“المُساعِدة”.. أنْ تبقى في الظلّ مقهورًا

يدور فيلم “The Assistant” (المُساعِدة) الذي أخرجته وألَّفتْه وأنتجته كيتي جرين عن فتاة جامعيَّة طموح تقدم على العمل في شركة إنتاج سينمائيّ في الولايات المتحدة الأمريكيَّة. تستعرض صانعة الفيلم من خلال استعراض يومَيْن في الحياة الوظيفيَّة لهذه الشابَّة عدَّة موضوعات بعضها ظاهريّ والآخر شعوريّ باطنيّ. وفي الأخير تقدَّم تجربة واقعيَّة شديدة الواقعيَّة في جميع اختياراتها لكنَّها بارعة في اقتناص المعاني التي ترفع من قدر التجربة كليَّةً.

تُسمعنا الصانعة منذ لحظات الفيلم الأولى أصوات قطار من قبل أنْ تبدأ الصورة الفيلميَّة؛ لتصنع جوًّا استباقيًّا سيُهيِّئ المُشاهد لما يأتي ويُؤطِّر الأحداث. ودلالة القطار في المُضيّ بلا توقُّف ولا هوادة ولا راحة إنَّه يعبِّر عن السير القسريّ دون اختيار، كما أنَّ للقطار قضيبان يحدَّان من وجهته أو يصنعانها له منذ البدء. هذا ما قصدته الصانعة من دلالة وضعها لصوت القطار ويدلُّ على أنَّها محض استخدام فنيّ أنَّ الموقف القصصيّ لا يتعلَّق بالقطار من قريب أو بعيد.

ثُمَّ نرى شابَّة هي جين -الممثلة الشابَّة جوليا جارنر- تستقلّ سيَّارة بعد الفجر وتنام في طريقها للعمل. لتدخل إلى شركة الإنتاج ونصاحبها في مشاهد عديدة لنفتح معها الأبواب ونشعل أنوار الشركة، ونحضِّر بعض الأوراق، ونُهِّيئ غُرفة مالك الشركة، وتفاصيل أخرى لا حدَّ لها. ثمَّ نمرُّ معها بكامل أفعالها اليوميَّة في العمل فنراها تتصل بالشركات وتعقد الصفقات اليوميَّة وتطمئن على بعض التحضيرات وتنشر الجدول اليوميّ للموظَّفين. مشاهد ثمَّ مشاهد ثمَّ مشاهد تصوِّر هذا العمل الروتينيّ الذي يُشبه الماء الراكد في مستنقع في آخر أحراش الأراضي الروسيَّة حيث لا أحد يسمع، ولا أحد يشهد، ولا أحد يريد إلقاء حصاة لتحريك هذا الماء.

ثمَّ يمرُّ أمامها ذلك المالك الذي لا يظهر أبدًا على الشاشة؛ ولهذا أيضًا دلالة تُشبه دلالة الترميز -أيْ صناعة الرمز- لكُلِّ شركات الإنتاج، ولكامل نظام العمل الرأسماليّ عمومًا. فمالك الشركة ومديرها بالنسبة إلينا بقي في حيِّز “الفكرة” لا “الشخص”؛ هكذا أرادتْ صانعة الفيلم. وبالقطع مع مرور هذه الشخصيَّة نرى فظاظتها وقلَّة حيائها واستهتارها بغيرها من الموظفين وكأنَّ صاحب العمل إله يعامل عباده الخاطئين لا الطائعين. فهو بالنسبة إليهم قبيح كلَّ القُبح، كريه كلَّ الكراهة مصدر للسخرية والعبث وقلَّة الاحترام فيما بينهم، يعرفون حقيقته ويحتقرونه. وهُم بالنسبة إليه كمٌّ من اللاشيء كمّ مهمل كونيّ لا يعرف لماذا يتقاضون أمواله العزيزة عليه دون وجه حقّ.

ثمَّ نرى مشكلة عرضتْ للبطلة وهي استقدام المالك لشابة كانت تعمل في حانة نادلةً لتعمل مع مُساعدته مُساعدةً .. وهُنا تقع البطلة في حيرة وارتباك وتشعر بالكثير من المشاعر وهي تقدِّم العون لتلك الشابة في أنْ تكون زميلتها. ثمَّ يزداد حنقها عندما تعلم تفاصيل حياة زميلتها الجديدة، وتعلم أنَّ المالك قد رآها في الحانة فأعجب بها، وتشتاط داخليًّا عندما توصلها إلى فندق ضخم حجز المالك لها غرفة فيه لتُقيم. وهي مع كلّ ما تمتلكه من مُؤهِّلات ومع كلّ ما تقدِّمه من جهد لمْ تحظَ بأيٍّ من هذه المميزات التي تُقدَّم لتلك الجديدة.

ثمَّ في اليوم الآخر نراها تفعل المهامّ نفسها، ثمّ تكتشف أنَّ المالك في الفندق الذي فيه الشابة الجديدة. فتشعر بالقهر يتسرَّب إلى داخلها وتكاد تختنق من ثقله؛ مِمَّا يدفعها إلى الذهاب لمَّا يُسمَّى قسم “الموارد البشريَّة” لتُفضي بهمِّها إلى المسئول هناك وهي تدلي بما يُمثِّل في نفسها شكوى لكنَّه لا يمثِّل في نفس المسئول إلا أفعالاً عاديَّة لا تقتضي الالتفات. ولعلَّ مشهد حوارها مع هذا الموظِّف المسئول هو أقوى المشاهد في الفيلم. والذي من أثره قد يسرَّب شعور الحرج والضيق إلى نفس المُشاهد، بل قد يشعر شعور الإحراج نفسه الذي نالتْه البطلة في آخر هذا المشهد.

