بارادجانوف و”لون الرمان”.. الروح الشعرية الخالدة

سيرجي بارادجانوف واحد من أعظم المخرجين في السينما العالمية، ومن أكثر مخرجي السينما السوفيتية جدّة وأصالةً ونبوغاً. أفلامه قليلة لكنها تُعد من بين أهم التحف الفنية في تاريخ السينما، وتُعد جزءاً من الإبداعات الثقافية العالمية. ومن أعمدة الكون الشعري السينمائي، التي تمدّد وعينا، وتوسّع إدراكنا، في ما يتصل بالاحتمال التعبيري والشعري للسينما.

الروائع الفنية التي حقّقها بارادجانوف جعلت أندريه تاركوفسكي يعتبره عبقري السينما،

تعرّض مراراً للاضطهاد والكبح، وأمضى 16 سنة تقريباً في صمت إجباري إما كسجين أو كمخرج مضطهَد، تعرّض العديد من مشاريعه السينمائية للرفض أو الإجهاض، وخضعت أعماله لرقابة مشدّدة.. مع ذلك نجحت أفلامه العظيمة في اختراق التخوم، لتصل إلى الشاشات العالمية، وتلفت أنظار عدد من النقاد إلى طاقة إبداعية فذّة.

خلق بارادجانوف نوعاً مختلفاً من السينما، برؤية جديدة، مبتكرة، أصيلة.. بأسلوب ذي لغة مجازية.. وسرد يحمل طابعاً حلمياً، شاعرياً، سوريالياً، مغايراً لكل ما تخلّق في الغرب. مع ذلك هو غير معروف كثيراً في الأوساط السينمائية العالمية، إلا ضمن دوائر ضيقة ومحدودة.  

من الأساطير والتراث الشعبي استمد مواد أفلامه ذات الثراء البصري. أفلامه عبارة عن سلسلة من اللوحات الأخاذة بصرياً، المرتّبة بحرص وعناية، المأهولة بشخصيات رمزية وخيالية: عرّافين، شعراء غنائيين، رواة قصص، حكام طغاة، عشاق، سائرين على الحبال المشدودة.

قال عنه أليكسي كوروتيوكوف: “بارادجانوف حقّق أفلاماً ليس عن كيف تكون الأشياء، لكن عن كيف ستكون لو كان هو خالقها”.

بارادجانوف

اسمه الأصلي سركيس بارادجانيان. وُلد في تبليسي، عاصمة جورجيا، في التاسع من يناير 1924، من أبوين أرمنيين. درس الموسيقى في المعهد الموسيقي بتبليسي من 1942 إلى  1945 وبرع في العزف على آلة الكمان. في العام التالي (1946) التحق بمعهد السينما في موسكو وتخرّج في العام 1951. من 1952 إلى 1954 عمل كمساعد مخرج في كييف.

في العام 1954 شارك ياكوف بازليان في إخراج فيلمه الأول Andriesh.

بعد عدد من الأفلام القصيرة والطويلة قدّم فيلمه “ظلال أسلافنا المنسيين” (1964) الذي مثّل نقطة الانطلاق الأولى إلى فضاء السينما العالمية، حيث بشّر ببروز موهبة فذّة، وطاقة إبداعية متميّزة، سوف تفرض نفسها بقوة وعمق. كان الفيلم اكتشافاً مذهلاً، لم تختبر الشاشة السوفيتية مثيلاً له في شاعريته وغنائيته وخاصيته الميثولوجية، الملحمية، المستمدة من الذاكرة الشعبية. وقد حاز على العديد من الجوائز في مهرجانات دولية.

بعد هذا الفيلم، بدأت مشاكل بارادجانوف مع السلطات السوفيتية التي لم تسمح له بحضور المهرجانات. كما رفضت تنفيذ عدد من السيناريوهات التي كتبها، فاضطر إلى التمثيل في عدد من الأدوار الصغيرة في أفلام مخرجين آخرين.

