سلطان الأب وطقوسه: قراءة في الفيلم القصير “ماء ودم”
ليس الأب في الأسرة الممتدة مجرد وظيفة اجتماعية يشغلها عضو داخل نسيج أسرة اختلفت أدوار أفرادها، بل هومحور رابطة القرابة الذي تلتف حوله وتتقاطع علاقات الأفراد فيما بينهم في علاقتهم به، لذلك تسمو مكانته الاجتماعية لتصل درجة القداسة الروحية. يكون بمثابة الوسيط الناقل للقيم الدينية من عالمها علوي والمنظم للأدوار الاجتماعية في عالمها الدنيوي، لا يكون هو نفسه فقط، بل تنطبع في شخصه صورة المثال المحتذى الذي وجب الانقياد لأوامره وتجنب نواهيه، لأن كل ما يصدر عنه ومنه ممتد خارج جسده الطبيعي، يشمل بإشعاعه الروحي كل من يدور في فلك دائرته.
رابطة دموية
في بداية الشريط يبدو الأب إبراهيم، وهو يتلقى تهاني عيد الأضحى بعد خروجه من المسجد، امتدادا للقدسي المتسامي حينما تنحدر الصورة من السماء معرجة نحو الصومعة ونازلة إلى الزقاق الذي يشغله الأب بقامته العريضة، تنضاف إلى ذلك إحالة اسمه على أب التوحيد الأول النبي إبراهيم، الذي أدمج الرابطة الدموية للقرابة بالرابطة الدينية. كذلك عندما يدخل بيته مصحوبا بالجزار لنحر الأضحية يحتل فناء الدار المفتوح على السماء مبعدا كل نسوة البيت عن الظهور أمامه، لأنه المكلف دينيا بإدارة الجانب الطقوسي، يوزع الأدوار على أتباعه وفق ما يعزز سلطانه المادي والروحي.ينجز طقس عبور حفيده لطيف من عالم الطفولة نحو الرجولة عندما يدعوه للمشاركة في نحر الأضحية، والذي يذكّر هذا الأخير بطقس خروجه من عالم الأمومة ودخوله عالم الذكورة، عندما أخذته جدته هاجر من بين يدي أمه نحو أحضان جده لختانه، والذي يتم فيه بتر الغلفة تطهرا من دم الأم النجس.
وفق هذا الرأي لا تعتبر الأضحية مجرد قربان يتقرب به الأب إبراهيم إلى الإله امتنانا واعترافا بنعمه وتجديد ميثاق الإخلاص له، بل تعبر عن الخضوع لمشيئته والرضوخ لحكمه، إذ لا يكون الأب إلا مجرد وسيط تتجلى من خلاله سلطة الإلهي التي تستوجب على كل الأبناء التسليم بجلال سيادته، كما استسلم إسماعيل للذبح عندما تلقى إبراهيم أمرا من الإله للقيام بذلك. ومن ثمة كان نحر الكبش افتداء لإسماعيل وبديلا حل محله بعدما استجاب طائعا أمر أبيه. هكذا هوالابن عبد الكبير في فيلم “ماء ودم” الذي يوحي اسمه إلى الخضوع، يرى نفسه في تلك الأضحية المعلقة التي تقطر دما وهو يتعرض للتعذيب حينما أراد أن يكون خارج سلطة الأبوة الرمزية التي يمثلها النظام السياسي التقليدي، كما ترى زوجته كذلك في الأضحية التي تُفرغ من أحشائها غصبا لأمومتها حينما أجهضت قسرا، لأن جنينها لم يكن ثمرة عقد مختوم بطابع الأبوة الشرعية (عقد نكاح)، بحيث لا يحق للابن الانتساب إلى دم الأم، بل إلى اسم الأب المقرون باسم الإله، مادام الابن سيصير له عبدا.
ماء ودم
وهذا يستدعي تفكيك عنوان الفيلم وإبراز علاقة التنافي القائمة بين صيغتيه: ماء/ دم. فبالرغم من اعتبارهما مصدري الحياة فإن وظيفتهما تختلف باختلاف نظرة الأديان بحسب الأسس التي يستمد منها كل دين عقائده وتشريعاته. فإذا كان خروج الدم علامة على الخصوبة والنضج عند الحيض والنفاس فإن إراقة دم الأضاحي سواء بشرية كانت أوحيوانية فهي استجداء للخصوبة كذلك، ولذلك كان الدم مقدسا، وبفضله قدست النساء ومجدت تماثيلها وأبيحت الممارسات الجنسية المتعددة للبغاء المقدس في المعابد الوثنية.
