“روكي” أمل المُستضعَفين.. مفهوم جديد للانتصار
عبد الحميد منصور
بعد سنوات وسنوات من إطلاقه في دور العرض للمرة الأولى في أمريكا، في الحادي والعشرين من نوفمبر سنة 1976م، يأتي ذكر فيلم “روكي” لسيلفستر ستالون غالبا على أنه مادة خصبة للتندر وأحيانا للتهكم؛ إذ ينظر له المنتقدون على أنه فيلم حركة رياضي، أي من نوع سينمائي أدنى، تفوق على أفلام مميزة ومهمة من بينها “كل رجال الرئيس”، وأيضا الفيلم الأيقوني، والسبب الرئيس في تلك النزعة الانتقادية ونظرة الاستخفاف، فيلم “سائق التاكسي” Taxi Driver من بطولة روبرت دي نيرو وإخراج مارتن سكورسيزي، وذلك بعدما دخل “روكي” سباق الأوسكار في عام 1977م ليفوز بثلاث جوائز رئيسة هي أفضل مونتاج وأفضل إخراج، والجائزة الكبرى “أفضل فيلم”، فكيف للأدنى أن يتفوق على الأعلى..؟!
ظاهريا يمكن النظر إلى فيلم “روكي” على أنه فيلم ملاكمة، أما فنيا وفلسفيا وإنسانيا فإن “روكي” يمكن له أن يعني الكثير.. لأنه يطرح مفهوما مغايرا لمعنى أو فكرة البطولة، سواء على المستوى السينمائي أو الإنساني.
قبل “روكي” بسنوات، تزيد على العِقد، انتعش مفهوم البطل الضد Anti-Hero، الذي مثَّلَ تمردا على مفهوم البطل التقليدي في السينما، البطل الذي يمتلك قدرات ومواصفات بدنية أو ذهنية او شكلية تمكنه من الانتصار وقهر أعدائه في صراعه معهم، وكذلك إقناع جمهور المشاهدين بأحقيته بهذا التفوق والانتصار في نهاية الفيلم. ثم أتى البطل الضد، مصحوبا بالهموم الاجتماعية، ليهدم تلك المواصفات أو بعضها ليقترب البطل أكثر من مواصفات الشخص العادي ويتشابه أكثر مع غالبية جمهور المتفرجين، قد ينتصر البطل الضد كما ينتصر البطل التقليدي، لكن الأغلب كان أن تأتي الأحداث في النهاية مصحوبة بهزيمته أو سحقه أو موته… أي أن البطل الضد قد جاء ليتماهى مع صور الجمهور وأحلامهم لا لكي يحققها أمام عيونهم.
جاء “روكي” ليضيف معنى جديدا إلى البطولة وهو الصمود، البطولة هي الصمود، أن يبقى البطل واقفا على قدميه حتى النهاية في مواجهة كل القوى والأعاصير التي تسعى إلى الإجهاز عليه أو الانتصار عليه نصرا مبرما أو إفنائه.
روكي بالبوا ملاكم، يمارس رياضته العنيفة في مستويات متواضعة، في ساحات المراهنات في شوارع الميناء الخلفية، لأجل حفنة قليلة من المال، يدخن السجائر، ويملك في قلبه حبا رقيقا تجاه أدريان، العاملة في محل لبيع الحيوانات الأليفة. تضعه الظروف فجأة في مباراة تحدٍ ضد أبولو كريد بطل العالم.
يصبح الموضوع مصدر تسلية في وسائل الإعلام، ويتوقع الجميع النتيجة شبه الحتمية للمواجهة المرتقبة، وهي أن ينهي أبولو كريد المباراة لصالحه بكل سهولة بالضربة القاضية مبكرا..
.. لكن، تحدث المفاجأة ولا يسقط روكي بالبوا، بل يصمد أمام قوة وعنفوان ضربات أبولو كريد، ويراوغ، ثم يرد الضربات، بل إنه ينجح في إسقاط أبولو كريد أرضا، لكن ليس سهلا أن تهزم بطل العالم، إذ تستمر المباراة سجالا بين الملاكمين حتى الجرس الأخير للجولة الخامسة عشر والأخيرة.