في العام 1965، بعد أن وقّع عرائض لدعم منشقين أوكرانيين، هاجمته الصحافة باعتباره “قومياً أوكرانياً” وهاجمت أفلامه بوصفها شكلانية وذات نزعة ذاتية بورجوازية.

في العام 1969 حقق تحفته الفنية “سايات نوفا” أو “لون الرمان”، لكن السلطات السوفيتية شجبت الفيلم لانتهاكه إملاءات الواقعية الاشتراكية،  ولأنه يبطل مفاهيم الواقع والحالة السوية. واتهمته بالغموض والتشوّش، والنزوع إلى السوريالية، وهي تهمة ليست بسيطة. وعندما رفض حذف مشاهد منه، وإعادة مونتاج الفيلم، تم تكليف المخرج سيرجي يوتكفيتش بمعالجة الفيلم مونتاجياً، وتقليص مدّته بحذف عشرين دقيقة منه، ومع ذلك لم يُعرض الفيلم إلا في العام 1973، في صالات صغيرة ومحدودة.

كان بارادجانوف يمثّل الفكر الليبرالي الذي انتشر عبر الأشكال الفنية في الستينيات، والذي أزعج السلطات: فقد دافع بلا هوادة عن الديمقراطية، وعن حق القوميات في المحافظة على تراثها القومي والديني، كما احتج على اعتقال عدد من المثقفين الأوكرانيين، ولم تغفر له السلطات الأمنية السوفيتية رفضه الشهادة ضد الكاتب المنشق فالنتين موروز. 

في ديسمبر 1973، بعث بارادجانوف إلى وزير الشؤون السينمائية، بعد رفض مقابلته، برقية مؤلفة من 340 كلمة يحتج فيها على تردّي وضع الفن السينمائي في الاتحاد السوفييتي، مهاجماً سياسة الحكومة في قتل روح المبادرة وحيلولتها دون نمو أو تحقيق التفكير المستقل من أي نوع.

بعد يومين من إرساله للبرقية، تعرّض للاعتقال ووجهت إليه تهماً متعددة من بينها: المتاجرة بالتحف الفنية والقطع الأثرية (التي حصل عليها من الفلاحين وقت تصوير أفلامه)، التعامل بالعملات الأجنبية بطرق غير مشروعة، التعامل مع السوق السوداء، المثلية الجنسية، إكراه الآخرين على إقامة علاقات جنسية شاذة، حيازة صور إباحية، نشر أمراض تناسلية، التحريض على الانتحار.

في الواقع، كل هذه التهم الملفقة والسخيفة الموجهة إليه كانت محاولة لتجنب تحوّل المحاكمة إلى المنحى السياسي. أخيراً، وبسبب عدم كفاية الأدلة، اكتفت المحكمة بتوجيه تهمة واحدة فقط: تهريب مواد فنية. وبعد محاكمة استمرت ثلاثة أيام فقط، في بداية العام 1974، أصدر القاضي حكماً بالسجن لمدة 6 سنوات في معسكر عمل إلزامي.  

بعد أربع سنوات و11 يوماً، أطلق سراحه في 1978.. ربما تحت ضغط الحملات العالمية. غير أن السلطات رفضت السماح له بالسفر، كما منعته من تحقيق أي فيلم، بل أنها أعادت اعتقاله للمرة الثالثة، بتهمة عقد اجتماعات مع أجانب مشبوهين وغير مرغوب فيهم، وأيضاً لمحاولته رشوة موظف رسمي، لكن بُرأت ساحته بعد أن قضى ستة أشهر في السجن.   

خلال تلك الفترة، نظراً لكونه محروماً من الإمساك بالكاميرا، لجأ إلى الفرشاة فرسم العديد من اللوحات والكولاجات، ولجأ إلى القلم فكتب الكثير من السيناريوهات إلى جانب اليوميات. كما حقّق أعمالاً فنية في مجال الجرافيك والسيراميك والدمى.

مع إتباع النظام لسياسة الإصلاح والانفتاح (البرسترويكا)، تمكّن بارادجانوف من تحقيق آخر فيلمين له: أسطورة قلعة سورام (1984) عاشق كريب Ashik Kerib (1988). إضافة إلى فيلم قصير مدته 25 دقيقة بعنوان “أرابيسك على ثيمات بيروسماني”.

