“صاحب المقام”.. خلطة إبراهيم عيسى
في السينما يوجد تجارب تكون الأولى من نوعها وتفتح المجال لتجارب مشابهة تكون على غرارها، قد تحمل تلك التجربة الوليدة بعض السلبيات لكن يظل لها الفضل في كونها تحمل الريادة وكانت البصلة التي سارت بعدها تجارب أخرى تجنبت الوقوع في أخطاء التجربة الأولى، وهو ما يجب ان نتعامل من خلاله مع فيلم “صاحب المقام” أول إنتاج مصري يتم تسويقه كاملا على منصات السينما الإلكترونية دون الانتظار للعرض التجاري، فالفيلم أنتج خصيصا للعرض على منصة شاهد.
هذه تجربة تستحق الإشادة من المنتج أحمد السبكي وشركة روتانا ستوديوز على خوض تلك المغامرة في الوقت الذي قرر فيه معظم المنتجون تأجيل طرح أفلامهم إلى أجل غير مسمى بعد انتشار وباء كورونا الذي أدى إلى اغلاق اجباري لدور العرض لمدة أربعة أشهر قبل العودة مؤخرا للعمل لكن بنصف طاقة دور العرض، فلم يغامر أي منتج بطرح فيلمه خلال عيد الأضحى الحالي رغم أنه الموسم الأكبر للرواج السينمائي وشباك التذاكر خصوصا بعد أن أصبح يأتي متزامنا مع فصل الصيف، لكن جاء العيد دون أفلام فلم يطرح في دور العرض سوى فيلم واحد وهو “الغسالة”.
بعد عام 2011 والتراجع الكبير لصناعة السينما في مصر مع توقف المنتجين الكبار عن الإنتاج وجنوح شركات التوزيع للتسابق حول زيادة نسخ الفيلم الأجنبي في السوق المصري حمل السبكي لواء السينما رغم سيل الانتقادات والاتهامات التي وجهت له بإفساد الذوق العام في بعض الأفلام، لكن يحسب له أمران، الأول تواجده في الإنتاج وهو يعني استمرار عجلة الإنتاج في الدوران فإذا توقفت كانت السينما المصرية ستعود لفترة ما قبل فيلم “صعيدي في الجامعة الأمريكية” حيث الكساد الرهيب.
أما الثاني فهو تقديم السبكي أفلام أخرى تحمل مستوى مقبول ومضمون جيد لكن مع الأسف كان تركيز القاعدة الجماهيرية والنقدية مع الأفلام الأخرى رغم انها لا تمثل الأغلبية ضمن انتاجات السبكي الذي استمر في الإنتاج منفردا لدرجة ان هناك مواسم كاملة وصفتها الصحافة الفنية بأن “السبكي ينافس نفسه”.
فيلم “صاحب المقام” شارك في بطولته يسرا وآسر ياسين وأمينة خليل وبيومي فؤاد، وأخرجه محمد العدل ومن تأليف الكاتب ابراهيم عيسى. ويمكن القول بأن أفلام ابراهيم عيسى “تشبهه” مثل الحال مع فيلمه السابق “الضيف” الذي ظهر على شكل مناظرة تليفزيونية طويلة لهذا الكاتب التي يتبنى خلالها آراء تحمل الوسطية في الإسلام وتهاجم التشدد الديني، وعلى غرار هذا النمط يسير فيلم “صاحب المقام”، فنجد أن روح ابراهيم عيسى تسيطر على العمل بداية من المباشرة الصريحة التي يمتلكها هذا الروائي القاص الجيد من خلال حكاياته ذات الأسلوب البسيط والسلس بهدف الوصول إلى البسطاء لمحاربة التيار السلفي الذي تغلل في عقولهم لأعوام طويلة، ثم النزعة الصوفية الحكيمة التي يعتقد عيسى أنها الأمل الوحيد لمواجهة التشدد، مع تغليف تلك الأفكار بطابع كوميدي ساخر ظهر في بعض المشاهد وهذه الخلطة تمثل تركيبة ابراهيم عيسى الإنسانية.
يحكي الفيلم عن رجل الأعمال يحيى “آسر ياسين” الذي يضع عمله في المقام الأول ويهمل في المقابل أسرته المتمثلة في زوجته “أمينة خليل” وابنه، ويشرع في هدم مقام “سيدي هلال” لبناء مشروع استثماري ضخم، وليحيى شريكان تؤام يؤدي دوريهما بيومي فؤاد، الأول لديه نفس أفكار يحيى العملية، والثاني “حكيم” يحذرهما من خطوة هدم المقام التي قد تنغص حياتهما، وبالفعل تنهال الخسائر على الشركة ويزيد الامر سوءا بمرض زوجة يحيى ودخولها في غيوبة، وهنا يبدأ يحيى رحلة تصحيح المسار من خلال زيارة الأضرحة والمقامات.