يفوز أبولو كريد بالمباراة بقرارات الحكام، لكن روكي بالبوا لم يسقط أرضا، وجذب اهتمام العالم..
وضع روكي بالبوا خطته للمباراة، وبناها لأجل هدف واحد، هو أن يصمد أمام أبولو كريد لأطول وقت ممكن، لذا كانت تدريباته التحضيرية غير تقليدية، أحد أشهر مشاهدها التدرب داخل ثلاجة المجزر، بغرض إكساب جسده المزيد من القدرة على التحمل، ونجح فيما سعى إليه.
هذه الفكرة، الصمود، أن تبقى واقفا على قدميك حتى النهاية، ألا تستلم للسقوط، مستلهمة من تحضيرات محمد علي كلاي لمباراته الأسطورية أمام جورج فورمان في 30 أكتوبر 1974م في كينشاسا- زائير.
كان محمد علي كلاي خلال منازلاته التدريبية في فترة التحضيرات يترك وجهه وجسده بلا حماية ليتلقى أكبر كم من اللكمات، الأمر الذي أثار جنون مدربه في إصراراه على التخلي عن الهجوم والدفاع أيضا، ولكن خلال المباراة نفسها ومع تتابع جولاتها التي امتدت إلى 15 جولة، فهم المدرب خطة محمد علي السرية التي أخفاها عن المدرب نفسه، كان محمد علي يدرك مدى براعة حجم خصمه ويدرك درجة قوة ضرباته التي أسقطت خصومه واحدا تلو الآخر والتي أوصلته إلى أن يكون بطلا للعالم في الوزن الثقيل.. لذا، كان محمد علي يدرب جسده على المراوغة واستقبال الضربات وتحملها إلى أطول مدى زمني ممكن إلى أن يصل بخصمه إلى حد الإرهاق، ثم يتحرك بعدها نحو الهجوم، مستغلا تداعي قوى الخصم وتشوش ذهنه الذي لا بد أن يتسلل إليه الشك والشعور بالفشل، ليبدأ عندها محمد علي، البطل الصامد، في توجيه اللكمات تلو اللكمات.. كانت خطة محفوفة بالمخاطر، لكنها بارعة ومبتكرة، ونجحت.. ليستعيد محمد علي كلاي لقب بطل العالم الذي سُحِب منه قبل سبع سنوات من تاريخ تلك المباراة إثر رفضه التجنيد في الجيش الأمريكي خلال حرب فيتنام.
قصة هذه المباراة وخلفياتها موثقة بالكامل سينمائيا في الفيلم التسجيلي “عندما كنا ملوكا” When We Were Kings (1996)، وهو فيلم تسجيلي من حيث مادته المصورة، اللقاءات والأخبار المتلفزة والصور الفوتوغرافية.. إلخ، لكنه كان ذا حبكة وبناء دراميين يكادان يصنعان منه فيلم تشويق وإثارة، وربما لهذا حصل في سنته على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم تسجيلي.
قد يقول أحد الآراء أن روكي بالبوا في نهاية الفيلم قد خسر مباراة التحدي بينما فاز أبولو كريد..
..نعم، روكي بالبوا لم يفز بالمباراة، ولكنه، دراميا، ونضع خطا تحتها، نجح في تحقيق الهدف الذي أراده ورسم الطريق إليه، وبهذا التحقق تصبح دراما الفيلم تامة دون أن تؤثر فيها نتيجة المباراة، خاصة وأن بناء الفيلم جعل من أبولو كريد يفوز بالنقاط بطريقة مشكوك فيها نتيجة انحياز الحكام لبطل العالم، وهذه نقطة ذكية جعلت من فوز أبولو كريد فارغا من معناه لأنه ليس حاسما أو نهائيا، بل نتيجة للتلاعب، ولذلك فهو انتصار زائف، وليس انتصارا حقيقيا، أشبه بالفوز عن طريق اللجوء للغش، فأنا وأنت والجمهور، جميعنا نعرف، أن بالبوا هو المستحق للفوز، ولكن هذا اللقب أو الحزام ليسا هدف بالبوا من المباراة، لأنه يعرف أن بيئة تحقيق اللقب لها قوانينها.
