“سمّانى ملالا”.. فيلم يتحدى الجهل والخوف والإرهاب

لا تكفى المادة الوثائقية وحدها لعمل فيلم كبير، لابد من إعادة بناء هذه المادة فى ضوء رؤية تكتشف الدراما فى الواقع المباشر، ولذلك فإن تعريف الراحل الرائد جون جريرسون للفيلم الوثائقى باعتباره “رؤية خلاقة” للواقع، ما زال سارى المعفول، بل إنه الأكثر دقة فى التعبير عن طبيعة الإبداع فى هذا النوع الصعب من الأفلام.

الفيلم الوثائقى الأمريكى الإماراتى المشترك ” سمّانى ملالا” للمخرج ديفيز جاجنهايم يصلح نموذجا مثاليا وناضجا ومبدعا لهذه النوعية من الأفلام. الفتاة الباكستانية ملالا يوسف التى تحدت رفض طالبان باكستان لتعليم بنات وادى سوات، فحاولوا اغتيالها بإطلاق الرصاص عليها، ولكنها نجت من الموت بأعجوبة، هى بطلة الحكاية. ولكن ما يجعل من هذا الفيلم عملا مختلفا وعظيما هو الطريقة التى تم بها سرد التفاصيل، وإقامة العلاقات بينها، وتوظيف المواد الوثائقية، ومشاهد التحريك فى إطار رؤية صناع الفيلم، ضد الجهل والإرهاب والخوف.

بناء متماسك

يبدأ الفيلم بصوت ملالا يوسف وهو تحكى لنا أسطورة أفغانية، بطلتها فتاة تدعى ملالا، تقدم الأسطورة بطريقة فن التحريك، ونكتشف فيها أنه عندما تراجع الرجال الأفغان أمام القوات البريطانية، تقدمت الفتاة الصغيرة لتحثهم على الثبات، فعادوا وانتصروا. ملالا الأفغانية قالت لهم : ” أن يعيش الإنسان أسدا ليوم واحد أفضل من أن يعيش فأرا لمائة عام”. هكذا سميت ملالا على اسم فتاة شجاعة، أقرب ما تكون الى جان دارك أفغانية.

ولكن المشاهد التالية مباشرة قبل العناوين، تنقل لنا لقطات تعيد تمثيل نقل ملالا يوسف الى المستشفى، تقول إحدى الممرضات إن أول ما فعلته ملالا هو طلبها بأن  ترى والدها، على شريط الصوت نسمع صوتها وهى تقول له : ” لقد كنتُ صغيرة يا أبى، فلماذا لم تمنعنى ؟ أنت المسؤول عما حدث لى”.

يشير هذا الإستهلال الى حالتين تخلقان صراعا سيمتد بنا من أول الفيلم الى آخره، وجهان لملالا يوسف ، أحدهما قادمة من أسطورة لفتاة شجاعة خارقة، والثانى لفتاة عادية كانت مراهقة صغيرة عندما حاولوا اغتيالها، وهى تجلس وسط زميلاتها فى أتوبيس المدرسة . كأن هذه البداية بمثابة سؤال الفيلم : من هى ملالا يوسف بالضبط؟ هل هى أسطورة تمشى على قدمين؟ أم أنها فتاة بسيطة تغلبت على مخاوفها، ونجحت فى أن تكتشف بداخلها إرادة المقاومة؟

يتم إخضاع مادة الفيلم لهذه الرؤية التى تبحث فى شجاعة ملالا الخارقة، وتبحث أيضا فى تركيبتها كفتاة عادية، وينجح المخرج جاجنهايم فى صنع بناء متماسك من مادة ولقاءات قام بتصويرها مع ملالا ووالدها وأمها وإخوتها، ويلجأ الى مواد مصورة سابقة مثل خطب والدها الناشط السياسى المدافع عن حقوق الإنسان فى بلده، ولقطات لجرائم ومجازر طالبان فى باكستان، كما يدمج فى البناء لقطات فوتوغرافية  لأسرة ملالا فى منزلها الباكستانى، ولوالدها ووالدتها بعد الزواج، وكذلك صورة لضياء الله الداعية الباكستانى  الذى بدأ معتدلا، ثم انتهى رافضا لتعليم البنات (باستثناء تعليمهم الدينى)، كما أنه حرّض أنصاره على قتل المخالفين لرأيهم، ونشر حكم الإرهاب فى وادى سوات.