إزاء حيرة البعض من جنسية بارادجانوف، وإلى أي أقليّة ينتمي، قال ساخراً: “أنا أرمني، وُلد في تِبليسي الجورجية، وتم سجنه في سجن روسي بتهمة أنه قومي أوكراني”.

توفى بارادجانوف في العام 1990، بعد إصابته بسرطان الرئة، وكان يبلغ من العمر 66 سنة. 

“لون الرمان” فيلم شعري، شبيه بالحلم، يتتبع السيرة الروحية للشاعر الغنائي (التروبادوري) الأرمني أروتيون ساياديا (1712 – 1795)، والمعروف باسم سايات نوفا، الذي يعني، ملك الأغنية. وهو من مبدعي أغاني الحب التي كان يؤديها بنفسه عازفاً على آلة العود. نشأ في مدينة تِفليس الجورجية. في البداية عمل كنسّاج. كتب أشعاراً وأغان باللغات الأرمنية والأذربيجانية والفارسية. ذاع صيته وبلغ المناطق المجاورة، فاستدعاه البلاط الملكي في جورجيا ليكون موسيقيّ البلاط وشاعره. بعد وقوعه في غرام أخت الملك، الأميرة أنّا، تم طرده وإبعاده. التحق بالدير في 1770. أمضى بقية حياته كراهب، حيث استمر في كتابة الشعر وتأليف الموسيقى. لقي مصرعه في 1795 على أيدي الغزاة الفرس لأنه رفض أن يرتد عن الدين المسيحي.

الفيلم يوظّف بعض أعمال سايات كمفاتيح للتقاليد الدينية والثقافية التي تميّز مناطق القوقاز وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان. وهو يتناول مراحل من حياته ككاتب، وعاشق، وراهب. عارضاً نموّه الفكري والفني والروحي عبر التكوينات الأيقونية أكثر من السرد التقليدي.

يقول بارادجانوف (في مقابلة معه في 1969): “أردنا أن نعرض العالم الذي فيه عاش سايات نوفا، المنابع والمصادر التي غذّت شعره، ولهذا السبب تلعب العمارة الوطنية، والفن الشعبي، والطبيعة، والحياة اليومية، والموسيقى، دوراً كبيراً في قرارات الفيلم التصويرية. إننا نسرد المرحلة، الناس، عواطفهم وأفكارهم من خلال لغة الأشياء”.

لكن الفيلم، كما تشير الافتتاحية، ليس سيرة ذاتية نموذجية للشاعر الأرمني بل محاولة لتوظيف السينما للتعبير عن عالم الصور التي تحفل بها أشعاره. فالفيلم لا يلتزم بالسرد التقليدي للتفاصيل البيوغرافية (الخاصة بالسيرة)، إنما يعتمد كلياً على البصري والتجريدي، مترجماً حياة الشاعر وشعره إلى لغة بصرية محضة. مقاطع من نصوص سايات نوفا نجدها مقروءة، أو تظهر على الشاشة في مواضع مختلفة من الفيلم. لكن بصورة عامة، يظل الفيلم قائماً على البصري وليس اللفظي. الصور مستمدة من قصائد الشاعر. والفيلم يحرص على توصيل المشاعر والأحاسيس أكثر من نقل حقائق معيّنة. علماً أن الخطوط الرئيسية لقصة حياة الشاعر هي ظاهرة وجليّة هنا.. بدءاً من ذكريات طفولته، وخصوصيات العلاقة العاطفية الشابة قبل دخوله الدير.     

الفيلم يتألف من مقدمة أو استهلال (برولوج) وثمانية فصول وخاتمة. في افتتاحية الفيلم، أو المقدّمة، نرى كتاباً قديماً مفتوحاً، مع كتابة تشير إلى أن الفيلم لا يتناول السيرة الذاتية للشاعر سايات نوفا، بل سبراً لعالمه الداخلي، عواطفه وعذاباته. ثم نسمع صوت الشاعر يقول: أنا هو الذي حياته وروحه في عذاب. وهو قول يتناغم مع آلام المسيح والمعاناة التاريخية التي كابدها الشعب الأرمني.

