رحلة يوسف شاهين مع السلطة وصولا إلى “الناس والنيل”
أثناء زيارة الرئيس السوفيتى نيكيتا خروتشوف لمصر في عام 1964، كان المخرج يوسف شاهين يستعد لتقديم فيلمه الثامن عشر تحت اسم “فجر يوم جديد” من إنتاج مارى كوينى بعدما كبد شاهين خالتها آسيا داغر خسائر فادحة فى فيلمه السابق “الناصر صلاح الدين”.
لم تكن المغامرة الإنتاجية كبيرة هذه المرة، فهو يقدم فيلما إجتماعيا بإنتاج متوسط وأبطال شباب، حيث استدعى سناء جميل من على خشبة المسرح وأعطاها فرصة البطولة بعد غياب عن السينما طال لخمسة أعوام، كما جلب سيف الدين (الذي سيتحول لاحقا إلى سيف عبد الرحمن) من الفرقة القومية للفنون الشعبية ليجعله بطلا لفيلمه الجديد، طامحا فى تكرار تجربته السابقة مع عمر الشريف، فكلاهما لم يكن يعمل بالسينما أو يجيد التمثيل، إلا أن رهان شاهين على سيف لم يفلح فهو لم يمتلك الموهبة الضرورية والقبول الجماهيري.
قضى خروتشوف أكثر من أسبوعين فى مصر، حضر بناءً على دعوة من الرئيس جمال عبد الناصر للاحتفال بافتتاح المرحلة الثانية من السد العالى وتحويل مجرى النيل، عبر رحلة بحرية استغرقت ثلاثة أيام فى الطريق من الاتحاد السوفيتى إلى الإسكندرية، حيث استقبله عبد الناصر مصطحبا عائلته، وفى اليوم التالى توجها إلى القاهرة وألقى خروتشوف خطابه الذى أثنى فيه على إنجازات السلطة فى مصر وتغلبها على التحديات والمصاعب التى تزرعها الرأسمالية العالمية فى طريقها.
كان عبد الناصر قد أفرج عن الدفعة الثالثة والأخيرة من المعتقلين الشيوعيين فى العام السابق، ولذا بدت زيارة خروتشوف لمصر مناسبة ومقبولة وقتها.
قبيل ذلك كانت “المؤسسة العامة للسينما” قد عرضت على يوسف شاهين تقديم فيلم مصري-روسي مشترك عن رحلة بناء السد العالى.
كان شاهين قد أبدى ميلا واضحا لثورة يوليو وانحيازاتها، خصوصا فى فيلميه “جميلة” و”الناصر صلاح الدين” بما فيهما من إشارات وإسقاطات سياسية واضحة.
تحمس شاهين للفكرة وذهب بمعداته إلى أسوان ووزع كاميراته فى كل نقطة ممكنة ليصور مشهد تحويل مسار النيل بعد الإتفاق مع السلطات على ضرورة تسجيل تلك اللحظة التاريخية وتوثيقها عبر لقطات يضمها شريط الفيلم المنتظر ضمن أحداثه.
ويروي شاهين أنه طلب من عبد الناصر ألا يضغط على الزر الخاص بتحويل المجرى إلا مع إشارة منه، حتى يكون كل شئ معدا لتصوير المشهد دون أن تُفلت منهم اللحظة الحاسمة، وهو ما حدث فعلا حيث استقبل الرئيس إشارة شاهين بابتسامة وضغطة على الزر.
القصة السينمائية
اقترح المسؤولون على شاهين الاستعانة بإحدى الروايات لتكون نواة الفيلم المفترض، لكنه فضل العمل مع عبد الرحمن الشرقاوى على إعداد قصة سينمائية خاصة للفيلم، وهو ما عطل المشروع لعدة سنوات، فلم يتم تصويره وإنتاجه إلا فى زمن آخر، مختلف كليا، برجال جدد وروح مختلفة، وذلك بعد نكسة 1967.
لا أعلم هل تحمست مؤسسة السينما لاستكمال تنفيذ الفيلم ضمن خطتها لرفع معنويات الشعب المهزوم بعد الحرب، أم أن التزامن كان محض مصادفة؟
على أى حال، بدأ تصوير الفيلم ليصبح أول إنتاج مشترك بين “كايرو فيلم” وشركة “موس فيلم” السوفيتيه، وطبقا للاتفاق ساهم السوفيت فى أغلب عناصر الفيلم، وبدا أن ثمة محاصصة قد تمت، مناصفة محسوبة بدقة وحساسية، على أساس التوازن في توزيع الأدوار بين الجانبيين، بغض النظر عن الكفاءة.
