فيلم “علي معزة وإبراهيم”.. نغمة جديدة على طريق أفلام الطريق

Print Friendly, PDF & Email

في المؤتمر الصحفي الذي تلىعرض فيلم “علي معزة وإبراهيم” الذي عقد خلال فعاليات مهرجان دبي السينمائي الدولي 2016، وحين سئل مخرج الفيلم شريف البنداري عما يرمي إليه من وراء الرحلة التي يقوم بها أبطال فيلمه وعن اسقاطات الفيلم بشكل عام، قال البنداري بأنه لا يرمي لأمر محدد.

أحبطني رد البنداري هذا، ليس لكونه مستهجناً فالعمل الفني ليس من الضروري أن يحمل أي اسقاطات كما إنه ليس من المطلوب من أي فنان أن يقدم تفسيرا وتحليلا لعمله الفني فتلك هي وظيفة المتلقي. لكن مرد إحباطي يرجع لأنني كنت واثقة من أن البنداري وكاتبه أرادا قول الكثير من وراء حدوتة الفيلم البسيطة لكنني ببساطة لم أفهم الفيلم جيداً بعد المشاهدة الأولى.  كذلك لم تسعفني كلمات أغنية “اللف في شوارعك”التي جاءت في الفيلم بصوت الفنان محمد محسن. علمت أنها معبرة عن كل ما جاء  في الفيلم لكن بعض عباراتها بدت كطلاسم لم أتمكن من فكها بعد الإستماع الأول مثل “الكوتش اللي باش م اللف في شوارعك” و”القلب القماش المكوي بعمايلك” و “الواد اللي عاش طول عمره يحايلك”.

رغم ذلك، ظل الفيلم حاضراً في ذهني بقوة بعد مغادرتي قاعة العرض، ورغبت في مشاهدته مرة أخرى، لكن العرض كان بكل أسف الأخير خلال المهرجان المذكور والذي يقدم الفيلم خلاله عرضه الافتتاحي.

وعودة إلى رد البنداري الذي جاء خلال المؤتمر أعلاه وحضره إلى جانب البنداري بطلا الفيلم علي صبحي وأحمد مجدي، فقد كنت أعلم تماماً أن موقفه صحيح من التساؤلات حول الاسقاطات وما وراء االصور والثيمات التي اختارها، على الأخص وهو يقدم فيلما من أفلام الطريق والمعروف أن القيمة الحقيقية لهذه الأفلام تكمن في سرد تفاصيل رحلة الطريق وما يعترض أبطالها من صعوبات، لا توضيح الهدف الأخير منها أو اسقاطاتها وما شابه.

أفلام الطريق على العموم تستهوي المخرج شريف البنداري، بدءا من فيلمه القصير “حظر تجول” الذي شارك به في فيلم “18 يوم” وصولا إلى الفيلم التوثيقي الذي ناقش فكرة مميزة تتمثل في تغير علاقة الأشخاص بالمكان “في الطريق لوسط البلد” وانتهاءً بالفيلم القصير “حار جاف صيفا”، وهو هنا يقدم أول فيلم روائي طويل له ضمن هذه النوعية التي تبدو وكأنها المفضلة لديه.

ومثل كل أفلام البنداري، فإن فيلم الطريق الطويل هذا يبدو منذ الوهلة الأولى مختلفاً عن أي من الأفلام المصرية التي يمكن إدراجها تحت فئة أفلام الطريق، حتى عن تلك التي قدمت على يد مخرجين كبار وشكلت علامات مهمة في تاريخ صناعها أو أبطالها، نذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر، فيلم “أربعة في مهمة رسمية” للمخرج علي عبدالخالق وفيلم “ليلة ساخنة” للمخرج عاطف الطيب. لن أزعم أن فيلم البنداري أكثر تميزاً، لكنني سأقول فقط أنه مختلف، طرحاً وأسلوباً، وروحاً ربما لكونه فيلماً فانتازياً على عكس ما اعتدناه من واقعية أفلام الطريق في السينما المصرية، بدءا من الحب الذي يجمع بين علي ومعزته وإيمانه بقدراتها الخارقة ثم انتشار ذلك الإيمان والقناعة بين أهالي الحارة، وصولا لتوظيف إبراهيم (بطل الفيلم بعد علي ومعزته) الأصوات التي تملأ رأسه لتعديل مسار بعض الأمور في عدد من مشاهد الفيلم.

