“جنة الشياطين”.. الميت خفيف الظل بطلا للفيلم

تبقى تجربة فيلم “جنة الشياطين” -1999- تجربة متميزة شديدة التفرد، وتظل محتفظة بحيويتها وغرابتها وقدرتها على الإدهاش، على المستويين المصري/ العربي، والعالمي، وجزء من الدليل أننا نستعيده بالمشاهدة والكتابة والطرح والتحليل رغم مرور 26 عاما من عرضه الأول.

تجربة الفيلم لا تقف عند تميزها، وتتعداها لتكون تجربة “مجنونة”، بل شديدة الجنون من الممثل محمود حميدة منتجا وممثلا – رغم أنفه ولإنقاذ الموقف- فإذا كان قد اختار كمنتج إنتاج الفيلم عن قناعة، ولم يكن يفكر في التمثيل فيه، لذلك عرض دور “طبل” الذي يظهر ميتاً طوال الفيلم- على أحد كبار النجوم- لم يصرح باسمه- لكنه لم يكلّف نفسه بمجرد الرد، ليكمل حميدة التحدي ويتصدى لأداء الدور بنفسه.

ربما كان النجم الذي لم يرد على محمود حميدة معه كثير من الحق- لا بعضه- بالمنطق العام، فكيف يمكن لممثل نجم أن يؤدي دور ميت طوال الفيلم، فعلى الأقل -في الثقافة الشعبية- هو فأل سئ. ومع احترامنا لهذه الثقافة، فإن الممثل الذي تهرب من مجرد الرد، لم يستطع طبعا تقدير فكرة الفيلم والدور وما يحملانه من بعد فلسفي، والناس ليسوا متساوين في فهم الحياة وفلسفة الموت والميتافيزيقا.. مع إشارة ضرورية لاهتمام حميدة بالفلسفة والتاريخ والأدب العالمي، التي قادته لرواية البرازيلي خورخي أمادو التي تمت ترجمتها عدة مرات للعربية تحت عنوانبن “ميتتان لرجل واحد” و”الرجل الذي مات مرتين”، والأخيرة هي التي استند الفيلم إليها.. كما أن المخرج البرازيلي سيرجيو ماسادو قدمها في فيلم بعنوان “الذي يصرخ من الماء” في 2010.

يتناول الفيلم حكاية “طبل”، البوهيمي الذي يموت في حانة، ويعتقد أصدقاؤه أنه يمازحهم، أو أنه ثمل، ولا يعترفون بموته، فكيف يموت وهو الركن الأساسي في حياتهم البوهيمية، فيعاملونه وكأنه حي، ويصحبونه للمنزل، ويسقونه مزيدا من الخمر.. كل ذلك ولا تبدو من “طبل” سوى ابتسامة ساخرة، كأنها تختصر الحياة والتعليق على كل ما يدور حوله.

 يتضح بعد موت طبل أنه من عائلة محترمة، وكان مثاليا في عمله وبيته، ليتم نقل جثمانه إلى بيته وأسرته، لتبدأ ابنته سلوى (كارولين خليل) الإعداد للجنازة، لنبدأ في اكتشاف مقارنات تفرض نفسها، فـ”طبل” هو اسم مستعار إختاره منير رسمي” عندما تمرد على حياته وطبقته الاجتماعية وانفصل عن أسرته واتجه لحياة البوهيمية..

ويستعرض الفيلم باختزال غير مخل مظاهر الزيف في أسرة “منير”، فالجنازة لا تمثل لها سوى الحفاظ على بريستيج العائلة، وعند زيارة “حُبّة” لبلبة- لأسرة “طبل” لإبلاغها بخبر الوفاة، تسأل نفسها عندما ترى صورة زوجة طبل (منحة البطراوي) كيف استطاع طبل الحياة مع هذه المرأة، وفي المقابل نرى صدق وبساطة الحياة البوهيمية والمنتمين لها، وإن كانت الحياة عندهم لا تعني سوى اللحظة، ولا أهمية إلا لكيفية قضائها والاستمتاع بها.