بعد ذلك نرى ثلاث رمانات تسفح عصارتها القرمزية على نسيج قطني. العصارة تُحدث بقعة (ثمة مصادر تشير إلى أن البقعة تأخذ شكل خريطة لوطن الأرمن “أرمينيا” بتخومها الأصلية التي تلاشت وزالت) ثم نرى  خنجراً مستقراً على النسيج المبقّع ذاته، قدماً تسحق عنباً على قرص حجري، سمكةً حيّةً تتلوى بين رغيفين.

الأشياء منتزعة من سياق الاستعمال اليومي لتصبح عنصراً أو علامةً في العمل الشعري.

في الميثولوجيا الأرمنية، الرمان رمز الخصوبة. يقال أن الرمانة اليانعة تحتوي على 365 حبّة، بعدد أيام السنة. في الفيلم، ثمرة الرمان تحتمل عدداً من التأويلات الرمزية، ولا يمكن حصرها في دلالة واحدة، أو معنى واحد. الثمرة تظهر غالباً في سياق احتفالٍ ما، أو ترافق انتقال الشخصية من حالة إلى أخرى: من الطفولة إلى البلوغ، إلى الوقوع في الحب، الزواج، إلى الموت.

الثمرة، من نواحٍ ميثولوجية، تحمل أبعاداً إيروسية، حيث تمثّل الإغواء والرغبة.

ينقسم الفيلم إلى فصول تتضمن: الطفولة، الشباب، بلاط الملك، الدير، الحلم، الشيخوخة، ملاك الموت والموت. الفصول الثمانية تتوافق مع مراحل من حياة الشاعر “سايات نوفا”. في الفصل الأول (وهو الوحيد الذي له صلة مباشرة بالحقائق المعروفة عن الشاعر) نتابع، عبر سلسلة من الصور السوريالية غير المتصلة، طفولة الشاعر ضمن عائلة فقيرة. الصغير أروتيون   يتعلم في الكنيسة كيف يحترم ويقدّر الكتب والكلمات المكتوبة والأفكار.  

يقول سايات نوفا: “هناك ثلاثة أهداف مقدّسة: تعلّق بالقلم، تعلّق بالكتابة، تعلّق بالكتب”. ويقول: “يجب أن نعزّ الكتاب ونحبه، ذلك لأن الكتاب هو الحياة والروح معاً. حيث لا توجد الكلمة المكتوبة، يحكم الجهل العالم. اقرأ الكتاب عالياً حتى يسمعك الجميع، إذ ليس كل شخص قادر على القراءة”.

القسيس يعطي الصبي كتباً ليقرأها. الصبي يحمل الكتب المقدسة إلى سطح مبنى الكنيسة. يستلقي بين الكتب التي تغطّي الأرضية، ممدود الذراعين، مثل المسيح، فيما صفحات الكتب المفتوحة تصطفق بفعل الريح. الجدران مغمورة بالنوافذ، لكن محل كل نافذة نجد كتاباً صفحاته تقلبها الريح.

الفنان يتقبّل قدره، مسؤوليته تجاه المعرفة الممنوحة له.

عائلته، التي تستقر ثانيةً في تبليسي، تعمل في جمع الصوف ونسج السجاد. الصبي يتدرّب على ثلاث مهن: كيفية صباغة الصوف، ومعالجة النوْل، وغسل السجاد بعد الانتهاء من نسجه. وهو، في تلصصه على ما يدور في الحمّامات العامة، يشعر باليقظة الحسّية، يصبح واعياً للفوارق والاختلافات الجنسية، وهو الاكتشاف الذي يقذف به فجأة نحو مرحلة المراهقة.