أصبح الفيلم جاهزا للعرض فى عام 1968، وهو العام الذي شهد أول مظاهرة معارضة منذ سنين طويلة، كان ذلك عقب ما سُمى بـ”أحكام الطيران” وهى الأحكام القضائية التى صدرت بحق قيادات القوات الجوية فى أثناء حرب 1967 ولم تكن مشددة كما كان مطلوبا.
خرجت المظاهرات من مصانع حلوان وجامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية منددة بالأحكام الهزيلة والمتهاونة التى لا ترقى لما ارتكبه المتهمون من جرم. خرج نحو ألف طالب من جامعة القاهرة نحو مجلس الأمة فى شارع القصر العينى هاتفين “غيّر غيّر يا جمال”. وعند وصولهم مجلس الأمة، أستقبل رئيسه أنور السادات ممثلين عن الطلبة ليعرضوا عليه مطالبهم وأفكارهم، تلقاها السادات ثم سألهم أن يعود كل منهم إلى منزله بعد أن وصل صوتهم إلى رأس السلطة وقمتها.
فى اليوم التالي أعلنت وزارة الداخلية عدم السماح بأى مظاهرات جديدة، وهددت بالتعامل بحزم وقوة مع أى تحرك طلابى، فما كان من الطلاب إلا الخروج مرة أخرى والضرب بتهديدات الداخلية عرض الحائط مما أسفر عن الاشتباك بينهم وبين قوات الشرطة المتمركزة أمام كليتى طب والهندسة. فى المساء اللاحق، أعلنت القيادة السياسية عن تعليق الدراسة الجامعية وإعادة محاكمة قادة الطيران، وتبع عبد الناصر القرارين ببيان 30 مارس الذي وضع خطة لحركة التغيرات التى يعتزم القيام بها.
فى ظل تلك الأجواء المشتعلة، عرض شاهين فيلمه “الناس والنيل”، والذى سُمى بـ”النيل والحياة” فى نسخته الأولى، أمام المسؤولين عن السينما فى الاتحاد السوفيتى ومصر.
لم يلق الفيلم إعجاب الطرفين، أختلفا على كل شئ إلا رفضهما للشريط السينمائى الذي شاهدوه، ليس لأسباب فنية، رغم أنه يستحق النقد الفنى، ولكن لملاحظات تعلقت بمعانٍ سياسية وحساسية مفرطة بين الطرفين، فاعترض السوفيت على أماكن التصوير فى روسيا وقالوا ان الفيلم لم يظهر جمال بلادهم وتقدمها كما ينبغى، كما تحفظ القائمون على مؤسسة السينما على ما فى الفيلم من تضخيم لدور المهندسين الروس، وأمام تلك الروح الندّية لم يتم المشروع ولم يعرض الفيلم لا في مصر ولا في الاتحاد السوفيتي.
تقوم حبكة الفيلم على استعراض تجارب ومعاناة مجموعة من الأشخاص المتجمعين حول النيل أثناء عملهم بمشروع السد العالى، عمال ومهندسين وصحفيين، سوفيت ومصريين، رجالا ونساء.
إلا أن القصص بدت سطحية ومؤلفة، بأحداث مصطنعة، الشخصيات غير حقيقية ولا تمس القلب، كما طغت على الفيلم روح تسجيلية، زادها إستعانة شاهين بفتاة تقوم بتعليق صوتى على المشاهد التى تدور باللغة الروسية.
كانت أبرز القصص هى العلاقة التى تجمع عاملين فى السد، أحدهما نوبى والآخر روسى، براق ونيكولاى. يُلمح شاهين إلى علاقة عاطفية تنشأ بين الرجلين، يبدو هذا واضحا فى نظراتهما الهائمة، والحزن الممزوج بالغضب فى لحظات الفراق، وكذلك فى مشهد سباحتهما معا فى مجرى النيل القديم قبل ردمه.
اشارات مثلية خفية
سيكرر شاهين استخدام هذه الصيغة عند عرضه لأفكاره عن حوار الحضارات، فثمة علاقة عاطفية بين رجلين من ثقافات وجنسيات مختلفة فى العديد من أفلامه، خال يحيي والجندى الأسترالى فى “إسكندرية ليه”، الجنرال كافريللى مع يحيي فى “الوداع يا بونابرت”، وكذلك العاطفة التى تنشأ بين يحيي وسائق التاكسى الإنجليزى فى “حدوته مصرية”.
