس العكس ــ فالأماكن وإن كانت تتشابه مع الواقع، إلا أنها خيالية وفق الذاكرة التي تنتجها، لذا أعاد شاهين إنتاج هذا المشهد، دون اعتماده على لقطات توثيقية.
ـ السارد:
سيطر السارد الذاتي على ناصية السرد، حتى حينما يكون بعيداً عن الحدث، وفي هذه الحالة يتم السرد وفق روح السارد ورؤيته، أي.. الحالة الروحية الكاملة للسارد.
ـ الإيقاع:
هناك تكرارات في السرد تكشف عن إيقاع العملعلى مستوى المشاهد شبه الواقعية، وتفسيرها عن طريق مشاهد الحلمأو التخيل/ الشخصيات المتواجدة والمتكررة في المشاهد المختلفة زمنياً/ الحلم الدائم غير المتحقق/ الحب المفتقد/ شكل وماهية السلطة.
فالسرد/ الفيلم بالكامل عبارة عن ذكريات راسخة،تعيد نفسها بشكل أو بآخر، فالذكريات هي التي تحرك صاحبها،وهو يريد التخلص منها، إلا أنها تتحداه طوال العمل، وتشكل أحلامهوتخيلاته، فهو يستحضر هذه الذكريات ليواجهها في النهاية في صدق شديد، هذا الصدق الذي أعطاها قوة و جعل منها/ الذكريات قيمة شبه مطلقة، دون التعلل بأشياء أخرى بعيدة، لا تنتمي إليها.
ملحوظة: لن نعلق على فيلم إسكندرية – نيويورك، نظراً لما يتمتع به من ضعف فني، بداية من الفكرة وبناء السيناريو، وصولاً إلى أداء الممثلين. فضلاً على أننا لا نعتبره من أعمال السيرة الذاتية، أو حتى وجهة النظر الذاتية، التي ينتمي إليها كل من فيلمي..إسكندرية ليه وحدوتة مصرية.
خاتمة
نستطيع في النهاية التوصل إلى بعض النتائج التقريبية التالية:
1ـ ليست كل أفلام يوسف شاهين، التي يُشاع أنها سيرة ذاتية تحمل سمات السيرة الذاتية، هذه السمات التي تتحقق من خلال فيلم وحيد هو فيلم “إسكندرية كمان وكمان”. أما كل من فيلمي “إسكندرية ليه” و”حدوتة مصرية” فمن الممكن وضعهما تحت مُسمى (الرؤية الذاتية) حيث يغلب عليها السرد الموضوعي وأدواته، وليس السرد الذاتي.
2ـ أعطى شاهين قيمة كبيرة في فيلميه “إسكندرية ليه” و”حدوتة مصرية” من خارج سياق السرد الذاتي، لعدم وجود هم ذاتي حقيقي يقلقه، ولكنه هم مُفتعل، فعمل على شحن العملين بكل ما هو موضوعي، ليشرك الآخرين في التفاعل مع الفيلمين، وقد ظهر ذلك في طبيعة السرد .. من اللجوء للتسجيلي والأرشيفي، البعيد كل البعد، والمقحم بفجاجة، بحيث توارى السرد الذاتي تماماً، وكاد أن يختفي، لوجود إيديولوجية قاصرة، أثرت على العمل.
3ـ الصدق الفني هو معيار كتابة السيرة الوحيد، وهذا الصدق لم يتحقق إلا من خلال فيلم “إسكندرية كمان وكمان“.
4ـ قصور رؤية المتابعات النقدية لهذه الأعمال، التي ترى القيمة في كل ما يبتعد عن الذات، وتراها فقط في تضخيم كل ما هو تاريخي واجتماعي وسياسي، وتحكم بذلك على درجة وعي الفنان، الذي بدوره ارتأى في وجهة النظر هذه القيمة نفسها، وكأننا أمام بحث سياسي مشوش، وليس عملاً فنياً أساسه السيرة الذاتية، حيث يتماس مع المجموع من خلال السيرة الذاتية، وليس العكس. وهو ما حققه بالفعل في “إسكندرية كمان وكمان” الذي توصل من خلاله إلى مناقشة أفكار غاية في الصعوبة، مثل عمليات ومشكلات الخلق الفني، وصولاً إلى الديمقراطية وطبيعة السلطة.
الهوامش
( 1 ) د. جابر عصفور. زمن الرواية (ص 195) مكتبة الأسرة 1999.
( 2 ) سمير فريد. مقال بعنوان “الإنتاج السينمائي المصري الفرنسي المشترك“.
ص 158. مجلة القاهرة. عدد (147). فبراير 1995. هيئة الكتاب.
(3) جيل دلوز. الصورة/الزمن. (ص 70). ترجمة: حسين عودة. سلسلة الفن السابع (29). منشورات وزارة الثقافة ـ المؤسسة العامة للسينما/ سوريا 1999.
(4) جيرار جينيت. خطاب الحكاية. ص 155 وما بعدها. ترجمة: محمد معتصم. المجلس الأعلى للثقافة. ط 2 ـ 2000.
(5) جيرار جينيت. المرجع السابق. ص 238.
(6) جيرار جينيت. المرجع السابق. (ص 254 وما بعدها).
(7) سعاد شوقي. سينما يوسف شاهين. (ص 168، 169). سلسلة آفاق السينما (40)الهيئة العامة لقصور الثقافة. 2004. الكتاب في الأصل رسالة حصلت بها الباحثة على درجة الماجستير من المعهد العالي للسينما.
(8) سعاد شوقي. المرجع السابق. (ص 196).
(9) إبراهيم العريس. رحلة في السينما العربية. (ص 88). دار الفارابي ـ بيروت ط 2/1979
(10) سعاد شوقي. سينما يوسف شاهين. مرجع سابق. (ص 178).
(11) سمير فريد. مقال بعنوان “الإنتاج السينمائي المصري الفرنسي المشترك” مرجع سابق. (ص 160).
المصادر
1 ـ فيلم إسكندرية ليه 1979
2 ـ فيلم حدوتة مصرية 1982
3 ـ فيلم إسكندرية كمان وكمان 1990
4 ـ فيلم إسكندرية نيويورك 2004
المراجع
1 ـ إبراهيم العريس:رحلة في السينما العربية، دار الفارابي ـ بيروت/ط 2 ـ 1979.
2ـ د. جابر عصفور. زمن الرواية. مكتبة الأسرة 1999.
3 ـ جيرار جينيت. خطاب الحكاية. ترجمة: محمد معتصم/ عبد الجليل الأزدي/ عمر حلمي. المجلس الأعلى للثقافة/ ط 2 ـ 2000.
4 ـ جيل دلوز. الصورة ـ الزمن. ترجمة: حسين عودة سلسلة الفن السابع (29). منشورات وزارة الثقافة. المؤسسة العامة للسينما ـ سوريا 2000.
5 ـ سعاد شوقي. سينما يوسف شاهين:(تطور الرؤية والأسلوب). سلسلة آفاق السينما (40). الهيئة العامة لقصور الثقافة 2004.
6 –سمير فريد. مقال بعنوان “الإنتاج السينمائي المصري الفرنسي المشترك“.مجلة القاهرة. عدد (147). فبراير 1995. الهيئة العامة للكتاب.