“ساعة ونصف” وتساؤلات حول الجدوى
قبل أن أبدأ حديثي لابد وأن أعتذر عن احتواء المقال على بعض الاستطراد في الحديث عن أمور تعتبر من بديهيات فن السينما، ولكن فيلم “ساعة ونص” للمخرج وائل إحسان والمؤلف أحمد عبد الله احتوى على قدر كبير من الأخطاء المرتبطة بهذه البديهيات مما أجبرني على الحديث عنها، ربما لمحاولة تلمس سر وقوع أسمين بارزين مثل صانعي الفيلم في مثل هذه الأخطاء، أو للبحث عن إجابة عن التساؤولات التي شغلت ذهني طوال مشاهدة الفيلم حول جدوى كل اختيار تم اتخاذه حتى وصل الشريط لقاعة العرض.
عن جدوى الشكل الدرامي
وفيلم “ساعة ونص” يعتمد بنائيا على شكل درامي أصبح شائعا جدا في السينما العالمية مع بداية الألفية الجديدة، وانتقل منها للسينما المصرية عبر مجموعة أعمال كان المؤلف أحمد عبد الله صاحب اثنين من أبرزها “كباريه” و”الفرح”. الشكل الدرامي هو الحكاية متعددة الحبكات، والتي تعتمد على الكثير من الخطوط المتوازية التي لا يمكن اختيار أحدها ليكون خطا رئيسيا للعمل، ولكن تسير وتتطور كلها بالتزامن معا خلال حيز زماني أو مكاني واحد.
وهذه النوعية من الدراما عادة ما تخلص المؤلف من حمل ضخم اسمه أزمة الفصل الثاني، فإذا كانت الحكاية التقليدية تكتب بطريقة “كان هناك رجل تعرض لتجربة فأنتهت هكذا”، فهي حكاية نعلم سلفا تفاصيل بدايتها ونهايتها ـ أي فصلها الأول والثالث ـ ليبقى عبء الفصل الثاني الذي يشغل أغلب زمن الحكاية على الكاتب ليملأه بأحداث متتالية يفترض فيها التصاعد والارتباط بموضوع الفيلم. هذه الأزمة التي تتسبب في سقوط العديد من الأفلام تنته بمجرد اتخاذ الكاتب لقرار سرد حكاية متعددة الحبكات، فعندما تمتلك سبعة أو ثمانية شخصيات رئيسية وتمتلك عبارة تلخص حكاية كل منهم كالتي ذكرناها، فيمكنك ببساطة أن تسرد هذه الحكايات بشكل متوازي لتبدأ وتنتهي معا لتملأ حيز الفيلم دون الحاجة للدخول في تعقيدات الفصل الثاني.
ولكن في مقابل ما يبدو على الأمر من سهولة ظاهرية تظهرعقبة أخرى اسمها الجدوى، والتساؤل يصبح تلقائيا متعلقا بالاستنتاج النهائي الذي يخرج به المشاهد بعد متابعة عدة حكايات متزامنة، بل وتكمن موهبة الكاتب في جعل الحكايات تبدو ظاهريا لا علاقة لها ببعضها البعض حتى يكتشف المشاهد في النهاية أن هناك علاقة لم يرصدها من البداية، تماما كما نشاهد في الفيلم الحائز على الأوسكار “تصادم” حكايات متباعدة تصل بنا في النهاية لوجود مشكلة عنصرية متغلغلة في أعماق المجتمع الأمريكي، أو في الفيلم المصري “واحد صفر” الذي نكتشف مع نهايته افتقار جميع الشخصيات على مختلف بيئاتها للشعور بالكرامة.
لن تجد في “ساعة ونص” أي سبب منطقي لجمع هذه الحكايات معا، ووحدة عنصري الزمان والمكان ليست كافية على الإطلاق لتبرير الأمر خاصة من كاتب استخدم نفس التقنية السردية من قبل بصورة أكثر نضجا. وستحاول كثيرا أن تصل لما يريد الكاتب أن يطرحه من خلال العمل فلن تصل إلا إلى مزيج مشوش من الحديث عن الفقر وتبعاته، وعن الفساد الحكومي والإداري، وعن التفاوت الاجتماعي وجدوى التعليم واختلاف الثقافات، وغيرها من الأمور التي تتراص بجوار بعضها حتى نصل للنهاية المأسوية.
عن جدوى وحدات السرد
أما إذا تغاضينا عن هذا المزيج العجيب من الحكايات المتفاوتة القوة والمغزى، وحاولنا الاقتراب أكثر من كل حكاية على حدة وتحليلها دراميا باعتبارها الوحدات السردية المكونة للكل الفيلمي، فستجد أن هذه الوحدات تعاني من كل أشكال الخلل الممكنة تقريبا. بداية من تجاهل منطقية عنصر الزمن الذي اختار المؤلف أن يكون هو الزمن الفعلي، لتجد الكثير من الأحداث والتصعيدات الدرامية التي لا يمكن منطقيا أن تحدث في الحيز الزمني المحدود البالغ ساعة ونصف لمجرد ضيق الوقت، كحكاية مفتش السكة الحديد (أحمد بدير) الذي نراه يبدأ يومه في المنزل ثم يخرج ثم يعود فيجلس في المنزل ثم يخرج ثم يعود ليضبط زوجته مع عشيقها في هذا الحيز الزمني المحدود جدا.