وتندمج مع هذه المادة المصورة مشاهد تحريك تم توظيفها بشكل جيد للغاية لتحكى لنا مثلا عن مخاوف الطفلة ملالا على والدها بعد تهديده بالقتل، ومشاهد لأم ملالا التى تركت التعليم فى طفولتها، والتى قايضت على كتبها، وأخدت حلوى بدلا منها، فلم يقل لها أحد لماذا تركت المدرسة، ومنها أيضا مشاهد لوالد ملالا الذى كان مجرد طفل يتلعثم فى الكلام، ولكنه قرر أن يتعلم الخطابة، ثم أصبح مدرسا، وافتتح مدرسة صغيرة بها ثلاثة طلاب كبداية، وكان يشجع تلاميذه على الحوار ومراجعة العادات والتقاليد. لم نشعر أبدا بأن مشاهد التحريك متنافرة مع المادة المصورة، ولم نشعر بتنافر صوت فضل الله الصاخب مع صور فوتوغرافية لمساجد باكستانية، أو طرقات ومناظر من وادى سوات،  كما أن المخرج أضاف لقطات تمثيلية قليلة تعيد بناء مشاهد مفقودة مثل انتظار والد ملالا فى المستشفى، بعد إصابة ابنته بالرصاص.

الأصل والصورة

ولكن ظهور ملالا طوال الفيلم تقريبا هو الذى منحه هذا الصدق، وتلك الحيوية المتدفقة. الفتاة شديدة الذكاء، ولا أثر للتصنع فى حديثها، ووالدها فخور بها، وهى تتصرف على طبيعتها كفتاة مراهقة، وأسئلة المخرج لها محاولة لكى تبدو كما هى بالفعل، يريد أن يفهم كيف واجهت فتاة صغيرة كل هذه المحن بثبات؟

الإجابة تبدأ من الأب المعلم الذى كانت ملالا ابنته الكبرى، والذى منحها الثقة، واعتبرها فتاة مسؤولة وشجاعة فى سن مبكرة، يقول الأب إنه تلقى خبر مولد ابنته، فلما عاد الى شجرة العائلة، اكتشف أن أسرته الكبيرة لم تنجب أنثى على مدى مائتى عام، واختار اسم طفلته ليكون لها نصيب من شجاعة البطلة الأفغانية التى بدأ الفيلم بحكايتها.

الأب أيضا ناشط سياسى وقف ضد توغل طالبان فى وادى سوات، نسمعه وهو يتحدث عن الداعية فضل الله الذى تركته السلطات لينفرد بالحديث الى الناس من خلال ما يقترب من الإذاعة الخاصة. كان يركز دوما على مخاطبة النساء، وانتقل من الإعتدال الى التطرف، فبدأ يراقب الناس، ويهدد بعضهم، ثم أطلق مجرميه لكى يقتلوا معارضيهم ليلا، ولكن والد ملالا، وغيره من النشطاء، لم يصمتوا، ودفعوا الثمن بتهديدهم بالقتل، مما جعل الأب يغير برنامجه اليومى، وهاجر مع الآلاف من قريته، وأصبح لاجئا مع أسرته داخل باكستان.

ملالا كما قدمها الفيلم تأثرت كثيرا بقوة والدها، وبشجاعته، ولم تتأثر بأمها التى لم تتعلم، تقول ملالا بوضوح : ” إننى لا أعتقد أن أمى امرأة حرة لأنها لم تتعلم”، ولكن ملالا ليست أسطورة، ولا هى تريد أن تكون كذلك، ولكنها أرادت أن تدافع عن بنات جنسها، ووافقت على أن تكتب يومياتها تحت اسم مستعار لتنشر على مدونة هيئة الإذاعة البريطانية. رفضت ملالا قرار ضياء الله بمنع البنات من الذهاب الى المدارس، ولم تتوقع أبدا أن يقوم مجرمو طالبان بإطلاق الرصاص عليها، لأنها مجرد صبية صغيرة، ولكنهم فعلوها، بل وأصابوا زميلتين تجلسان بجوارها.

تقول ملالا بوضوح إن إطلاق النار عليها حررها من الخوف، واجهت الموت، وأنقذوها بأعجوبة، الرصاصة حطمت جزءا من الجمجمة. وضع ملالا بعد العلاج فى باكستان ثم فى بريطانيا أصبح أفضل كثيرا، ولكنها لم تنزعج كثيرا لأن جزءا من وجهها يبدو مشلولا، أو لأنها لا تسطيع الإبتسام بصورة طبيعية.

