سينما التلصص والاغتراب والنساء الوحيدات في المدينة الكبيرة

راقصة الباليه في فيلم "نافذة خلفية" راقصة الباليه في فيلم "نافذة خلفية"

“هل يمكنك وصف شعور الوحدة؟”

تمعنت الكاتبة الإنجليزية أوليفيا لاينج في البحث عن إجابة هذا السؤال في سيرتها الذاتية (المدينة الوحيدة – مغامرات في فن البقاء وحيداً). بعدما تركت بلادها للعيش في مدينة نيويورك برفقة صديقها الذي انفصل عنها قبل وصولها، فوجدت نفسها وحيدة بلا عمل، وبلا عائلة، امرأة في منتصف الثلاثينيات من العمر تدرك جيدا نظرة المجتمع لها.

وصفته بشعور مؤلم، ومخجل ومخيف، له عواقب نفسية وجسدية يصعب رؤيتها. مثل الشخص الجائع وكل من حوله يستعد لتناول وليمة.

كانت تراقب الآخرين من خلف النوافذ، تشاهد حياة لم تعد تمتلكها. رأت نفسها في هؤلاء النساء الوحيدات اللواتي جسدهن إدوارد هوبر في لوحاته، حيث التقط جوهر الوحدة كإحدى ملامح الحياة الحديثة في المدن الكبيرة، وخاصة نيويورك. هذا الإحساس الذي رسمه هوبر كلحظة جامدة في الزمن داخل إطار اللوحة، تتوسع السينما في صقله وإثرائه بسياقات اجتماعية ونفسية تسهم في تعميق تلك الوحدة وتفسير أبعادها بشكل أكثر شمولية.

النوافذ التي كان يتلصص عليها جيفري بطل فيلم “نافذة خلفية” Rear window للمخرج ألفريد هيتشكوك ما هي إلا خير مثال لمقولة هيمنجواي بأننا “قد أصبحنا مثل الجزر المنعزلة، جُبلنا فرادى، رغم أننا نبحث عن الحب والصداقة”.

تعكس هذه النوافذ مظاهر الحياة في مدينة نيويورك في خمسينيات القرن الماضي، ومن بينها ثلاثة نماذج نسائية من أعمار مختلفة تعايش كل منهن الوحدة بطريقتها، هناك الفنانة التي تقضي وقتها في النحت والتمتع بأشعة الشمس، وراقصة الباليه الشابة التي تمضي أيامها في التدريبات، والحفلات في مسكنها المتواضع، ونافذة (سيدة القلوب الوحيدة – Miss lonelyhearts)، وهي امرأة تبدو في العقد الرابع من العمر، تعيش بمفردها.

الوحدة من المواضيع التي يتناولها الفيلم ضمن حكاياته الفرعية التي تخدم حكاية البطل المتردد بشأن فكرة الزواج، وتتخلل قصة سيدة القلوب الوحيدة الحكايات الفرعية الأخرى وقصة البطل الرئيسية، حيث تبرز معاناتها مع الوحدة، التي تتمايز عن بقية جيرانها من خلال قلة التفاصيل التي نعرفها عنها سوى الوحدة التي تطغى على حياتها.

أول ظهور لها يكون أمام المرآة، وهي تتأنق وتحضّر عشاءً يبدو وكأنها بانتظار ضيف ما، لكن سرعان ما نتفاجأ بأنه عشاء وهمي تتخيله حتى تفيق من وهمها باكية على حالها. تحاول بعد ذلك الخروج من عزلتها والبحث عن رفيق يؤنس وحدتها. تذهب إلى مقهى قريب من منزلها وتدعو شاباً إلى منزلها، لكنه يرى فيها فرصة سهلة ويحاول الاعتداء عليها. كما لو أن الظروف تعاقبها لأن ما قامت به أمرا غير مقبول في مجتمع محافظ، فتقرر إنهاء حياتها أخيرا إلى أن تنقذها نغمات آتية من شقة جارها الموسيقار الأعزب.