خلال الأحداث نجد أن الفيلم يجنح إلى أسلوب نمطي سواء على مستوى الفكرة أو على مستوى السرد حيث المباشرة التي تفقد متعة المشاهدة أحيانا لكن في نفس الوقت هي طريقة في الطرح مباشرة ولكن لا بأس بها، فهناك مبدعون كبار كانت المباشرة من سماتهم مثل عاطف الطيب ووحيد حامد ومؤخرا محمد أمين، وهي طريقة قد تكون مقصودة من جانب ابراهيم عيسى فالهدف أن تصل أفلامه إلى القاعدة العريضة من الجماهير، تلك القاعدة التي سيطرت على عقولها التشدد والرجعية، الطبقات الدنيا التي سحقتها الرأسمالية، لهذا فهو يرى ان مواجهة هذا التوحد بين الأنظمة الرأسمالية والسلفية يكون بالعودة إلى الطرق الصوفية التي تمثل تيارا لا يستهان به يمكنه الوقوف بقوة والمواجهة.
في الوقت الذي انزلقت فيه الاحداث وراء التقليدية والمباشرة التي ظهرت مع وجود شخصية روح “يسرا” كانت نقاط الضوء تتمثل في بعض المواقف الكوميدية لآسر ياسين مثل سرقة حذاءه خلال الزيارة الأولى للأضرحة حتى تصل الأحداث إلى التفصيلة الأهم والأفضل في الفيلم وهي حصول يحيى على “رسائل” البسطاء لإمام الشافعي، وقتها تخلى الفيلم عن تقليديته بعد ظهور فكرة جديدة طازجة توجها عيسى بمجموعة القصص التي وجدها يحيى في تلك الخطابات.
قصص إنسانية لمجموعة من البسطاء والضعفاء الذين يمتلكون أحلام وآمال إما بطلبات التوبة والعفو أو بعودة وشفاء الأبناء أو الاحتياج للمال، وكان أداء الممثلين الذين ظهروا كضيوف شرف عاملا مؤثرا في ظهور هذا الجزء بهذا الشكل على الشاشة وأخص بالذكر ريهام عبد الغفور التي قدمت في مشهدين فقط أفضل أداء في مسيرتها، وكذلك إنجي المقدم، ويأتي بعدهما الراحل ابراهيم نصر ثم فريدة سيف النصر ومحمود عبد المغني، حتى الحكاية الكوميدية التي كان بطلاها محمد ثروت وإيمان السيد كانت مميزة وخفيفة الظل وتمثل حال معظم الزيجات في المجتمع المصري، فقد كان حضور ضيوف الشرف وأداؤهم أفضل من الأبطال وتحديدا يسرا التي جاء دورها مقحما على الأحداث لكن هذا لا ينكر أهمية وجود يسرا في ذاتها في الإضافة لأي عمل، وأيضا بيومي فؤاد الذي انتهى دوره فجأة دون سبب واضح.
مثلما تطرقنا إلى كرامات ابراهيم عيسى والمنتج السبكي هناك صاحب كرامات يجب أن نرفع له القبعة وهو آسر ياسين الذي تميز على مستوى الأداء والحضور بإتقان شديد، آسر يسطر اسمه بأحرف من ذهب في السينما المصرية، فهو البطل الذي يطلق عليه “جان” يحمل كل مقومات نجم الشباك لكنه لا يبالي بكل ذلك يبل تمرد ويبحث عن العمل الجيد ويمتلك روح المغامرة في تجارب تحمل الريادة مثل تجربته مع مسلسل “في كل اسبوع يوم جمعة” الذي يحمل التجربة الاولى في انتاج المسلسلات على المنصات الإلكترونية، آسر ياسين رغم حصوله على البطولة المطلقة لكنه أمام العمل الجيد لا يجد غضاضة أو خوف من أن يأتي اسمه بعد منة شلبي أو بعد نيللي كريم في “ب 100 وش” أو بعد يسرا في “صاحب المقام” رغم أنه على الورق وخلال سير الأحداث وأمام المتفرجين هو البطل الأوحد لكن يظل آسر ياسين ينحاز للدور وللتجربة الجديدة.
نجح المخرج محمد العدل في الإفلات من المأزق الذي وقع فيه هادي الباجوري في “الضيف”، فقد استطاع ان يتجاوز الجانب الخطابي بتفصيلات لها طابع درامي ومشاهد قصيرة وحركات وزوايا الكاميرا المميزة نجح في إظهار جانب من التجلي والصوفية للعم. وبعد رحلة يحيى مع خطابات الإمام الشافعي الجزء الأفضل في الفيلم خصوصا الاختيار الرائع لهذا الإمام المعروف بالوسطية، تأتي النهاية تقليدية على غرار بداية الأحداث حيث تشفى زوجته، تتغير حياته إلى الأفضل، يشعر بالرضا مع ضميره “يسرا”، يعيد بناء المقام، وتتحسن علاقته مع ابنه، لكن رغم كل التحفظات يظل صاحب المقام عمل مهم في موضوعه المهمل وتوقيت عرضه وطريقة توزيعه وتسويقه.