يصور الفيلم شخصية “علي” (يقوم بدوره علي صبحي) إبن الحارة الشعبية، البسيط في تفكيره العفوي في انسانيته، الذي يقع في حب معزة لأنه يعتقد أنها تعويض من الله له عن خطيبته ندا التي فقدها بعد سقوطها من فتحة في أحد جسور القاهرة، ما يجعل منه سخرية وأضحوكة في الحارة، ويدفع بأمه لأخذه إلى معالج روحاني يقترح عليه القيام برحلة لرمي حصى مباركة في مسطحات مائية ثلاث في مصر.

لدى زيارته المعالج الروحاني، يلتقي بإبراهيم (يقوم بدوره أحمد مجدي) الذي يلجئ (يلجأ)للمعالج ذاته بسبب حالة إكتئاب تلازمه جراء أصوات غامضة تملأ رأسه وتعوقه  من مواصلة شئون حياته بل وتقوده إلى قدر محتوم لاقته والدته قبله. كما يتحدث الفيلم عن معزة تبدو وكأن لها كرامات لا تعد ولا تحصى، يسخر الجميع من علي لإيمانه بهذه الكرامات لكنهم يشاركونه ذات القناعة مع نهاية الفيلم. يقرر الإثنان القيام برحلة لإلقاء الحصى في المسطحات التي اقترحها المعالج، ويقرر علي اصطحاب ندا (المعزة)، ويقرر البنداري توثيق رحلتهما تلك وأخذنا معه لنعيش تفاصيل  شيقة ومختلفة.

ليست الرحلة التي يقوم بها بطلا الفيلم هي ما سيجعل من الفيلم فيلماً من أفلام الطريق، وحسب، لكننا منذ البداية سنجد أنفسنا على الطريق، نلازم علي أولا، ونعيش معه تفاصيل يومه، هو وصديقه كاماتا (يقوم بدوره أسامة أبوالعطا)، ثم ننتقل إلى إبراهيم لنتعرف أيضا على حياته ونلازمه منذ طرده من مكان عمله حتى وصوله إلى منزله في ذات الحارة التي يعيش فيها علي الملقب بعلي معزة.

كذلك، فإن الفانتازيا ليست هي ما يجعل الفيلم مختلفاً وحسب، لكن الفيلم يطرح قصته بشكل لا يشبه ما هو سائد في السينما المصرية.  لن يستدر الفيلم عواطف متلقيه (جمهوره)ولن يقدم أي مشاهد فيها ابتزاز عاطفي للجمهور تجاه علي ووضعه العقلي والنفسي أو تجاه إبراهيم الذي نراه وهو يسير نحو نهاية محتومة بسبب تلك الأصوات التي تسكنه.

وفي المقابل لن يجعل الفيلم من أبطاله أضحوكة، فهو ليس فيلما كوميديا ينتزع الضحكات من مشاهديه على حساب وزن وثقل الشخصيات، لكنه بدلا من ذلك سيقدم كثيرا من الاسقاطات السياسية والمجتمعية بلغة تهكمية عالية ستأتي على لسان شخصيات الفيلم وعلى رأسهم علي الذي لن نسخر من بساطته وخفة عقله، فالبنداري يخبرنا أن علي ليس مغفلا ولا معتوها، ربما ساذجا نوعا ما وبسيط العقل وعفوياً أكثر مما ينبغي لكنه ليس غبياً.

كذلك سنجد التهكم في جعل المعزة بطلة للفيلم، فهي تظهر في معظم مشاهد الفيلم، وهي معزة غير عادية، يؤمن علي أنها تعويض له عن ندى خطيبته، وبالمناسبة أطلق عليها إسم خطيبته ندى، كما إنه يحمل قناعة تامة بأن لهذه المعزة كرامات تجعله في مأمن من مخاطر عديدة ما دامت هي معه.