الفصل الثاني يتطرّق إلى شباب الشاعر. سايات المراهق يهمل النوْل مفضلاً آلة العود. المخلوقة، التي تمثل الوحي أو أناه الثانية، الأنثوية، التي تغويه وتقوده بعيداً عن مهنته العملية لتغمره بأحلام شعرية، تقوده نحو عالم من الخيال واللغز والرغبة. في نهاية الأمر، هو يترك غرفته ليختبر حياة جديدة في الخارج.

في الفصل الثالث نراه وقد أصبح موسيقار البلاط الذي يحكمه ملك شاب. في ذلك الوقت، كان ملك جورجيا يحكم أغلب مناطق أرمينيا.

(هنا يتجاهل المخرج الأسطورة، أو الحكاية التاريخية، التي تشير إلى طرد الشاعر من البلاط، ونفيه من البلاد، بسبب علاقته الغرامية مع شقيقة الملك) الحياة في البلاط تتسم بالحسيّة والشهوانية والتفسّخ. بعد حملة صيد ناجحة، يموت الملك فجأة. سايات يشعر بحزن طاغ. يعود إلى غرفته وينجح في تحويل أحاسيسه أو طاقته الجنسية عن هدفها البدائي إلى غاية أسمى. أما في الخارج، فكل كرنفال الرغبات، وكل الشهوات البشرية، تستمر في الانطلاق على ضربات طبل الشيطان. سايات يختار حياة الزهد والتنسك.

في الفصل الرابع يتم قبوله في الكنيسة ويصبح راهباً. الدير يبدو مجتمعاً سعيداً، مكتفياً بذاته، منتجاً خبزه ونبيذه الخاص. سايات يكون واعياً للمسافة بينه وبين الرهبان الآخرين. هو يرأس القدّاس في كل الاحتفالات الدينية الهامة التي يقيمها سكان القرية، في الجنازة كما في الزواج كما في حفل التعميد. هو يرى حلماً رؤيوياً: الكنيسة مكتظة بالنعاج.

في الفصل الخامس نرى سايات وحيداً. يحلم بطفولته العابثة ووالديه المهملَيْن. يشهد جنازة والديه. عاصفة مفاجئة تهب.

الفصل السادس، الشاعر في شيخوخته يغادر الدير خائباً ومخذولاً، ولا يزال مسكوناً بطفولته. إنه يتشبث بآلة العود كما لو أنها قادرة أن تعيد إليه سنواته الضائعة. يغادر وحيداً، في ألم، شاعراً بالخواء يغلّف حياته. هو يتنبأ بغزو الفرس لبلاده وانهيار الكنيسة.

في الفصل السابع تستحوذ عليه كآبة حادة، ويصبح شديد التوق لترك حياته. هو يتخيّل موت أناه الثانية وجنازتها حيث يكون بين الحضور والداه وذاته في طفولته.

في الفصل الثامن يتهيأ سايات لموته. أناه الثانية تعود بوصفها ملاك البعث. هو يطلب منها الغفران. في لحظة موته يرى نفسه كطفل وقد صار ملاكاً. إننا نراه مستلقياً، بذراعين ممدودتين، بين شموع متوهجة، فيما تتساقط من حوله دجاجات بيض. يموت الشاعر، لكن أناه الثانية تبقى خالدة.

في هذا الفصل، نسمع صوت الشاعر: “سواء عشت أو متّ/ أغنيتي سوف توقظ الحشد/ سوف أرحل، لكن منذ ذلك اليوم/ قطعة مني ستبقى في العالم”.

تقول الناقدة سوزانا هاروتيونيان:

“في الجزء الختامي، نرى الملائكة بالملابس البيضاء يأخذون الشاعر، بلباسه الأسود، ليس إلى الجنة وإنما إلى العالم، إلى الحياة. لذلك، ليس هناك أي نهاية، وليس هناك أي بداية: الأشياء تأتي في دائرة مكتملة. الزمن يتدفق في دوائر. وليس هناك غير التحوّل الإيقاعي للفصول والنهار والليل، وسلسلة متتالية من أطوار الحياة الإنسانية، من الولادة إلى الممات”. 

