بيتر غريناواي: عبقري الرسم بالضوء
بقلم: أدريان بنينجتون
ترجمة: رشا كمال
ينبغى أن تتطور السينما وتتجاوز حدود فن الحكي، في حديثه مع منصة آي. بي. سي 365، يلقي المخرج المتمرد بيترغريناواي نظرة ناقدة على هوليوود.
لا يفضل غريناواي تصنيفه كما تصنف مواضيع أفلامه مثل فيلم “الغرق بالأرقام”، Drowning by numbers، حرف زد وصفرين (حديقة الحيوانات) A Zed & two noughts) فهو يعد من أعلام سينما الفن البريطانية في حقبة الثمانينات. ولهذا يفضل أن يعرف من خلال تطوره الإبداعي المثابر كرسام، ومخرج، ومؤرخ فني، ومنظر، وفنان تركيبات فنية مرئية، أو حتى كشخصية إعلامية. وفوق كل هذه المسميات يستمتع غريناواي بكونه فنانا استفزازيا.
إن نزعات المخرج المناهضة لهوليوود تصلح موضوعا للجدال. فهجومه الأساسي يتمثل في اعتماد كلا من السينما والتلفزيون على الوسيط النصي، أي الكلمة بدلاً من صياغة لغة بصرية أصيلة قائمة بذاتها.
ومطالبته بطرد جميع المؤلفين السينمائيين- أو “قتلهم” كما صرح في أحد حواراته- ما هي سوى حجة اختزالية مزعجة، لاعتقاده أن السينما قد باعت نفسها بثمن رخيص عندما سمحت بمد جذورها في السرد القصصي.
لم يعترض غريناواي عندما وجه إليه اعتراضاً بأن نفوره من السينما ينبع من حبه الدفين لقدراتها وإمكانياتها وقال: “إن هذا وصف دقيق لشعوري تجاه السينما بعد تجربتي وتلاعبي بها طوال أربعين عاماً”.
ومضى يؤكد: رغم جميع الشواهد، إلا أن السينما ليست وسيطا مرئيا خالصا فحسب، بل وأدبي أيضاً. ومن الواضح أن أحدا لم يعد يقدر أن يقدم أي فيلم دون الاستعانة بنص مكتوب، فمعظم الأفلام ما هي إلا نصوص مضيئة، وأكاد أجزم بأننا لم نشاهد حتى الأن قطعة سينمائية خالصة تستحق هذه التسمية”.
سئم غريناواي ابن السبعة والسبعين عاماً، إمكانية أن تحقق السينما أي تقدم ملحوظ كوسيط للتعبير الإنساني، فالسينما في رأيه ظلت تدور داخل نفس الدوائر طوال تاريخها القصير.
وكما صرح: فإن “لدينا ثمانية ألف عام من رصيد الشعر الغنائي، وخمسة آلاف عام من المسرح، وأربعمائة عامٍ من فن الرواية، فالكلمة تغلغلت وتلونت بجميع الألوان. ربما أظلم السينما بعض الشئ، فهي لا تزال طفلة تخطو خطواتها الأولى مقارنة بتاريخ الفنون الاخرى، ولكن هل نحن حقاً بحاجة لاقتباسات مختلفة من روايات جين أوستن؟”.
البنية الفيلمية التقليدية
وقبل زمن طويل من تصريحات كل من مارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا التي تعكس استياءهم من أفلام عالم مارفل السينمائي، كان غريناواي قد وصف سلسلة أفلام (هاري بوتر Harry Potter وسيد الخواتم The lord of the rings) بالممارسات الساخرة لجمع الأموال. وهو يرى أن المقارنة بين ما قاله وما قالاه هي مقارنة سطحية. بل ويلقى اللوم على هاتين الأسطورتين السينمائيتين، باعتبارهما جزءا من المشكلة.
يقول غريناواي” “إن سكورسيزي يصنع أفلاماً كالتي أخرجها ديفيد وورك غريفيث عام 1910، فأفلامه مبنية ومنظمة ومقدمة بنفس الأسلوب الشكلي التقليدي”.
وعند سؤاله عما إذا كان هناك أي فيلم شاهده وحرك مشاعره، تجاهل السؤال. فالأمر سيان بالنسبة إليه، مادام ينبغي أن تخرج السينما من دائرتها الشكلية والقصصية المعتادة، حتى ولو كان الفيلم (كازابلانكا، أو سفر الرؤية الآن).
وهو يعلل صحة رأيه مستعيناً بالكتاب المقدس قائلاً: “في سفر التكوين، جاء “في البدء كانت الكلمة”. وهذا ليس صحيحا، فالبداية كانت الصورة، فكيف يمكن للخالق أن يخلق شيئاً دون أن يتصوره أولاً!