 عبرت وجهة النظر الذاتية للبطل سرديا وبصريا عن نظرة المجتمع تجاه المرأة الوحيدة في تلك الفترة التي ساد فيها مفهوم الأسرة النواة، وتقديس الحياة الزوجية، وزادت فيها الضغوطات الاجتماعية للالتزام بالتقاليد المحافظة، حيث كان من المتوقع أن يلتزم الرجال بدور العائل الرئيسي للأسرة، بينما تتولى النساء رعاية المنزل والأطفال، لذا كان هناك تشجيع للفتيات على منحهن الأولوية للزواج وتكوين أسرة على حساب طموحاتهم الدراسية والعملية.

سيدة القلوب الوحيدة

يمثل جيفري وجهة نظر الرجل في ذلك المجتمع آنذاك، إذ كانت رؤيته الذاتية محدودة وتقليدية تجاه ما يراه من حياة جيرانه وحتى أسلوب حياة صديقته. كان التلصص عليهم مجرد وسيلة لتمضية الوقت خلال فترة إصابته. فعلى سبيل المثال، يرى أن الآنسة ‘تورسو’، راقصة الباليه، تمضي حياتها بين الرقص واستضافة الرجال للاحتفال، ويشبّه أسلوب حياتها بحياة صديقته. إلا أن صديقته تسارع لتصحيح وجهة نظره المحدودة، موضحة أن هذه الفتاة ليست مجرد راقصة تلهو مع الرجال، بل تتعامل مع أخطر مهام المرأة في المجتمع: التلاعب بالذئاب، أي الرجال الذين يحومون من حولها.

هذا التصحيح لوجهة نظر جيفري يعكس الصراع بين النظرة السطحية التي يتبناها المجتمع تجاه النساء، والنظرة الأكثر تعقيدًا وعمقًا التي تفهم النساء بوصفهن يتعاملن مع تحديات أكبر من مجرد مظاهر حياتهن الخارجية، حيث تُجبر النساء على التعامل مع ضغوط مجتمعية وقوانين غير مكتوبة تُحكم حياتهن وتحدد أدوارهن.


إذا ما دلت الألقاب التي يطلقها البطل على جيرانه على شيء، فإنما تدل على افتقاره للمعرفة الكافية بهم، واضعا بذلك حدا بينه وبينهم، وتدل كذلك ضمنيًا عن الوحدة والاغتراب عن الآخر. وكل لقب منهم هو في ظاهره صفة تعكس حالة خارجية فقط تميز هؤلاء النسوة من وجهة نظره ويدل على سطحية نظرته لهن، مثل الفنانة التشكيلية يلقبها بجهاز السمع الذي ترتديه، أو (هز الوسط- تورسو) بالنسبة لراقصة الباليه، أو الوحدة بالنسبة لسيدة القلوب الوحيدة.

يصور هيتشكوك حالة الاغتراب بين الجيران في المدينة في مشهد حادثة مقتل كلب أحد الجيران، عندما تستنكر مالكة الكلب الحالة التي عليها جيرانها، فهم لا يعون معنى كلمة جار، إذ من المفترض أن يعرف الجار جاره، ويتحدث إليه ويعامله بلطف.

يمكن القول إن فيلم “نافذة خلفية” هو الصورة السينمائية للنظرة المتلصصة التي تميز لوحات هوبر، نجدها في التأطير لوجهة النظر الذاتية لمنظار المراقبة. يضع التأطير مسافة بين ذات البطل – وبصفته أيضًا عين المتلقي-  وبين الموضوع المُراقب، ورغم أن هذه المسافة من المفترض أن تزيل الحواجز بيننا وبين الآخر موضع المراقبة، لانتهاكها خصوصيته في أكثر الأماكن التي يفترض أن يشعر بداخلها بالأمان، غير أنها تعزز أيضًا من الإحساس بالوحدة لأن وضع المراقب الخارجي يسمح له بتصوير الوحدة التي تعاني منها الشخصيات.

تطل علينا سيدة القلوب الوحيدة من خلال أطر النوافذ التي تعزز من الإحساس بوحدتها، وذلك بتقسيم هذه الأطر إلى وحدات أصغر تُحاصر بداخلها. وكذلك من خلال المكان الذي تحتله داخل كل إطار أو نافذة، فهي دائمًا محصورة بين محتويات شقتها.