من المعروف تاريخياً أن الشاعر سايات نوفا، في المرحلة الأخيرة من حياته، وبعد وفاة زوجته مارمار، دخل الدير وأصبح راهباً. عاش هناك حتى لقي   حتفه، عندما قام الجيش الفارسي، بقيادة آغا محمد خان، بغزو جورجيا وحصار مدينة تبليسي، مهددين بارتكاب مجازر.

سايات نوفا، المتقدم في السن، كان آنذاك رئيس الأساقفة. عندما علم بالأمر، غادر الديْر وهرع إلى العاصمة لينقذ عائلته. وقد نجح في تهريب أطفاله إلى مدينة أخرى لكنه لم يرد أن يتخلى عن واجبه، فعاد إلى العاصمة في يوم احتلالها من قِبل الجيش الفارسي. لجأ مع الجموع إلى إحدى الكاتدرائيات، التي حاصرها الفرس في ما بعد، وطالبوا الموجودين بالخروج واعتناق الإسلام. لكنهم رفضوا ذلك، فتم إخراجهم بالقوة وقتلوا سايات نوفا على عتبة الكاتدرائية.

في ذلك الموضع، أقاموا قاعدة حجرية عليها نقشوا تاريخ مولده وموته، مع ثلاثة أبيات من قصيدة له، تقول:

“ليس كل شخص قادر أن يشرب من نبعي المتدفق، مياهي لها مذاق خاص جداً..

ليس كل شخص قادر أن يقرأ ما أكتب، كلماتي لها معنى خالص جداً..

ولا تصدّق أن من السهل الإطاحة بي، أساساتي صلبة وثابتة كما حجر الصوّان.”

بارادجانوف كان، على نحو جلي وصريح، أقل اهتماماً بالحقيقة التاريخية، وبإعادة بناء الأحداث التاريخية. إنه يٌظهر شخصية سايات نوفا في صورة قريبة من المسيح الذي يجسّد الصراع المتّقد بين البواعث المقدسة والمدنسة. 

تقول سوزانا هاروتيونيان:

“من حيث المبدأ، بارادجانوف رفض أن يوظّف الحقائق التاريخية المحيطة بالشاعر سايات. هو لم يكن مهتماً بالتأريخ وبالسيرة الذاتية، والتي لها بداية ولها نهاية. ما هو مهم بالنسبة له، الروح الشعرية الخالدة التي تستوعب الوعي الفني للأمة وتجربة الشعب الروحية. المعلومات التي تتعلّق بالروح الشعرية هي مدّخرة في الناقل المادي: الكتب، الأشياء، الأثاث، الأعمال الفنية”. 

الفيلم عبارة عن سلسلة من الأحداث، المستقلة، حيث كل مشهد يكون تاماً في ذاته، مكتفياً بذاته. هذه الأجزاء لا تربطها حبكة، فيما عدا تنامي الشخصية الرئيسية “سايات نوفا” من مرحلة الصبا إلى الشباب إلى الرجولة، من الشاعر في البلاط إلى العاشق إلى الراهب، إضافة إلى علاقة الشاعر بالفن والحب والقدر والموت. كما يتحرّى المشاعر الدينية، والعواطف المتضاربة، في نفَس الشاعر. إضافة إلى صلات الشاعر العميقة مع أسلوب الحياة في زمنه، والتي اختبرها وهو طفل.

إن فهم بارادجانوف للدراما يبعد سنوات ضوئية عن الفهم السائد. بالنسبة له، تأمل الوجود هو دراما تجذب الانتباه على نحو آسر أكثر من تجلياتها الخارجية التي هي أكثر ديناميكية. وهو لا يرفض الدراما، بل الأحرى يأخذها خارج السرد وينقلها إلى مكان جديد في الحركة بين الصورة والصوت.

لا توجد لدينا هنا في الفيلم “قصة”، ثمة خط قصصي لكن لا يخضع لتسلسل منطقي، بل يتخذ خاصية القصيدة البصرية، بحيث نجد أنفسنا إزاء ثمانية فصول/ قصائد بصرية تعبّر عن أطوار الشاعر واهتماماته والمحطات التي مرّ بها حتى شيخوخته وموته.