قوة ملالا فى أنها فتاة عادية تعلمت ألا تخاف، ولكنها ظلت دوما صبية مثل كل الصبايا، تضرب أخويها الأصغر سنا إذا أخطأوا، وتتحدث عن علاماتها الدراسية فى مواد كالبيولوجيا والفيزياء، وتقدم لنا الكتب التى تعشقها مثل رواية “الخيميائى” لباولو كويللو، وتضحك وهى تصف لنا الكتاب الذى نشر عنها بأنه ممل للغاية، تعترف بحب أشهر نجوم لعبة الكريكيت فى باكستان، وجمع صورهم، وتشعر بالخجل عندما يسألها جاجنهايم عن رأيها فى أن يكون لها “بوى فريند” مثل زميلاتها فى مدينة برمنجهام  البريطانية،  التى تقيم فيها مع أسرتها.

يسير عرض محنة ملالا ومعاناة أسرتها وهجرتهم جنبا الى جنب مع نشاط ملالا فى الدعوة لتعليم الفتيات، ومساندة قضاياها، وكأنه الفيلم يقول لنا :” أنظروا لقد خرجت من المحنة أكثر قوة” . نراها وهى تزور الفتيات فى كينيا، وتساند حملة إطلاق سراح 200 فتاة اختطفتهم جماعة بوكو حرام فى نيجيريا.

ملالا ليست أسطورة، ولكنها فتاة واعية، وذكية، ومستقلة، وقوية الشخصية، أخذت عن والدها عناده، وقدرته على المواجهة، ولكنها هى التى اختارت بنفسها (كما تؤكد)  أن تسير فى نفس طريقه، وهى التى نجحت فى تحويل محنتها الى فرصة أمل للدعوة لتعليم 66 مليون فتاة تحرمن من التعليم كل عام فى دول العالم. لم تغيرها الشهرة، ولا لقاءاتها مع كبار الشخصيات من الملكة إليزابيث الى أوباما، ولكنها استغلت شهرتها لخدمة قضيتها، وحصلت فى عام 2014 على جائزة نوبل للسلام، لتطلق حملة عالمية من أجل تعليم النساء.

“سمّانى ملالا” ليس فقط عن تلك الفتاة الرائعة الشجاعة، إنه فيلم يتحدى الجهل والتعصب، ويحاول أن يفهم أسباب تلك الموجة العاصفة من الإرهاب، ويتساءل عن علاقتها بالدين. نشاهد ملالا وهى تصلى مع أمها وأبيها فى مسجد برمنجهام، ونسمعها وهى تقول عن طالبان:” إنهم يعتقدون أن الله ضئيل، وأنا لا أظن ذلك على الإطلاق”. تسامح ملالا حتى تجاه من أطلقوا عليها النار يكشف عن روح سامية وعظيمة، وعندما يقول والدها :” من أطلق النار على أمتى ليس شخصا، وإنما أيدلوجية”، فإنه يكشف بدوره عن عقلية واعية، وجديرة بالتقدير.

يؤجل جاجنيهايم مخرج الفيلم مشاهد حصول ملالا على جائزة نوبل الى ما بعد العناوين، وكأن الفوز بالجائزة بداية لعمل إضافى من أجل المرأة. عندما لم تفز ملالا بنوبل فى العام 2013 قالت : ” ليس مهما الفوز بالجائزة، ما يهمنى فقط علاقتى بالناس”، وقال والدها:” المهم هو التغيير”، فقطع المخرج بذكاء الى مشهد نسف طالبان لمدارس باكستانية، وكأنه يشير الى تغيير فى الإتجاه المعاكس.

الآن تقود ملالا حملة عالمية لتعليم البنات، وتحمل شعارا رائعا يقول: “طفل واحد، معلم واحد،  كتاب واحد، قلم واحد، يمكنه أن يغير العالم”. هذا هو التغيير المنشود، وهذا ما فعلته ملالا ووالدها. ما زالت ملالا مهددة بالقتل إذا عادت الى وطنها، ومازال بعض الباكستانيين يرونها ووالدها عملاء للغرب، ومازال الإرهاب مستمرا فى العالم، ولكن ملالا تضرب نموذجا عظيما للمقاومة: تذاكر لتنجح، وتمنح الملايين أملا فى التعليم، ومواجهة الخوف والإرهاب.

لقد سمّاها والدها ملالا لتكون شجاعة، ولكنها هى التى صنعت شجاعتها على أرض الواقع، بعيدا عن كل الأساطير.

Visited 78 times, 1 visit(s) today