مثل مشهد إقدامها على الانتحار، يحتوى هذا الإطار على ثقل بصري من الستائر المغلقة التي تحبس الشخصية وراءها، ومكان الشخصية وتقييدها في مساحة ما بين الطاولة التي تشغل المقدمة والأريكة، وكذلك اختيار المساحة اللونية الباردة  لنافذة المطبخ التي تفتقر عمق المنظور فاكتسبت النافذة مظهرا مسطحا، تتحرك الشخصية داخلها في فضاء يبدو ثنائي الأبعاد يزيد من الإحساس بالتقييد والحصار.

انتماء الفيلم للسينما السائدة واتباعه النموذج الكلاسيكي في السرد، يجعلان من النهاية السعيدة أمرا حتميا، نهاية لابد أن تتماشى مع قيم المجتمع المحافظ آنذاك، فلم تعد سيدة القلوب وحيدة بعدما تعرفت على جارها الموسيقار في مشهد يمثل بارقة أمل لنهاية وحدتها، وكذلك راقصة الباليه يعود إليها حبيبها من الخدمة العسكرية، وتبقى حبيبة البطل الى جانبه. حتى مع هذه النهاية السعيدة لوضع يتقبله المجتمع، تظل هذه النوافذ جزر منعزلة عن بعضها لا يزال سكانها محكومين بالاغتراب الذي فرضته عليهم المدينة وطبيعة الحياة فيها. ففي النهاية، تبقى العلاقات بين الجيران سطحية ومحدودة، مما يعكس تناقضًا بين الصورة السعيدة التي تُختتم بها القصة والواقع القاسي للوحدة.    

الوحدة شعور لا يتغير جوهرها بتغير الأزمنة، فما كانت تشعر به سيدة القلوب الوحيدة في خمسينيات القرن الماضي كانت تعاني منه جاكي بطلة فيلم “ما حدث كان..”- What Happened was، للمخرج توم نونان في التسعينيات.

ما حدث كان…

جاكي هي سكرتيرة تعمل في إحدى شركات المحاماة في منطقة مانهاتن نيويورك، في أواخر الثلاثينيات من العمر، تعيش بمفردها في شقة كبيرة مطلة على قلب المدينة. الفيلم مبني على مسرحية قام بتأليفها وإخراجها نونان، ويلتزم بالنموذج الأرسطي للدراما في المسرحية لوحدة المكان وهو شقة البطلة، ووحدة الزمان، حيث تقع الأحداث في ليلة واحدة، ووحدة الحدث عن دعوتها لأحد زملائها في العمل لتناول العشاء.

يقدم الفيلم شخصية المرأة الشابة الآتية من الضواحي الصغيرة آملة في حياة أفضل في المدينة الكبيرة. يمكننا رؤية حكاية هذه المرأة على كانعكاس لحالة سيدة القلوب الوحيدة في مرآة الزمن، في زمن أصبح فيه استقلال المرأة عنصر أساسي لتكوين شخصيتها، لكن لكي ترتقي وسط بيئة الرجال عليها أن تضحي أحيانًا بجوانب أخرى من حياتها.

على الرغم أن الفيلم من إنتاج تسعينيات القرن الماضي، لكن ما يصوره يتفق مع جاء في دراسات بحثية نشرها المنتدى الاقتصادي العالمي أن بيئة المدن الكبيرة لا تلائم النساء بسبب عدة تحديات، من بينها الوحدة التي تؤثر على حياتهن النفسية والعقلية.

تعتمد أحداث الفيلم على الحوار في الكشف تدريجيًا عن أعماق الشخصيات. تفصح جاكي خلال حديثها عن التهميش الذي تواجهه في عملها، حيث لا يحق لها إبداء الرأي أو مناقشة زملائها. ترى نفسها والآخرين مجرد أشخاص إضافيين على هامش الحياة، بلا حياة حقيقية، وهي تراقبهم من خلف نوافذ وسائل المواصلات أو من منزلها. ومع تعمق الحوار، ندرك الآثار النفسية التي تتركها الوحدة على روح هذه المرأة، التي تعيش نصف حياة. على الرغم من أنها خاضت تجارب عديدة، عاشرت ناسًا، وتنقلت بين أماكن مختلفة، وتمتلك هوايات ومواهب، فإننا نلتقي بها في اللحظة التي بدأت فيها تفقد بريقها. تعاني من أزمة ثقة بالنفس نتيجة لخلفيتها الاجتماعية المتواضعة، وتظهر تدني ثقتها من خلال حديثها. فعلى سبيل المثال، هي موهوبة في تأليف القصص القصيرة، لكنها لم تخبر أحدًا بأنها نشرت كتابًا بالفعل، واكتفت بالنشر دون أن تطرحه للبيع.