عند بارادجانوف، الثبات والسكون مشحون بالطاقة. الإيماءة هي دائماً شعرية، طقسية. الكلمة تتحرك بفعل الجاذبية نحو الشعر والأغنية. الطبيعة الساكنة، في أحوال كثيرة، تكون محرَكة ومستحثة بفعل جمالها المتأصل أكثر من الخط القصصي. 

بدلاً من الحبكة وتنامي الشخصيات والحوارات، نجد سلسلة متعاقبة من الصور التشكيلية.

يتميّز الفيلم ببناء غير مألوف من الصور الآسرة، المركّبة على نحو جميل، وبتكوينات بصرية رائعة، حافلة بالمجازات. المشاهد تتعاقب في جمال أخاذ وغرابة مذهلة. فيض من الصور والمجازات البصرية تغمر الشاشة والمتفرج.

أسلوبياً، نلاحظ اللجوء المتكرر للانتقالات الفجائية من أجل مقاطعة أي تدفق للفيلم. في أغلب الحالات، تكون اللقطات مختصرة، وتكاد أن تكون مبتورة.  

الصور، بالأحرى، تبدو معطلة في الزمن، معلقة أشبه بلوحات مستقلة، تتجاور لكن لا تتصل ببعضها في حالة مستمرة أو سردية. إنها تظهر، تختفي، تتكرر لكن بتنويعات. في تتابع اللقطات الواقعية تتوالد الصور السوريالية.

في مقالة قصيرة كتبها في العام 1985، قام بارادجانوف بتوضيح استخدامه وتوظيفه للمصادر البصرية/ التشكيلية، مبدياً اهتماماً قليلاً بنسخ تكوينات اللوحات في ذاتها، مبيّناً عشقه للألوان والأشكال والمظاهر التجريدية في اللوحات، والتي بها يعيد تكييف تخيلاته الخصوصية.

ثمة طغيان للّون الأحمر الذي نجده في الصبغ قبل الغزل، وفي عصير الرمان، وفي الدم.. مع دلالاته المجازية المتنوعة، من التعبير عن عاطفة الحب إلى الدم المراق.

الفيلم يكشف حياة الشاعر بصرياً وشعرياً، وليس لفظياً.  الصوت منفصل عن الصورة. الحوارات نادرة. ليس هناك حوار متزامن. الكلمات المنطوقة هي إما اقتباسات من شعر سايات نوفا أو تعليقات حرّة على الحدث. هناك استخدام للموسيقى والغناء. المؤثرات الصوتية والموسيقى مستخدمة لتعزيز البنية الإجمالية، وأحياناً لخلق روابط بين أجزاء مختلفة من الفيلم.

تحفة بارادجانوف تفيض بالصور والأصوات الرائعة، المدهشة. في سلسلة من اللوحات الحية التي تمزج الملموس والتجريدي.

بارادجانوف، في تشكيل فيلمه، استفاد من تقاليد المسرح الشعبي في توظيفه للأقنعة والأداء الصامت (المايم)، ومن الفن البيزنطي في صنع الأيقونات، إذ نحن إزاء سلسلة من التابلوهات الفخمة والمترفة، من اللوحات الثرية التي تشبه شكل ولون الأيقونة، حيث الشخوص والأشياء تتخّذ وضعاً رمزياً، والمنظورات تكون مسطحة. كما استلهم تكويناته من المنمنمات الفارسية، إضافة إلى الصور المستمدة من الثقافة الأرمنية والتاريخ الأرمني. ومن الفنون الشعبية، ورسومات القرون الوسطى، والاتجاه السيريالي، والأفلام الفنية الأوروبية. ثمة حس معماري في التكوينات التي تتباين مع الشعور الحسي. كما يبدو جليّاً تأثير النصوص الدينية، التي نجد بعضها ظاهرة ضمن مشاهد الفيلم.