وبظهور إله التوحيد وتسامي اسمه المجرد، أضحى الدم والمرأة دنسا لا يتطهران إلا بالماء المقدس، ماء إله السماوات العلا الذي يغيث به عباده وعليه يقيم عرشه وجنانه. وإثر ذلك انتقلت القداسة من دم الأمومة إلى ماء الذكورة، بحيث صار الذكر هو مصدر الحياة لأن به ماء الإخصاب ( المني)، وصارت المرأة مجرد وعاء ينضج فيه الذكر مادته الحية.
قد نرى في الفيلم كيف يعمل الأب إبراهيم على احتكار الدم مصدر سلطة المرأة بتجنيب نسائه القرب من دم الأضحية، وانتزاعه من الحفيد عبر الختان، مثلما انتزع ابنه دم العذرية، ولوزورا، من زوجته ليلة زفافهما، وكيف يقدم الأب كبد الأضحية لما تختزنه من دم إلى زوجة ابنه باعتباره المالك للدم والمتصرف فيه، يهب الخصوبة التي صارت طوع يديه.
ومقابل ذلك يتسامى الماء ويرتفع، فهو سحاب في السماء بداية الفيلم، ونافورة الماء المتجهة إلى الأعلى وسط الدار المفتوحة السقف. ومن ثمة نرى أب الأسرة الممتدة لا يقتصر سلطانه على الرابطة الروحية التي تجعل منه سيد البيت بل يضم إليها الرابطة الدموية التي تجعل منه صاحب النسل المتحكم في استمرار السلالة، والتي انتزعها غصبا من سلطان الأم.
ومهما تصلبت أركان السلطان الأبوي وتعززت دينيا، فإن أساساتها تهتز وجدرانها تتداعى بفعل الخضات العنيفة التي تتعرض لها من خارج دائرة تحكمها، ومن حيث لا تطال يدها ذلك الذي يقوض قداستها ويزيح القناع عن مبررات حكمها الجائر. ها هو الابن عبد الكبير يأتي من خارج المدينة، من خلف أسوارها المحكمة الإغلاق يقود سيارته مستمعا لأغنية تردد زوال وهم الغيب، حيث لا جنة هناك ولا جحيم في أعالي السماء، فقط حاضر يعاش هنا، محكوم برغبة الذات المتحررة من كل قيد. نراه منفردا يطل على المدينة من أعلى وكأنه المحور الذي منه تنفتح زاوية الرؤية، يتردد في الرد على هاتف أمه هاجر ويتماطل في القدوم نحو بيت الأبوة ليشارك الأسرة الاحتفال بعيد الأضحى.
وعندما يدخل المدينة نرى بعيونه عالم الذكورة المهيمن على المجال العام وهو منهمك في حرق رؤوس الأضاحي في مشهد عنيف يبعث على النفور، لا حضور فيه للمرأة ولوعلى سبيل المجاز. وبدخوله بيت الأبوة لا يتأخر في ضم ابنه لطيف إلى صدره محولا وجهته خارج البيت إنقاذا للابن من سطوة الأب/الجد الذي يورثه عنف الذكورة، خصوصا وأن الابن/ الحفيد مازال تحت وقع صدمة النحر التي جعلته يرى نفسه يغتسل بدم الأضحية الذي انبعث من النافورة بدل ماء الطهارة المقدس.
الدنس
في المشاهد الأخيرة للفيلم نري كيف استحال الدم الذي أراد الأب احتكاره دنسا عندما لوث ماء النافورة، وحينما قدمت زوجة الابن كبد الأضحية إلى الكلب، وكأنما الدم الذي كان أساس قداسة الأمومة صار موطن الدناسة تحت إمرة الذكورة، لأنه لم يعد يحمل بذور الإخصاب واستمرار الحياة، بل صار مبعث عنف مهدد بالهلاك، وصار معه سلطان الأب رمزا لتفكك الأسرة وانهيار إرادة أفرادها. لذلك كانت بداية الفيلم تهجس بالرغبة في التحرر من سلطانه الكاتم للأنفاس برسم صورة اللقالق وهي تحلق في سماء المدينة أو واقفة فوق أسوارها العاتية تنظر باستغراب إلى ساكنيها المحشورين في ظلامها الكئيب والسماء مشعة بأنوارها.