ستجد أيضا تجاهل المنطق المجتمعي كعدم تبرير ترحيل شاب (أحمد الفيشاوي) من القاهرة لقرية بسبب تهمة كفعل فاضح في الطريق العام بينما تكون الفتاة الأجنبية التي شاركته الفعل متواجدة في القرية بصورة طبيعية، وكذلك في عدم منطقية ركوب بعض الشخصيات لقطار الدرجة الثالثة كالموظف المتيسر (أحمد عزمي) والمرأة الميسورة المتصابية (سوسن بدر). عيب آخر هو ركود بعض الخطوط الدرامية وأبرزها خط الشابين العائدين من ليبيا (كريم محمود عبد العزيز ومحمد رمضان)، واللذان يصل حد الركود الدرامي في خطهما لدرجة تكرار تصعيد حوار بحذافيره بينهما فقط لضمان تواجدهما على شريط الفيلم (وفي هذا التكرار ظلال من استحالة تكرار نفس الخلاف في هذا الحيز الزمني المحدود)، قبل أن تنقلب حكاية الشابين لميلودراما شديدة الفجاجة عندما يتوفي أحدهما فجأة أمام عيني صديقه دون أي تمهيد لما يبرر وفاة شاب عشريني بهذه الصورة المفاجئة بخلاف رغبة صناع الفيلم في استدرار دموع المشاهد!
عن جدوى الإخراج
كل ما سبق من اختيارات يمكن إلقاء اللوم فيها بشكل أساس على كاتب السيناريو أحمد عبد الله وهي مشكلة، ولكن أن يزيد إخراج الفيلم الطين بلة فهذه مشكلة أكبر. فطريقة تقديم المخرج وائل إحسان للحكاية جاءت تعبيرا مثاليا عما يمكن أن نطلق عليه “الإسراف فيما يحتاج لترشيد، وتجاهل ما يحتاج لتركيز”. فأدوات كالموسيقى التصويرية والتحريك البطئ للقطات يجب استخدامها بحكمة لتحقق التأثير المطلوب، ولكن استخدامها بشكل مستمر وصارخ كما تم في الفيلم هو أمر مراهق يهدف للتأثير في المشاعر بأي صورة حتى لو كان الأمر عبر استخدام أكثر الطرق استهلاكا.
وعلى النقيض من الإستخدام المسرف لأمور ليست من أساسيات الصورة السينمائية نلاحظ غياب لأمور بديهية لعل أبرزها عنصر التتابع البصري بين اللقطات أو ما يعرف بالراكور. ستجد في فيلم “ساعة ونص” عدد من أخطاء التتابع أكبر بكثير من أن يتم حصره، حتى أنه لا يكاد يمر مشهد واحد دون ملاحظة خطأ أو أكثر في لقطاته، وهو الأمر الذي يصل في مشهدين أو ثلاثة لأخطاء أفدح كالقطع بين نفس الحجم من نفس الزاوية، أو ككسر الخط الوهمي بصورة متكررة بعيدة تماما عن السياق البصري لباقي المشاهد. والأزمة هنا أن تسعين بالمائة على الأقل من هذه الأخطاء هي أخطاء كان من الممكن تفاديها ببساطة فقط إذا ما قرر المخرج ومساعدوه التركيز في ألف باء وظيفتهم.
نفس القدر من انعدام الحضور الإخراجي تجده في التفاوت الشاسع في مستوى أداء الممثلين، فبينما يظهر بعض الأبطال بصورة جيدة جدا واستيعاب واضح لأبعاد شخصياتهم وأدق تفاصيلها كماجد الكدواني وفتحي عبد الوهاب وأحمد بدير، ستجد أداءا باهتا جدا من ممثلين كآيتن عامر ويسرا اللوزي وحتى الأكثر تمرسا منهم كسوسن بدر وسمية الخشاب. وهذه مجددا أحد العيوب التي لا يمكن تفسيرها إلى بغياب التوجيه الواضح من المخرج مما يترك الأداء عرضه لفهم الممثل للدور وحتى لعوامل كحالته المزاجية خلال التصوير!
عن جدوى كل هذا
والأزمة الحقيقية من كل ما سبق هي أنه وبالرغم من غياب الجدوى في كل عنصر من عناصر الفيلم، إلا أن من المستحيل تماما أن نصفه بأنه عمل “مسلوق” تم تنفيذه دون عناية إنتاجية. بل على العكس يمكنك أن تلمح بوضوح السخاء الإنتاجي سواء في طاقم الممثلين أو في الديكورات وتنفيذ الخدع أو حتى فيما نعرفه في الوقت الذي احتاجه إنهاء نسخة الفيلم النهائية. وهو ما يقودك للتفكير في أن كل الظروف كانت مواتية لصناعة فيلم متميز، فقط إذا ما توافرت العقول القادرة على صنعه.