هناك أفكار متقاطعة تدور في ذهن “سلوى”، فرغم تمسكها بالشكليات تكشف عن اقتناعها ببعض أفكار والدها، من وجود زيف في الأسرة -أو المجتمع- وأن “طبل / “منير رسمي كان أبا مثاليا لها، وتواجه أمها بأنه -أيضا- كان زوجا مثاليا، وبالتالي فإن عليها -الأم- تناسي سنواته البوهيمية، باعتبارها نزوة، وإن كانت -سلوى- تراها نزوة راهب أو قديس، لتواجه اتهاما طبيعيا من الأسرة بأنها مجنونة كأبيها، ورغم رفضها اسم “طبل” فإنها تردده مع نفسها بسعادة..

وحين تكتشف الأسرة سرقة أصدقاء طبل للجثمان ترفض إبلاغ الشرطة، وتسأل: هل نبلغهم أن والدها خرج مع أصدقائه؟ ثم تواجه العائلة بأنهم فعلوا ما يجب عليهم لإعداد الجنازة، لكنه اختار أصدقاءه.. وتبدو مقتنعة أن جثة والدها لن تعود إليهم -مما يشير إلى تفهم طبيعة هؤلاء البوهيميين- فتطلب بيع الصندوق، ثم تخطر في بالها فكرة الإبقاء على الصندوق لاستخدامه عند موت أحد أفراد العائلة، وتعبيرا عن تشاؤم العائلة من الفكرة، يفترض أحدهم أنها هي -سلوى- التي قد تموت وتستخدم الصندوق، فترد بفكرة قد تكون طوباوية بأنها لا تعتقد أنها ستموت في صندوق.

يتضمن الفيلم بعض رموز تستوجب التوقف عندها لفك شفراتها، أولها اختيار اسم “طبل” وهو اختيار موفق، لأنه يحمل روحا شعبية، وما للطبل من دوي يصل للأسماع عبر مسافات شاسعة، وأن الطبل -وهو آلة إيقاعية وترتبط لدى الفئات الشعبية بالرقص- فهو يمكن أن يشكل إيقاعا للحياة.. ومن رموزالفيل  الضفدع الذي أهداه أصدقاء “طبل” له عند زيارته، والضفدع تميمة للتفاؤل بالثروة والغنى، وكذلك رمز السيارة التي تبدو خردة تسير على إطارات، وأبوابها التي لا تصلح لتكون أبوابا، فيضطرون لخلعها ورميها في الصندوق الخلفي، وفي المشهد قبل الأخير لا يتمكن الأصدقاء الثلاثة من فتحها إلا بمشقة بالغة ومجهود كبير وهم محبوسون داخل السيارة لفترة طويلة، مما يؤكد على بوهيمية الحياة عندهم وقضاء اللحظة كيفما تكون، لتتكرر الأعطال والمشاكل دون محاولة لإصلاح حقيقي. 

الفكرة سريالية، قدمها الفيلم بشكل فنتازي، فالأصدقاء الثلاثة لا يثقون بفكرة موت صديقهم “طبل”، فقد تعودوا منه المزاح -وإن كان صعبا هذه المرة-، وعلى قناعة بأنه يمكنه فعل أي شئ رغم موته، فهم يسألونه عمن يختاره من بينهم ليكون صديقا لـ “حُبّة” بعد وفاته، ويشاركونه اللعب والشراب، ويشكّون بأن “طبل” دبّر فكرة الموت لكي يعود إلى أسرته.

كذلك تثق “سلوى” في قدرات أبيها رغم وفاته، وفي مشهد اجتماع العائلة بعد دخول أصدقائه لإلقاء نظرة الوداع عليه، وحين يرتفع صوت الضحك داخل الغرفة، تقول شقيقة منير/ طبل إنه يضحك بعد مجئ أصدقائه.

