“جاءت إلي” فيلم الافتتاح في مهرجان برلين السينمائي
أمير العمري- برلين
يمكن جدا أن يفتتح أي مهرجان بفيلم كوميدي خفيف. لا بأس. فلا يجب أن تكون كل الأفلام من نوعية واحدة، أو ذات طبيعة واحدة، جادة. لكن يجب أن يتمتع أي فيلم، افتتاح أو غيره- بالمصداقية والبراعة في عرض موضوعه وشخصياته بحيث يمكن أن يدفع من يشاهده إلى بعض التفكير، وتأمل الرؤية، مهما كانت بسيطة وعفوية.
أما فيلم افتتاح الدورة الـ73 من مهرجان برلين السينمائي، وهو الفيلم الأمريكي من الإنتاج المستقل “جاءت إلي” She Came to Me للمخرجة ربيكا ميللر، فلا يتمتع في الحقيقة، لا بالمصداقية ولا بالقدرة على توليد الضحك وتقديم عرض ناجح للتسلية.
جزء من مشكلة النقد الصحفي في الغرب أنه يبحث دائما بأي طريقة، عن الجوانب الإيجابية التي تخدم الصناعة في أي عمل مهما كان متهافتا، وهو اتجاه لم يكن موجودا قبل 20 عاما، عندما كان هناك نقاد من الوزن الثقيل يكتبون لتلك الصحف. ولكن اليوم، أصبحت السطحية ميزة، وثقل الظل، براعة، والافتعال الممجوج، مبررا. وكل هذا ممكن طالما أنه يتسق مع ما يسمى “الصوابية السياسية” political correctness.
وفيلم “جاءت إلي” أو “هي التي جاءت إلي”- إن أحببت، فيلم من هذا النوع “المديوكر” أو ما هو أدنى من المديوكر (أي الذي لا طعم له ولا لون) لكنه سيجد كالعادة بعض التقدير والبحث عن أي ميزة من جانب نقاد الصحافة الغربية الشائعة ومن يقلدونهم، صحافة الصناعة إن جاز التعبير، أي المجلات التي تخدم صناعة السينما وتروج لها، وتتجنب النقد الجمالي الذي لا يقيم أي اعتبار للصوابية السياسية أو غيرها من الحسابات التي تقع خارج جماليات السينما.
هذا أولا فيلم من إخراج امرأة (وهذه الحقيقة أصبحت الآن ميزة في حد ذاتها بعد انتشار وباء الـ 50-50، أي تخصيص نسبة 50 في المائة من أفلام أي مهرجان للمخرجات، وثانيا: في الفيلم علاقات مستحيلة ولكن يجب أن نتقبلها ونقنع بها وإلا كنا من المتعصبين المعادين للجندرية وغير ذلك من الهراءات. العلاقة الأولى بين قزم يدعى “ستيفن” (يقوم بدوره الممثل القزم بالفعل- بيتر دينكلاج” ولا عيب في استخدام الوصف الوحيد الحقيقي للقزم في اللغة العربية لكنك لو فعلت ذلك في اللغات الأوروبية لربما وجدت نفسه متهما بالتحقير والاهانة!!).. المهم أن هذا الممثل يقوم بدور موسيقار مرموق يؤلف الأوبرات (في أمريكا التي لا تعرف أصلا فن الاوبرا لكن لا بأس!). وهو يقيم في نيويورك مع زوجته. ومن هي؟ إنها بالطبع ليست أقل من الممثلة الفاتنة آن هاثاواي التي يبلغ طولها ضعف طوله، كما أنها تبدو أقرب إلى عارضة أزياء، تتفاخر بقوامها الممشوق، ولكنها تقوم هنا بدور “باتريشيا” الطبية النفسانية التي تستقبل المرضى في منزلها، ولكنها تعاني هي نفسها من أزمة نفسية أو هاجس يسيطر عليها من طفولتها، فقد كانت ومازالت، تريد أن تصبح راهبة. والفكرة تسيطر عليها وقد تفعلها بالفعل قرب النهاية.. وربما لذلك نحن لا نشاهد أي مشهد عاطفي بين هذه الفاتنة المثيرة، والأخ الموسيقار القزم ذي السحنة الكئيبة المخيفة واللحية الكثة الشيطانية.