واستكمل حديثه: “إذا كنت تعتقد أن السينما ولدت في عام 1895 (عند قيام الأخوين لوميير بعرض السينماتوغراف)، فيجب أن تعلم أنه في نفس السنة، كان هناك على قيد الحياة، كل من هـ ج ويلز الروائي الإنجليزي، ويوهان ستراوس الموسيقار النمساوي، وفان جوخ، الرسام الهولندي. وعلى الرغم من التغيرات الجذرية التي طرأت على الأدب (ما بعد بورخيس)، الموسيقى (ما بعد شتوكهاوزن)، الرسم (ما بعد الانطباعية)، لم تتغير السينما على الاطلاق.
ويواصل بإصرار “إن جميع الفنون الأخرى تبادلت وتقايضت مع أسلافها، ولكن السينما ماضية بكل عزم في السرد القصصي، مع قلة قليلة من المخرجين لديهم حس عميق بالبلاغة البصرية”.
وعندما خالفته الرأي بأن اللغة السينمائية قد تطورت أبعد مما يعتقد، وأن هناك مصورين يختبرون حدود العمل بالضوء واللون والأسلوب. طلب مني المخرج ذكر بعض الأسماء، فاقترحت أسماء مصورين مثل فيتوريو ستورارو (وفيلمه “المتماثل” لبرتولتشي) وروجر ديكنز (وفيلمه “لا بلد للعجائز”).
فأجاب “لقد استخدمت السينما الضوء منذ البداية، وقد استخدمه شارلي تشابلن في أفلامه. ولا أحد يرجع إليه الفضل في كون السينما شكلا من أشكال الإدراك المرئي. ولطالما اعجبتني أعمال روجر ديكنز- وتصويره السينمائي لفيلم “بلايد رانر” 2049 وأنا أكن له اعجاباً واحتراماً- ولكني لا اعتبره فيلماً، فديكنز مثل غيره، يعمل وفقا لسيناريو مكتوب”.
ويكن غريناواي مكانة خاصة للمخرج السينمائي الروسي أيزنشتاين، ويقدر إسهاماته الرائدة في مجال المونتاج السينمائي، كما يشعر باحترام كبير لفيلم “العام الماضي في مارينباد” (1961) The Last Year at Marienbad للمخرج الفرنسي آلان رينيه، الذي يعتبر أقرب ما يكون إلى تجارب غريناواي نفسه في الأسلوب والبنية السردية الغير خطية.
وعن إيزنشتاين يقول” إن ايزنشتاين كان شعاع ضوء، وهو واحد من قلة من المخرجين ممن لديهم حس سينمائي خالص”. وقد أخرج غريناواي فيلم سيرة حياتية عن المخرج الروسي الكبير بعنوان “إيزنشتاين في خوانخواتو” Eisenstein in Guanajuato عام 2015).
ولم تسلم الأفلام الوثائقية أو النزوع إلى الواقعية من انتقاده.
“ما العيب في اختبار وتجربة العالم على ما هو عليه بدلاً من محاولة تغييره في مسار الزمن؟ هل يجب أن تتناول جميع الأشكال والأعمال الفنية الواقع بينما مخيلة الإنسان مغارة كنوز دفينة؟
ومضى قائلاً: “أنا لست ضد الأدب أو السرد”. فروايته المفضلة هي “جسر سان لويس ري” للروائي الأمريكي ثورنتون وايلدر” “كل ما هنالك أنني لا أراها تنتمي لعالم السينما”.
وقد انعكس افتتانه بالشكل على حساب المحتوى النصي، في استخدامه لفن الخط موضوعاً اساسياً لفيلمه “كتاب الوسادة” The Pillow Book الذي أخرجه عام 1996.
ويتباهى غريناواي بفن الرسم ويعتبره من أرفع الأشكال الفنية الغير سردية- ولو أن السينما بمقدورها أن تسمو فوقه وتتجاوزه بمراحل.
غريناواي مؤرشفاً
“أعتقد أن الأمر قد بدأ معي منذ زمن، أثناء فترة المراهقة عندما بدأت أدراك سمة زوال الأشياء، فلا يوجد شئ في خلفيتي أو خلفية عائلتي يتعلق بالرسم، لكن خطر على بالي أن الرسم ما هو إلا محاولة لتحويل الزائل إلى سرمدي، كسعي نحو الحفظ، يمكنك وصفي بأني مؤرشف”.
بعد ارتياده لمدرسة الفن في لندن حاول التربح من عمله كرسام ولكنه لم يفلح، فحول الدفة تجاه الصور المتحركة.
“بدأت كتابة المقالات أثناء عملي كصحفي عن العلاقة بين تاريخ الرسم ذو الأربعمائة وخمسين ألف عاماً وبين تاريخ السينما البالغ مائة وعشرين عاما، استنتجت من خلال تلك المقالات، أن السينما بحاجة ماسة للتجريب وإعادة التفكير الجوهري في نظرياتها وممارساتها”.
وكانت تلك هي المهمة التي حملها غريناواي على عاتقه طوال مشواره الفني الطويل.