سيأتي التهكم أيضا على يد ضابط على درجة عالية من السادية (يؤدي دوره آسر ياسين)، يفترض أنه سيكون قائما على نقطة تفتيش هي بمثابة كمين لإصطياد موزعي المخدرات. سيتهكم الفيلم على سادية الضابط المثيرة للشفقة والتي تجعله يغفل عن ملاحظة فتاة مختطفة تصرخ وهي في سيارة أجرة تمر أمام نقطة التفتيش التي يقف عليها فيما ينشغل بتوجيه طعنات متتالية لبطن (دبدوب) يبتاعه علي معزة لخطيبته ندى (المعزة) بمناسبة ذكرى ميلادها، وذلك بحثا عن مخدرات مزعومة.

وكما لن يستدر فيلم “علي معزة وابراهيم” عواطف المتفرجين، ولن يجعل من نفسه ومن أبطاله أضحوكة، فإنه في المقابل سيبهرنا بمواقفهم، ثم سيعود ليخفف درجة الإنبهار تلك، حين تصدر من تلك الشخصيات مواقف تكسر إنبهارنا، فهم بشر عاديون في نهاية المطاف. البنداري سيجعلنا نقف من الشخصيات موقفاً محايداً، فعلي ليس مغفلا تماما وليس طيبا جدا، لذلك فما أن تبدأ في التعاطف معه حتى يقرر البنداري أن يجعلك تأخذ خطوتين إلى الوراء، تراجع فيها حساباتك من شخصيته وتترك بينك وبينها مسافة.

كذلك لم تكن نور وإسمها الآخر أو الحقيقي صباح (تقوم بدورها الفنانة ناهد السباعي) ضحية بالمعنى الحقيقي، وهي التي إلتقاها علي وصديقه كاماتا تصرخ في سيارة أجرة طالبة النجدة، أنقذاها معتقدين أنها ضحية حادث اختطاف بغرض الاغتصاب ليجدا بعدها أن الأمر لم يكن سوى حالة عدم اتفاق بين زبون و”فتاة ليل”.

يختلف فيلم البنداري أيضا عن سواه من أفلام السينما المصرية في قدرته على جعل المتلقي (غير المصري على الأقل) يغير وجهة نظره من الشخصية التي تأتي من الحارة المصرية، على أقل تقدير، فهي ليست شخصية انتهازية لا تكترث للأخلاق والقيم. سيخرج فيلم البنداري شخصية إبن الحارة المصرية الفقيرة من قالب نمطي لطالما ظلمتها السينما المصرية بوضعها فيه. ستبرز هذه الشخصية في الفيلم في قالب جديد يمثله كاماتا، الذي لم يستغل حقيقة نور ولم يحاول استغلالها جسدياً بعد أن أنقذها لكنه سيقرر اقناعها بالعودة إلى جادة الصواب ثم سيتزوجها، رغم ما يفعله المخرج حين يوهمنا في أحد المشاهد بأن كاماتا قد تجاوز حدوده مع نور. بشكل عام سيجعلك الفيلم تحترم جميع الشخصيات المعتادة في السينما المصرية وسيغير موقفك منها.

يغير الفيلم أيضا النظرة للفيلم المستقل الذي يمكن أن يأتي بنكهة تجارية ليجتذب الجمهور وليحبوه لكنه لن ينزل بمستواهم مبررا ذلك النزول بقاعدة الجمهور اللي عاوز كده، كما لن يترفع عليهم، بحجة كونه فيلماً فنياً يصلح للمهرجانات، مع الوضع بعين الاعتبار الاتهامات التي وجهت للفيلم من قبل بعض النقاد، على الأقل ممن حضرت العرض معهم، والتي تتهمه بالترفع على جمهوره في جعل اسقاطاته غير واضحة.

تمكن البنداري من تقديم فيلم مستقل بوصفة سينمائية تحترم جمهورها وترتقي بذائقتهم السينمائية. قدم الهم المصري بأسلوب فانتازي وبلغة تهكمية راقية، وعبر فيلم عفوي جدا مختلف جدا في طرحه وفي اسقاطاته وفي مباشرته ولا مباشرته وفي لغته السينمائية.

* ناقدة سينمائية من البحرين

Visited 47 times, 1 visit(s) today