الحوار ليس الوسيلة الإبداعية الوحيدة التي نكتشف من خلالها ما يؤرق جاكي، فالأداء التمثيلي لكارين سيلاس يلعب دورًا حاسمًا في تجسيد الآثار النفسية التي تتركها الوحدة على شخصية جاكي. بإتقانها لأداء عصابي متوتر، تمكنت من نقل مشاعر الشخصية بدقة. يظهر ذلك في وجهها الذي يفضح خيبة الأمل، وشرودها عندما لا تفهم شيئًا أو تدعي الفهم، وارتباكها من لمسة غير مقصودة، مما يعكس افتقادها لهذا الإحساس منذ زمن. كما نراها تنجرف خلف مشاعرها من مجرد قبلة، فيتحول حالها وتتحرك بخفة، كأنها ريشة في الهواء. وفي لحظات الاعتراف بمعاناتها، يخفت ضياء وجهها، مما يعكس عمق الألم الذي تعيشه.

مثلما ساهم تأطير المكان في تعزيز إحساس الوحدة لدى ‘سيدة القلوب الوحيدة’ في فيلم “نافذة خلفية”، يحضر المكان في فيلم نونان على مستويين: المستوى الأشمل هو المدينة، والمستوى الخاص هو شقة البطلة.

المدينة: حاضرة في الفيلم دون أن تظهر بصريًا، نسمع ضوضاءها حتى قبل أن تبدأ أولى لقطات الفيلم، ويستمر صوتها في التسلل خلال لحظات الصمت بين الشخصيتين الرئيسيتين. يظهر تأثير المدينة على جاكي من خلال حواراتها، حيث تراها مدينة تستحوذ على الإنسان بمجرد وصوله إليها. وقد فرضت عليها المدينة أشخاصًا حاولوا استغلالها، مثل زملائها في العمل والرجال الذين قابلتهم منذ أن جاءت للعيش فيها.

أما شقتها السكنية فتظهر اغترابها عن المبنى الذي تعيش فيه، حيث تعترف بأنها لم تتحدث مع أي من جيرانها منذ أن انتقلت للسكن هناك. تصميم المكان يعكس مأساة ساكنته، فالألوان هنا لا تعبر عن مشاعرها الداخلية كما هو الحال في شقة ‘سيدة القلوب الوحيدة’. بل تعبر عن قسوة الوحدة، حيث يغلب اللون الأزرق البارد على الجدران، وتبدو المساحة كبيرة بشكل لا يناسب شخصًا يعيش بمفرده. كذلك، يظهر المظهر المزيف الذي يعكس رغبتها في التأقلم والظهور بمستوى ثقافي معين يلائم عملها وطبيعة الحياة في مدينة نيويورك. يتجلى هذا من خلال تفاصيل مثل صورة مارتن لوثر كينج المعلقة على الحائط، والملصق الدعائي لمسرحية ‘القطط’ الموسيقية الشهيرة لأندرو للويد ويبر.”

تُقسم المساحات الداخلية الشقة إلى مناطق مستقلة، سواء من حيث الألوان أو المساحات، ويظهر ذلك بوضوح أثناء الحوار بين جاكي وزميلها، حيث يوجد دائمًا حد مرئي يفصل بينهما. تشغل جاكي المساحات اللونية الدافئة، التي يعززها اللون الدافىء لفستانها، ولون شعرها الأشقر. والتباين البصري بين المساحات اللونية الباردة والدافئة هي تعبير بصري عن احتياجها العاطفي. أما العنصر الأبرز في المكان فهو النوافذ الكبيرة المطلة على المدينة، والتي تحيط بالشقة من جميع الجوانب، كاشفة إياها أمام ما حولها. تعلل جاكي اختيارها لهذا المكان بأنها لا تستطيع العيش بدون المدينة أو الناس، فهي تراقب جيرانها أحيانًا، وتترك ستائرها مفتوحة كما لو أنها تدعو الآخرين لمراقبتها أيضًا.