اللقطات ساكنة، مأخوذة من الأمام، بكاميرا ثابتة معظم الوقت. مع تابلوهات هي مزيج من المسرح والفن التشكيلي، معدّة بدقة، فيها الشخوص الرمزية تمارس طقوساً غريبة، فيما تحدّق في الكاميرا.. في ارتباك. وعوضاً عن استخدام حركة الزوم الأمامية أو التراجعية فإنه يجعل الشخصيات، البعيدة عن الكادر، تقترب من الكاميرا أو تبتعد عنها. الممثلون يتحركون أمام الكاميرا، أو يتّخذون وضعيات معيّنة، أو يرقصون.

“لون الرمان” تجربة فريدة، غريبة وجميلة، ولم نشهد لها مثيلاً، أو ما تضاهيها في السينما. وهو عمل إبداعي مبتكر، حديث، يتسم بالثراء البصري ضمن نسيج مركّب من الرموز والمجازات. كل كادر في الفيلم مركّب بعناية من أجل إدهاشنا، والتأثير فينا، وتحريك مشاعرنا وأذهاننا.

إنه إنجاز فني ساحر، رائع واستثنائي.. يحتفي بالحواس عبر الصورة والكلمة والموسيقى.

لقد حقّق بارادجانوف فيلمه بمخيّلة طفل وحساسية شاعر وإحساس فنان تشكيلي ورؤية مفكّر.  وبهذا الفيلم، عبّر عن حبه لعائلته، لثقافته، واحتفائه بالجمال.

إننا أمام تحفة فنية صُنفت ضمن أعظم الأفلام في تاريخ السينما. وهو – على حد تعبير مارتن سكورسيزي- الفيلم الذي في صوره ورؤاه، لا يوجد مثيل له في تاريخ السينما. وقد أضاف قائلاً: “قبل أن أشاهد الفيلم، لم أكن أعرف شيئاً عن “سايات نوفا”، وبعد أن انتهى الفيلم، ظل جهلي بالشاعر كما هو، غير أن ما فعله بارادجانوف هو أنه فتح الباب نحو تجربة سينمائية خالدة. مشاهدة الفيلم أشبه بفتح باب والدخول في بُعد آخر، حيث الزمن يتوقف، والجمال يتحرّر. على المستوى الأساسي، الفيلم هو سيرة ذاتية للشاعر الأرمني سايات نوفا، لكن قبل كل شيء، هي تجربة سينمائية، وأنت تخرج من الصالة متذكراً الصور، الحركات التعبيرية المتكررة، الأزياء، الأشياء، التكوينات، الألوان”. 

وتحدّث أنتونيوني عن الفيلم قائلاً: “لون الرمان ذو جمال كامل على نحو فاتن. بارادجانوف، في رأيي، هو واحد من أفضل مخرجي السينما في العالم”. 

وقال جان لوك غودار: “تحقيق الأفلام يتطلب الكثير من الإيمان، وربما لهذا السبب لا يزال الناس يستمرون في ارتياد الصالات السينمائية. السينما عالم بلا قوانين، لكنه العالم الذي يتضمن الكثير من الإيمان. بعض الأفلام تقتضي إيماناً بالغاً وعميقاً. لو أخذت فيلماً مثل فيلم بارادجانوف (لون الرمان)، فأظن أنه يتعيّن عليك أن تعيش على مبعدة 15 ميلاً تقريباً من الصالة التي تعرض الفيلم، وتشعر بالحاجة لأن تقطع المسافة مشياً على القدمين من أجل أن تشاهد الفيلم. لو شعرت بتلك الحاجة وكنت مؤمناً بالفيلم إلى هذا الحد، فإن الفيلم قادر أن يمنحك كل ما تتمناه. بالمناسبة، هذا الفيلم جعلني أؤمن كثيراً بنفسي، لأنه عزّز لديّ بعض الأفكار التي كنت أحملها بشأن تقنية الفيلم .

وفي موضع آخر، قال غودار: ” في معبد السينما، هناك صور، ضوء، وواقع. سيرجي بارادجانوف كان سيّد ذلك المعبد”.  

Visited 36 times, 1 visit(s) today