معلقاً على هذا الأمر”أحاول خلق سينما حاضرة في اللحظة الآنية، متعددة الشاشات، غير سردية. يصعب على الناس تخيل هذا الأمر. فربما يكون سقف تطلعاتي مرتفعا بعض الشيء”.
قدم غريناواي في أشهر أفلامه خطوطا حكائية بسيطة لجمهوره كما فعل في أفلام:
“عقد الرسام” The Draughtman’s Contract، “بطن المعماري” The Belly of an Architect، “الطاهي واللص، زوجته وعشيقها” The Cook, The Thief, His Wife and Her Lover).
ولكن المذهل حقا هو التنظيم العلمي المنمق لهذه الأفلام، فهو يستخدم التصنيفات، الخرائط، الشبكات، الأعداد، والرسوم البيانية، الرموز، الاستشهادات، والشفرات لكسر ما وصفه بالقواعد الشكلية للسينما.
ورغم الشهرة التي حازت عليها أفلامه لقدراتها المرئية، كانت موضع سخرية لكونها صاخبة، ولتركيزها المبتذل على موضوعي الجنس والموت، ومبالغتها في الشكلانية، وبرودها وخلوها من الطبيعة الإنسانية.
ولكن هذا الانتقاد يتجاهل نقده الساخر لسياسات حقبة مرجريت ثاتشر في فيلمه “الطاهي واللص..”، أو طرافة العرض في فيلم “عقد الرسام”.
وهناك عناصر سينمائية يقدرها غريناواي حق قدرها وهي استخدام الصوت والصمت، وتجربة الألوان والأداء، وتصاميم معينة للرقصات، خصوصاً إذا تضافرت وتواصلت وتعارضت كل هذه العناصر فيما بينها.
وفي الفترة الأخيرة تبنى التقنيات التكنولوجية في عمله كوسيلة لكسر الإطار المسرحي الثابت.
وهو يقول في ذلك: “يجب على صناعة الأفلام أن تستقر على استخدام معدل تصوير بسرعة 60 اطارا في الثانية لتفوقه على المعدل القياسي الذي يقتصر على 24 اطارا في الثانية.
معللاً ذلك: “لأن السينما فن آلي، والتقنيات المسرحية تتغير باستمرار، كما يفعل المخرج جيمس كاميرون في استخدامه للتقنيات ثلاثية الأبعاد في أحدث أفلامه. وقد استمتعت انا ايضاً بتجربة التقنيات الرقمية المختلفة، ولكنها لا تزال مجرد ظواهر انعكاسية، ولم تحدث أي تغيير جذري في بناء التركيب اللغوي للسينما، لأن استخدامها كان من أجل الترفيه والتربح”.
فن الوسائط المتعددة
كان عمله الأول في فن الوسائط المتعددة عام 2003 بعنوان “حقائب تولس لوبر”، والذي قدمه عبر ثلاثة افلام، وموقع على شبكة الانترنت، وكتابين، وأقراص مدمجة ومعرض متجول.
وأثمرت شراكته مع زوجته الفنانة الهولندية ساسكيا بوديك، العديد من عروض الأوبرا والمسرح الموسيقى من خلال تأليفه النص الأوبرالي لها. وآخر عرض مشترك لهما كان Artuum Mobile وتضمن منحوتاته ورسوماته المختلفة.
وقال عن ذلك: “لم أتوقف عن الرسم أو الفنون التركيبية، فمازلت أخرج افلاما والهو بالأمور المتعلقة بالمتاحف وأدوات المعارض وأعمال إعادة النسخ”.
وقد عبر المخرج مؤخرا عن رغبته في الخضوع للموت الرحيم عند بلوغه الثمانين عاما أي بعد ثلاثة أعوام وهذا أحد أسباب إقامته في امستردام.
وعن هذا الأمر قال: “كان هذا موضع جدل، ولكن هل تستطيع ان تخبرني عن أحد قد تجاوز السبعين وله انجازات تذكر؟، إن داروين وأينشتاين وبيكاسو قدموا أفضل ما لديهم وهم على مشارف الخمسين من العمر، وبعد هذا السن نضيع في غياهب النسيان او نكرر ما فعلناه من قبل، فأفضل أفكاري كانت منذ ثلاثين أو أربعين عاما مضت وما زلت أكرر نفسي حتى الأن”.
وألمح بقسوة قائلا “إن كبار السن يتجاوزون الثمانين بدافع أناني هو عدم قدرتهم على المشاركة والمساهمة واستغلالهم للموارد القيمة.”
إذن ما الذي يدفعه لمواصلة العمل؟ رد قائلا: “الفضول”، “وسد الفجوة بين الرغبة والممارسة في كل جانب من جوانب حياتي”.
وغالباً هو يقصد مد جسر بين تصوره للسينما كوسيلة نقية للتعبير والطموح اللازم لتحقيق ذلك. واختتم حديثه بقوله: “إنني أبحث عن شبكية سينمائية في السماء”.
عن موقع 365 بتاريخ 13 نوفمبر 2019