يقول شاهين فى حوار أجرته معه جريدة “الحياة” عام 1999، أنه لم يقبل ملاحظات المسئولين عن نسخة “الناس والنيل” الأولى ولم يرض بها، ثم يضيف أنه انفعل وصرخ فيهم قائلا “ايه هو أنا بقال؟ ده عاوز حتة جبنه أكتر من ده”.
إلا أن شاهين أنصاع إلى طلبات الطرفين فى آخر الأمر، وأعاد صناعة الفيلم طبقا للوصفة المطلوبة، ولكن بعد سنين.
بعد استبعاد فيلم “الناس والنيل” من العرض وعدم حصوله على تصريحات الرقابة، وإلقائه فى المخازن، بدأ يوسف شاهين تصوير فيلمه الرائع “الأرض”، ومن بعده تعامل للمرة الثانية والأخيرة مع نجيب محفوظ فى “الاختيار” بعد تعاون سابق فى “الناصر صلاح الدين”، وفى هذه الأثناء عاد “الناس والنيل” للظهور فى الصورة من جديد. طالب المسئولون يوسف شاهين بإعادة تصوير الفيلم مستعينا بما صوره من مشاهد تسجيلية، وأخرى فى روسيا، بعد أن يعيد صياغة القصة لتناسب رغبة الطرفين، كما طُلب منه أن يضم سعاد حسنى لطاقم فيلمه.
كانت النسخة الأحدث جاهزة للعرض فى مطلع عام 1972، وقبيل بدء عرضه بعدة أيام ألقى السادات خطابا يوضح فيه لماذا لم يف بوعده بالحرب فى العام المنصرم، مبررا تأخر حرب التحرير بانشغال الحلفاء السوفيت فى الحرب الهندية الباكستانية.
أثار الخطاب غضب نشطاء الحركة الطلابية، حتى بدأ اعتصام فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة، قبل أن يمتد الغضب إلى الكليات والجامعات الأخرى. بعد عدة أيام من الاعتصام، توصل ممثلون عن مجلس الشعب لاتفاق مع قادة الحركة يقضى بنشر بيان الطلاب فى الصحف الرسمية مقابل فض الإعتصام، لكن السلطة لم تنفذ وعدها، لم تنشر البيان كما كان مقررا، وفضت الاعتصام ليلا بالقوة وألقت الشرطة القبض على عدد من قادته.
عندما علم زملاؤهم بما تم ليلا، اندلعت المظاهرات واتجهت فورا إلى ميدان التحرير الذي أحتله عشرون ألف متظاهرا من طلبة الجامعات، وأنضم لهم بعض المواطنين إلا أن الشرطة تعاملت معهم بعنف، وظلت حركة الكر والفر مستمرة فى الميدان ليومين كاملين.
عرض الفيلم
بدأ عرض الفيلم تزامنا مع نشاط الحركة الطلابية، وكانت النسخة الثانية قد ضخّمت أحد الخطوط الفرعية للفيلم، وهو الخط الذي يتناول حياة كبير المهندسين وابنته وعلاقاتها العاطفية، على حساب المحاور الأخرى التى ضمتها النسخة الأولى، فحُذفت العديد من المشاهد والتفاصيل، وهُمشت قصص أخرى، حتى بدت مبتورة وغير مفهومة أحيانا، وغير محسوسة دائما.
وفى إطار تطوير وتضخيم قصة كبير المهندسين، كان لابد من إعادة تصويرها بعد إضافة العديد من المشاهد، بل والأدوار أيضا، مثل شخصية دكتور أمين التى أداها عزت العلايلى ولم تكن موجودة فى النسخة الأولى، كما تم ضم محمود المليجى وسعاد حسنى فى دورى المهندس وابنته بدلا من عماد حمدي ومديحة سالم.
كان العلايلى مقربا من شاهين فى حينها، بعد أن قام ببطولة “الأرض” و”الاختيار”، كما يقول عزت أنه شارك فى إعداد سيناريو مع شاهين ومحفوظ، كما كشف عن خطتهما لتبادل المواقع فى ذلك الفيلم، كى يجلس عزت على كرسى المخرج ويقف شاهين أمام الكاميرات كبطل للفيلم، حتى أن شاهين بدأ فى الاستعداد للدور بإصلاح أسنانه المعوجة قبل أن يتراجع فى اللحظات الأخيرة. ولذا كان من المنطقى أن يسند شاهين الدور الإضافى فى فيلم “الناس والنيل” لعزت العلايلي، بطله المفضل فى تلك السنوات، قبل زمن محسن محيي الدين.