لكن دعك من كل هذا. الاثنان يتبنيان منذ مدة طويلة، ولدا يدعى “جوليان” (أسمر البشرة، يبدو من أصل موريتاني وإن كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة ب اللهجة الأمريكية). لكن هذا الشاب (21 عاما) أقام علاقة عاطفية (وجنسية) مع فتاة في السابعة عشرة هي “تيريزا” (هارلو جين)، وهي من النوع الذي يعرف بالشقراء البلوتنيك.. بيضاء بلون الثلج، فلابد أن تكون نقيضه تماما له، وتيريزا هذه ابنة امرأة من أصل روسي تدعى “ماجدالينا” (تقوم بدورها النمطي بكل أسف الممثلة البولندية جوانا كولنج التي بهرنا أداؤها في الفيلم البولندي “الحرب الباردة” قبل سنوات).
السلسلة لم تنتهي بعد، فماجدالينا عاملة نظافة تعمل في منزل “باتريشيا”، ولكن جوليان ابن باتريشيا وزوجها بالتبني، لا يعرف هذه الحقيقة، ولا تعرفها باتريشيا وزوجها. وماجدالينا متزوجة من رجل يدعى “تري”، يعمل صحفي متخصص في شؤون القضاء، وهو رجل متزمت جدا وعنصري، يرفض أن تكون ابنة زوجته وابنته بالتبني أي تيريزا، على علاقة بشاب من عرق آخر، لكن الفرصة تلوح له عندما يعرف أنها تنام معه وهي تحت السن القانوني، فيسعى للإبلاغ عنه بتهمة الاعتداء الجنسي على قاصر. لكن زوجته ترفض ذلك، وتتفق مع باتريشيا وزوجها على حيلة تكفل لها الخلاص من هذه الورطة بتزويج جوليان وتيريزا (حسن الإمام كان سيشهق استغرابا من الفكرة).. لكن المشكلة الأكبر التي تستغرق الوقت الأطول من الفيلم هي أن القزم العبقري، الموسيقار ستيفن، مصاب للمرة الثانية بالعجز الإبداعي (البلوك) لذا فهو عاجز عن استكمال الأوبرا التي شرع في كتابتها ولم يكملها، وعندما يذهب الى البار لاحتساء الويسكي، يقابل هناك امرأة غريبة الأطوار تدعى “كاترينا” يعرف منها أنها قبطانة، تقود زورقا بخاريا، تستدرجه لكي يتفرج على زورقها، ثم تغويه بممارسة الجنس معها، ومن تلك اللحظة تقع في هواه وتطارده طلبا للمزيد من الجنس فهي مصابة بإدمان جنسي (يسمونه إدمانا عاطفيا تهذبا!!) والواضح أنه كان جبارا في مضاجعتها أيضا (يضع سره في أضعف خلقه!!)، لكن ستيفن يرفض مجاراتها، فهو يشعر بالذنب لخيانته زوجته الجميلة، التي ستذهب اليها كاترينا تطلب العلاج النفسي وتعترف لها بما وقع، فيصبح زواجها من ستيفن عرض للانهيار..
هذه العلاقة الجنسية السريعة ستجعل عقدة ستيفن تنفك، ومن ثم يعود الى ابداعه ويؤلف أوبرا تروي قصة كاترينا الشبقة جنسيا بعد أن يجعلها لا تكتفي بالجنس بل تقتل الرجال الذين تضاجعهم ثم تأكل جثثهم أيضا (ويا لها من فكرة طريفة للإبداع الأوبروي الأمريكي!!).
جميع شخصيات الفيلم كما نرى، مريضة على نحو أو آخر، تبحث عن التوازن الذي لا يتحقق سوى بالجنس أو بالهرب من الجنس. وطبعا لا فائدة من استكمال حكاية الفيلم وكيف ستنتهي هذه الميلودراما السخيفة التي يفترض أنها ستجعلنا نضحك ونتسلى بالمآزق التي يقع فيها مختلف الشخصيات. لكن المشكلة الأكبر في هذا السيناريو الهزيل، أن لا شيء يمكنه أن يقنعك على أي مستوى من الجدية، بأن ما تشاهده، قابل للحدوث، فالسيناريو يقوم على فكرة “التركيبة” التي تربط بين شخصيات متباينة ومختلفة، سطحية الى حد مزعج، في سياق يمتليء بالمصادفات والأقدار والعقد النفسية وكأن المجتمع الأمريكي بأسره، قد أصبح مجتمعا من المرضى والمتخلفين عقليا.