“شبابيك” نتفلكس.. عن حكايات سعودية منفصلة متصلة
حسام الخولي
في جامعة اليمامة السعودية عام 2006 داخل مدينة الرياض المكدّسة بالشباب، وقعت حادثة مرعبة عندما قام المحتسبون والمتطرفون بالاعتداء بالضرب على طاقم عمل مسرحية “باص الوسطية” التي كتبها الكاتب المسرحي أحمد العيسى الذي سيعين وزيرًا للتعليم بعد ذلك. لاحقًا ستبدو المسرحية بكافة سياقاتها ربما نموذجا مثاليا للحديث عن السعودية آنذاك، يستغلها جيدًا المخرج علي الكلثمي في صناعة فيلمه الوثائقي “وسَطي” عن القصة المسرحية.
يخرج الفيلم ضمن مجموعة “ست شبابيك على الصحراء” بإنتاج بين شبكة نتفلكس و”تلفاز 11″، وتهدف الأفلام الستة الحائزة على جوائز، إلى تسليط الضوء على مواضيع اجتماعية كانت تشغل عقول شباب السعودية القديمة قبل أن تتحرر في سياق سلطة سياسية تحاول نقل صورة المجتمع إلى سياق آخر.
فيلم وسطي “شباك” من بين ست شبابيك يعبر كل شباك فيهم عن أزمة الشباب السعودي الذي تتحوّل حياته يومًا بعد آخرـ بعد التعرف على العالم من جديد بمنظور مختلف، وبعد العديد من المعارك غير المفيدة يكتشف أنه بات عليه أن يصنع ا مع كل سعودي لم يفهم جيدًا قيمة الفنون.
يحكي الفيلم قصة الفرقة المسرحية يبدأها من لحظة توتر قصوى: موسيقى سريعة تنبّئ عن خطورة قادمة بينما نشاهد عصا تمرَّر من تحت أقدام الجمهور وشكوى من أحد أعضاء الفرقة المسرحية الذي يقوم بدور فتاة، فهو لا يوافق على استكمال الأداء بسبب ما يراه في الصفوف الأمامية من مشاهدين يبدو من لحاهم الطويلة أنهم من جماعات المحتسبين.
قبل أن ينتهي “تتر” الفيلم يكون المشاهد قد تورط مع أعضاء الفرقة المسرحية الهواة وعرضهم الجديد الذي يبدو على شفا معركة قادمة يدركها المشاهدون فورًا امتثالًا للإيقاع السريع للفيلم بشكلٍ عام.
فيما بعد يكتشف المشاهد أن هذا الحدث المفصلي المعبّر لم يكن سوى مدخل أولّي لسرد قصة أحد حضور تلك المسرحية، أي تحديدًا الشاب الكفيف الذي يكتشف قبل سنوات فقدان بصره التدريجي ويقرر أن تتغير حياته الهادئة التي يعمل خلالها في أحد محلات الموسيقى، ليتفرغ أكثر للقراءة والبحث المعرفة حول أشياء لم يعرف عنها من قبل.
تبدو قصة هذا الكفيف الذي يذهب نظره ثم يعود، في مشهد سيريالي نوعًا ما تتسبب فيه معركة العرض المسرحي كمجاز جيد عن السعودية ذاتها التي يمكن أن يمثل بعضٌ من تاريخها القديم هذا العمى أو التعامي عن الفنون، أو السينما تحديدًا قبل أن تكتشف أنها أصبحت خير من يمثلها في عصرها الجديد.
فيلم “وسطي” كان بداية جيدة للتعبير عن مشكلة اجتماعية أساسية في السعودية تتمثل في اعتراض البعض على مجرد وجود المسرح أو الموسيقى في ذاتها قبل أن نتورط أكثر في أفلام لاحقة عن أشياء داخلية أكثر.
إلى جانب “وسطي” جاءت أفلام أخرى مهمومة بالخلل المجتمعي القديم، بالطبع كانت تشارك اهتمام المؤلف والمخرج محمد السلمان، غضبه الذي ظهر في عدد من الأفلام داخل السلسلة وخارجها، سواء “أغنية الغراب” أو “27 شعبان” وغيرهما، وتجارب فردية أخرى كانت تشارك في التضامن الجماعي من خلال قصصها التي دعمتها نتفلكس وحصدت إعجابا شبابيا كبيرا.
هذه السلسلة من الأفلام المنفصلة المتصلة موضوعيًا، كانت تعبيرا ذكياً عن التغير، مع بعض الملاحظات بخصوض نقاط ضعف تحتاج للتطوير هنا وهناك بالطبع، لكنها تحاول أن تقول شيئا حقيقيا، وكان من الجيد أن تبدأ مجازيًا وحرفيًا في سياق حكاية رجل يُصاب بالعمي بينما يعود إليه البصر في حكاية سيريالية أثناء معركة حدثت بالفعل على عرض مسرحية يحرمها البعض ويحاول آخرون خلق مساحة حرية من خلالها. وقد بدا فيلم وسطي تعبيرا مثاليا وتأهيلا منطقيا للحكايات التالية ومحاولة جيدة للسرد البصري الذي يحكي حكايات سعودية محلية يمكن أن يستمتع بها العالم.
“شبابيك” أخرى غاضبة أيضًا
فيلم ساخر آخر ضمن السلسلة جاء تحت عنوان “الجرذي” يحكي قصة رجل يكتشف في الأيام القليلة الأخيرة في حياته أنه لا يزال يحمل خوفه المتوهم من مديره في العمل، محاولًا الهرب منه كالعادة، وتبدو الفكرة من وحي قصة “موت موظف” الشهيرة للكاتب الروسي أنطون تشيكوف في سياق ساخر تمامًا.