أما الكاميرا فلم تتقيد بطبيعة النص المسرحي، بل ساهمت هي الأخرى في رسم معاناة هذه المرأة. هناك تحديدا حركتان قامت بهما، واحدة في بداية الفيلم وأخرى في نهايته، هما بمثابة السؤال والجواب عن حال بطلة الفيلم. وهي لا تعكس وجهة نظر البطل مثل فيلم نافذة خلفية، رغم أن حركتها في بداية الفيلم تشبه إلى حد كبير الحركة الافتتاحية للكاميرا في بداية فيلم هيتشكوك، التي أرست من خلالها ثيمة التلصص واستعرضت مكان الأحداث. هنا، تحمل حركة الكاميرا في موضوعيتها وثباتها، وأحيانًا في اقترابها من الممثلين، معنى الوحدة ذاته.

يتم تقديم البطلة في بداية الفيلم من خلال عدة لقطات ثابتة وهي نائمة بمفردها نصف عارية بجانبها سماعة الهاتف، يوقظها صوت المنبه، تهرع إلى عملها، تاركة وراءها صوت المذياع يصدح بصوت امرأة  تقرأ رسالة تركتها قبل أن تنهي حياتها بسبب معاناتها مع الوحدة.

تبدأ الكاميرا بالتحرك بمفردها فور خروجها من المنزل، حتى تقف الى جانب احدى النوافذ، تظل ثابتة في مكانها متطلعة إلى العمارات الشاهقة، ويمضي النهار ويأتي المساء وتعود البطلة فتلتفت إليها الكاميرا. تعتبر هذه الحركة من الحركات غير المستحثة – unmotivated movement أي لم تتبع حركة شخص أو شيء ما، كما لم تعبر عن وجهة نظر شخصية معينة، ولم يكن الغرض منها تأسيس واستعراض مكان الأحداث. بل تُنفذ بشكل مستقل، مما يجعل الدافع وراءها غامضًا حتى نرى مثيلتها في نهاية الفيلم.

عندما تراقب الكاميرا من موضعها بجانب النافذة، تتابع البطلة وهي تودع زميلها بعد حوار مؤلم دار بينهما. وعندما تتجه جاكي نحو النافذة، تتراجع الكاميرا للخلف، لنكتشف أنها أصبحت خارج المكان، تراقب البطلة وهي واقفة في نفس المكان الذي انتظرت فيه طوال اليوم بمفردها. ثم تتحرك الكاميرا مستعرضة المكان، حتى تستقر متطلعة إلى أعلى، موجهة نظرها نحو الغابة الخرسانية للمدينة، تتأمل العالم خارجها كما تفعل جاكي، وأوليفيا لاينج، ونساء لوحات إدوارد هوبر.

حالة الانتظار التي تنتهي بها الأحداث تلائم طابع السينما المستقلة التي ينتمي إليها الفيلم، وكذلك فترة التسعينيات التي شهدت تزايد  الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية على الجميع ولاسيما المرأة، ولم يعد مفهوم الاسرة موجود بشكله التقليدي مثلما كان في الماضي، فأصبح حتمًا التعايش مع متطلبات العصر، مثلما أقرت لاينغ بنهاية سيرتها الذاتية أن عليها أن تتعايش وتتقبل وحدتها لتجد نفسها بدلًا من بحثها عن آخر تعرف من خلاله وجودها.
من الضروري التفرقة بين العزلة، التي قد تكون اختيارية أو مفروضة على الشخص، وبين الوحدة، وهي شعور يمكن أن يسيطر على الإنسان حتى وسط الجموع. تساهم عوامل عديدة في تعميق هذا الإحساس، لا سيما في البيئات المزدحمة التي تفتقر إلى العلاقات المألوفة. وكلما ازدادت المدن اتساعًا وتعاظمت تحديات العيش فيها، سترافق الوحدة الإنسان، وسيكون هناك دوما قلم كاتب، وريشة فنان، وكاميرا مخرج لالتقاط جوهر هذه الوحدة.

Visited 35 times, 1 visit(s) today