وهنا تأتي الأبعاد الفلسفية وأيضا الحياتية أو الإنسانية في التجديد الذي أضفاه “روكي”..
يظهر هنا التناقض أو التقابل بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، الذاتي خاص ويتبع العالم الداخلي للشخصية وأفكارها وتصوراتها وينبع منها ويصاحبها، أما الموضوعي فهو عام وخارجي ينتمي للمجتمع والبيئة المحيطة وللعالم أكثر من انتمائه للشخص الفرد، وربما يكون وجوده سابق على وجود الفرد ذاته.
وفقا للظاهر، ولقانون العالم الخارجي، فإن بالبوا، قد فشل لأنه قد خسر المباراة حسب النتيجة النهائية المعلنة واستحواذ أبولو كريد على الحزام، رمز اللقب، ولكن وفقا للهدف الذاتي الداخلي الذي حدده روكي بالبوا لنفسه بأن يصمد ويبقى واقفا على قدميه حتى النهاية، فإنه يعتبر ناجحا، وتشهد خسارته بالنقاط لا بالضربة القاضية الفنية أمام بطل العالم، وتشهد الكدمات في وجهه وعيونه المتورمة ودمائه النازفة على ذلك الصمود، وعندما تكون مغمورا يا له من نجاح أن تكون ندا لبطل العالم وألا تخذلك قواك حتى لحظة النهاية لتبقى هامتك عالية..!
أحيانا، أو غالبا ما ينشأ، وفق كل حالة، تناقض أو تضارب بين قيم الفرد وقيم البيئة الخارجية، بين معايير الفرد ومعايير المجتمع، حول تحديد ما هو النجاح وما هو الفشل، ما هو الجميل وما هو القبيح، ما هو الصواب وما هو الخطأ.. فتتولد عن ذلك صراعات حتمية على مستويات متعددة سواء بين الفرد والجماعة أو تتسلل نحو مسارات نفسية وذهنية أدق وأعمق لتدور بين الفرد وذاته.. والنتيجة معلقة ورهينة بالزمن.
لم يكسب المباراة لكنه كسب ذاته وثقته فيها.. لم تكن كامل أوراق اللعبة في يده، كان الآخرون هم المسئولون، وفي يدهم السلطة للمنع أو المنح، وتحديد الفائز..
لهذا، قد نعتبر روكي بالبوا حكيما على الطريقة الشرقية، جاء من القاع، ولم يتحدَ العالم فقط، لكنه تحدى ذاته المنقوعة في عوامل الفشل..
أتى “روكي” بقيمة إضافية للحياة لكل المستضعفين غير الفوز أو الانتصار أو الحصول على شيء ما..
أن تبقى واقفا على قدميك وسط العواصف العاتية..
أن تصمد..
ألا تسقط مهما كلفك الأمر..
أن تبقى على قيد الحياة رافعا رأسك بعد الإعصار..
هذا هو انتصارك الخاص، هذا هو ما يكتسي بالمعنى في عالم له حساباته وقوانينه وأحكامه المنحازة.
أن تكتسب الثقة في ذاتك..
أنك تشبه الجبال تحت الشمس..
اليأس يدعوك للسهل والمألوف، من السهل أن تسقط، فقط استسلِم، فقد سقط غيرك كثيرون..
روكي العنيد يقوي عناده وقدرته على التحمل، تحمل الضربات والألم، فهذا هو قانون الملاكمة..
أن تعود إلى دارك وتلمس بفخر وحنان كل جراحك
أن تنظر للمرآة وتبتسم قائلا: لم أسقط اليوم!
حينئذ تعرف أنك فزت
وأنك أيضا قد أعطيت الكثير
أعطيت الأمل