مجتمع بوهيمي متكامل عاش فيه طبل عشر سنوات من عمره، مع شخصيات عديدة بينهم أصدقاؤه الثلاثة -من الشباب- إضافة لاثنتين من الداعرات هما “حُبّة” -لبلبة، و”شوقية” -صفوة- وتمارسان الدعارة مع مجموعة أخرى من الزميلات- تم ذكر اسمائهن فقط- وقد أعلنّ الحداد أسبوعا لموت “طبل”، لكن الشبق يغلب “حبة” و”شوقية” فتعودان سريعا للعمل، حبا للأموال كما تقول حبة، ثم ممارسة الجنس للجنس في السيارة مع الأصدقاء الشباب، وبينهم “طبل” المبتسم سخرية في موته.

رغم أن الشخصية الأبرز في “جنة الشياطين” هي شخصية “طبل” التي أداها محمود حميدة، فإن جميع الممثلين كانوا على مستوى ممتاز، من ناحية فهم الأدوار وحدود الحركة والقدرة على الأداء، سواء في الأجوار الطويلة أو القصيرة.

وقدمت “لبلبة” دورا بديعا، قدمت فيه مشهدا من الصمت البليغ عندما أبلغتها “شوقية” -صفوة- خبر موت “طبل”، استمر المشهد دقيقتين و18 تانية في إبداع تمثيلي لا يمكن نسيانه.. ويتضمن نفس المشهد مونولوج لـ “صفوة” غاية في الإبداع في تقطيع الجمل والنطق بها والتعبير عن مشاعرها عند رؤية “طبل” والتأكد من موته، وكيف شعرت بالخجل منه وقتها.

ومن المشاهد المركبة مشهد “سلوى” مع جثمان أبيها حين رأته للمرة الأولى، وجعلتها ابتسامته تغرق في الضحك، أو ضحك على ما ألحقه بالأسرة من سخرية، ثم حين تجلس على مقعد يتحطم تحتها تنهمر في البكاء، ليس من ألم السقوط، ولكن من فقد أب كانت تعتقد بشكل أو آخر بصحة وجهة نظره في الحياة.

إحدى نقاط أهمية الفيلم تقديمه ثلاثة وجوه جديدة هم عمرو واكد وعادل سري النجار ”صلاح فهم،  ورغم نجومية عمرو واكد فيما بعد، إلا أن اختفاء زميليه من الساحة الفنية يثير الأسف، والأمر يشمل الفنانة كارول خليل التي لم يستثمر أحد موهبتها ورقي أدائها، ولا شك أن لظاهرة” حرق النجوم” التي اجتاحت الدراما المصرية دخلا بذلك.

يقدم الفيلم معالجة فنتازية، تجنح بطبيعتها للخيال، لفكرة سريالية، وهو ما خفف من حدة الموت وجعل من “طبل” ميتا خفيف الظل، وفي هذا الإطار يقوم المخرج بتحريك بسيط لـ”طبل” الميت، منها تحريك إصبع القدم، وإخراج اللسان، وبصق الخمر من فمه في وجه صديقه، ثم تغير حجم الابتسامة، وسماعه يصدر صفيرا بفمه وكلها تصب في تأكيد الشعور بقدرة “طبل” على فعل ما يشاء، وسماع ضحكاته في المنزل عند زيارة أصدقائه، لكن في نهاية الفيلم يمنطق المخرج الفيلم، فيبدو الكادر مقلوبا في النفق، وفي نهاية النفق بقعة سوداء بالانتظار، بما يعني النهاية الحتمية للسيارة ومن فيها والموضوع كله.. وربما لو استغنى المخرج عن هذا المشهد وجعل ضحكة طبل مع موسيقي فتحي سلامة هي المشهد الختامي لكان الفيلم أكثر اتساقا، فليس من المعقول محاكمة الخيالي/ غير المنطقي بالمنطق.

لكن لا شك أن الفيلم واحد من أفضل ما قدمت السينما المصرية في تاريخها، من حيث الموضوع والمعالجة، والصورة باقتصار شديد ودون ثرثرة في سيناريو “مصطفى ذكري”، أو اللقطة بإشراف “طارق التلمساني” مديرا للتصوير، والمونتير “خالد مرعي”، ورؤية واعية للمخرج الراحل أسامة فوزي.