أما دور الابنة، الذي كان ثانويا فى الفيلم الأول، فقد زادت مشاهده ليصبح دور البطولة، وتم إسناده لسعاد حسنى استجابة لرغبة شركة الإنتاج، كما أن زوجها فى ذلك الحين، على بدرخان، انضم أيضا إلى طاقم الفيلم كمساعد مخرج، مثلما ساعد شاهين من قبل وفى حضور سعاد أيضا فى فيلم “الاختيار”.
ضاع الشريط الأول من الفيلم ولم يشاهده أحد لمدة ثلاثين عاما، إلى أن عُثر على نسخة منه فى السينماتك الفرنسى فى نهاية التسعينيات وتم إعدادها للعرض فى السينمات الفرنسية، ورغم أن الفيلم بنسختيه مصطنع وملفق، إلا أن شاهين أعرب عن حبه لتلك النسخة الأولى من الفيلم، بينما تبرأ من النسخة الرسمية، نسخة سعاد حسني، قائلا “أنا ماليش دعوة بالفيلم ده وبأنكره تماما.” بالفعل كانت النسخة الثانية نسخة باهتة وأكثر تفككا وضعفا من القصة الملفقة نفسها.
إلا أن تبرءه لا ينفى حقيقة أن شاهين وافق على إعادة إخراج الفيلم طبقا للتعليمات المطلوبة والقيام بدور (البقال) على حد وصفه. يبرر شاهين موقفه بأنه أراد فتح سوق عرض للفيلم المصرى فى الاتحاد السوفيتى وأنه لم يستطع أن يمتنع عن إخراج فيلم سيعرض فى ألاف دور العرض السوفيتية.
ربما نضع هذا الموقف فى سياق هوس شاهين بالوصول إلى العالمية ومطاردته لها أو مطاردتها له. فبعد سنوات قليلة سيرفض شاهين الانسحاب من مهرجان برلين بعدما انسحب العديد من المخرجين وممثلى دول المعسكر الشرقى من المهرجان اعتراضا على عرض الفيلم الأمريكى “صائد الغزلان” المتهم بإهانة الفيتناميين، سيصر شاهين على المشاركة واقتناص فرصته، ففى غياب دول المعسكر الشرقى سيكون توجيه التحية للشرقى الباقى فى المهرجان بمثابة مجاملة مضمونة. ربما كان “إسكندرية ليه” يستحق التقدير فعلا إلا أن هوس شاهين بالعالمية سحق أفكاره (التى لها أجنحة) فاستسلم ورضخ لشهوة الجوائز وحصد بالفعل الدب الفضى من برلين، ثم أرّخ للجائزة والرحلة عبر فيلمه “إسكندرية كمان وكمان”.
موضوع النوبيين
يظل أبرز ما فى “الناس والنيل” هو الإشارة إلى تهجير النوبيين، ومعاناتهم فى أثناء نقلهم إلى كوم أمبو. يقدم شاهين فى الفيلم رؤية متعاطفة مع مشاعر النوبيين وهم يتركون بيوتهم ومقابر موتاهم وأراضى أجدادهم إلى مكان مجهول لهم وخال من الخدمات، بينما لا يبالي أحد بهمومهم وتعدهم الحكومة بوعود براقة دون تنفيذ.
للوهلة الأولى قد تظن أنه من الغريب أن تلك المشاهد لم تحذف فى النسخة الأخيرة، إلا أننا بالنظر لتاريخ تقديم الفيلم، 1972، قد نتفهم الأمر، فرغم أن موسم الهجوم على عبد الناصر الذى شجعه السادات وتبناه لم يكن قد بدأ بعد، إلا أن الدفاع عن سياسات الراحل لم تكن ضمن اهتمامات السادات ورجاله، خصوصا بعد أقل من عام من الإطاحة بما سمى بمراكز القوى.
لم يستطع “الناس والنيل”، فى نسختيه، تقديم ما وعد به من استعراض لأحوال الناس فى تلك الحقبة لما شابه من اصطناع وتكلف، إلا أن رحلة إعداده وعرضه بدت لى أكثر تعبيرا عن أحوال الناس والسلطة على ضفاف النيل.
* قاص وروائي وكاتب من مصر