في القصة الأولى كان فقدان للبصر بينما هنا فقدان للحياة كلها، ومن هنا تصبح هذه المفارقة التي تحرك الأبطال للتغير، وتصبح العتبة الأخيرة لممارسة الحياة قبل أن تذهب تمامًا دون رجعة.
يبدو الفيلم شبيه تمامًا بالعوالم التي يخلقها الكاتب فيصل العامر منذ اللحظة التي اشتهر فيها كتابه “شغب” الذي نقل بعضًا منه في سلسلة “مسامير”، فهو يصنع في كل مرة كوميديا سوداء كثيرًا ما تسخر من القصص التي تدور في المجتمع السعودي المغلق، مع تصوير شخصيات متضخمة كارتونية، جميعها في وضع مأسآوي يمكن التعاطف معه أو السخرية منها أيضًا، ويبدو أن الجميع ينتظرون لحظة انفجار لتغيير أنفسهم.
اللبنة الأولى التي وُضعت في مسلسل “مسامير” الأشهر سعوديًا كانت من كتابات الرجل، تلك الأعمال التي تمثل هواجس سوداء ساخرة من المجتمع السعودي ومشفقة عليه في آن، فهي كتابات تتعمق في قلبه لتفهمه جيدًا وتحاول تقويمه والتحرر منه، هذه المرة نشاهد بطلا ا من رئيسه في العمل أو من السلطة الأبوية عمومًا، ولا يمكنه إنجاز أي شيء بسبب ذلك الخوف، بينما تبدو النهاية العنيفة التي اختارها المؤلف هذه المرة أكثر ما يميز هذا العمل عن أعماله الساخرة الأخرى، وربما كانت الأكثر جذرية في التعامل مع مأساة العديد من الشباب السعودي المتورط داخل مجتمع أبوي رقابي أكثر مما يبدو.
أيضًا هناك فيلم “ومن كآبة المنظر” الأفضل إخراجيًا في السلسلة، وهو يتناول قصة تحطم طائرة في سبعينيات القرن الماضي مما يضطر مجموعة من الناجين إلى التعايش في صحراء نائية بموارد ضئيلة وهو ما يختبر صبرهم، والفيلم من إخراج فارس قدوس.
وعلى العكس من الأفلام الأخرى لا يبدو هذا الفيلم مشغولا بالمجتمع السعودي أكثر من انشغاله بالحالة النفسية الشخصيات، “كيف يتصرف الإنسان أثناء الإحساس بالخطر؟” يتابع الفيلم حركة وتحولات شخصياته ببطء يسقط أحيانًا في دائرة الملل والتطويل على مستوى السيناريو بينما ينقذه الإخراج الجيد من تلك الأزمة.
وجاء فيلم “الجرزي” بمشاهد مقتضبة لبعض من الحوارات الداخلية بين الأبطال مع مساحات طويلة من الحوارات المنمقة التي تظهر رفاهية كبيرة لدى شباب بات عليهم التخلص منها إذا كان هناك وضع إجباري للتغيير أو الموت في الصحراء.
وفي حين كان البطل مجرد جرذي/ فأر تجارب سعودي داخل الدائرة الأبوية المتسلطة كانت النهاية على عكس المتوقع، أي تحرر هذا الرجل من المصيدة المتوقعة وخروجه إلى عالم أكثر رحابة عليه أن يختبر خلاله أشياء أكثر.
وتدور أحداث فيلم “سومياتي تدخل النار” حول فتاة في السابعة من عمرها ولحظات كفاح مربيتها التي يتعيّن عليها مواجهة مختلف أشكال التعصّب والقسوة على يد الأسرة التي تعمل لديها، وهو من إخراج مشعل الجاسر.
تنسحب السخرية التي يقدمها هذا الفيلم إلى الخارج السعودي بشكل عام، عن تصورات بعض الناس الذي لا يرون في أي دين آخر مساحة لدخول الجنة، ويمثل الفيلم ذروة التحرر الخطابي من بين كل الأفلام.
الفتاة سومياتي الذي يتتبع الفيلم خطاها تمثّل كل ما هو غريب أصبح يتعين على المسلمين تقبله دون تأويلات مخيفة تعتبرها غريبة مع ضرورة مشاركة “الآخر” دون خوف. والفيلم حاد تمامًا في تعاطفه مع الخادمة على حساب أسرة الطفلة التي تختلق فكرة تعتبرها ساحرة أو شريرة دون سياق.
وربما كانت الملاحظة الرئيسية التي يمكن أن تنطبق على الأفلام الستة دون استثناء هي ذلك الخطاب الهجومي شديد الغضب، فلا يحاول أي فيلم منها أن يخلق حوارات هادئا مع المعارضين لتلك الأفكار في الداخل، بل يحاول التخلص من كل المشكلات التي يعرضها دون رجعة بشكل جذري؛ للفتاة الحق في التحرر، وللرجل الحق في التعرف إلى حبيبة، وهؤلاء يملكون حرية صناعة أعمال فنية تدين السلطة الدينية، ويجب ان تنتهي السلطة الأبوية في المنزل.. إنها رسالة مباشرة تتضح في هذه الأفلام القصيرة الستة.
مرت سنوات منذ طرح تلك الأفكار التي أصبحت تتحدث عن سعودية أصبحت وبعيدة نوعًا ما الآن، يعرف المنخرطون في السينما السعودية أنه يتم التجهيز لاختيارات أخرى تمثل “شبابيك” سعودية جديدة، ربما تكون هذه المرة، مشغولة بقضايا أكثر اختلافًا وأقل صدامية نتيجة هذه التحول الكبير الذي كان في صالح الفن والتحرر دون شك.