هي تعرف أنَّها مقهورة وتريد الصراخ من القهر، وتعرف أنَّ جميع مُؤهِّلات الشابة هي جمالها الجسديّ وأنَّ غالب الموجودات هذا هو مُؤهِّلهنَّ، ولا ترتضي أنْ يكون هذا المُؤهِّل قاهرًا لكفاءتها وتفانيها في العمل. هذا حقُّها الطبيعيّ الواضح أمام العيان، لكنَّها الرأسماليَّة التي لا تستطيع معها أنْ تتفوَّه بكلمة، ولكنَّها البرجماتيَّة الصرفة التي تتعامل فقط مع المكاسب والخسائر دون النظر إلى معايير أخرى. مع كلِّ هذه المشاعر الفائضة يقابلها الموظِّف بما في يده؛ فهو بدوره يعرف مالك الشركة ويعرف النظام الذي تدور به الشركات، ويعرف في داخله أنَّها مُحقِّة لكنْ لا يستطيع أنْ يفعل شيئًا في نظام يرتبط كليَّةً بالمال وأصحابه فإمَّا أنْ تعيش كما يريد وإمَّا إلا تعيش أصلاً.

هذا الموقف لا يمثِّل إلا حادثًا في الفيلم؛ فليس هو حبكة الفيلم. هذا الفيلم لا يعتمد على الحبكة؛ فإنَّه فيلم استعراض لحالة وفكرة. وهذه الأفلام لا تعتمد على ما يلُمُّ شعث مشاهدها فهي تريده هكذا مُبعثرًا مُنتثرًا. هذا ما يفيد نقل الحالة والفكرة إلى نفوس المُشاهدين. وقد أقلَّ الفيلم من استخدام الحوار كمُساعِد تأثيريّ؛ لأنَّه اعتمد على الاستعراض المُتأنِّي الواضح الفاضح البطيء. إنَّه لا ينتظر من جُملة أو أخرى أنْ تنقل لنا الواقع وحقيقة الأمر لقد جلب لنا الواقع وحقيقة الأمر بجسدهما ليُشكِّلا الفيلم وبنيته.

بطلتنا شخصيَّة تعبِّر عن حيِّز هو أكبر جدًّا من كونه حيِّز شخصيَّة فرديَّة، بل هي تجسيد لعديد الشخوص في حياة كلِّ مجتمع، وهي من ناحية أخرى تمثيل لآلام نظام الرأسماليَّة ونظريَّة البرجماتيَّة. وفي هذا الملمح الأخير لا تكون وحدها بل تنضم إليها باقي الشخصيَّات أو الدُّمى التي كانت تنظر إلينا من وراء ساتر خشبيّ يُسمَّى “مكتب العمل”. إنَّ الحالة هي تمرُّد مُغلَّف وفضحٌ فنيٌّ لقهر مجتمع وقيَمِهِ التي بناها في قرون والتي تذبح آلاف المواهب وأصحاب الكفاءات بسكين حذاء الرأسماليّ. وغريب الأمر أنَّ ما نعاني كلَّ المعاناة منه هنا في مجتمعاتنا العربيَّة ونظنّ كلَّ الظنّ أنَّه أمر محسوم عند غيرنا نجده وهمًا باطلاً في أذهاننا وحسب أمَّا غيرنا فمثلهم مثلنا؛ فالإنسان هو الإنسان.

المخرجة كيتي جرين مع بطلة فيلمها

الفيلم تجربة فنيَّة ممتعة رغم أنَّها بطيئة وقد تصيب الكثير من المُشاهدين بالملل أثناء مُتابعة هذا الكمّ من التفاصيل اليوميَّة. لكنْ لا يمكن أن نتجاهل الكثير من الجوانب الإخراجيَّة التي قد يكون أبرزها -من حيث إثراء المعاني والتكثيف الفنِّيّ- هو اختيار تصوير بطلة الفيلم دومًا من وراء حجاب أو من بعيد. فإذا كانت في مكتب فالتصوير من خارج المكتب، وإنْ كانت في المطبخ فالتصوير من خارج المطبخ، وعند التحضير للعمل قبل حضور المُوظَّفين فالتصوير من بعيد. وملمح آخر هو اعتماد تصويرها من زاوية النظر لكنْ بارتفاع غير اعتياديّ فلا ننظر من البطلة إلا من كتَفَيْها حتى كأنَّها ساقطة من الكادر. هذان الملمحان قد تعمَّدتْ المخرجة اللجوء إليهما حتى تُكثِّف المعنى لتصوِّر البطلة شيئًا من الأشياء أو جُزءًا من آلة عُظمى، وكذلك لتبيين حالة القهر التي تقع على البطلة.

وهناك ملمح آخر هو الاعتماد على الإضاءة المَكتبيَّة الحقيقيَّة للمشهد ومُكوِّناته -أو إيهامنا بذلك- لتظهر المَشاهد رتيبةً تمتاز بالعتمة وتظهر البطلة والمُوظفون كأنَّهم في مناطق الظلّ من الصورة لا في مناطق النور. وهذا من أشدّ التعبير عن حالتهم الحقيقيَّة. أمَّا عن المُمثِّلة فقد قدَّمتْ بحقّ درسًا في التمثيل يعتمد على فهم حاسم للقضيَّة ولتفاصيل أطوار الاستعراض التي ستقدِّمه فأحكمتْ امتلاك إحساس المُشاهد وضمنتْ تعاطُفه مع ما تقدِّم بجدِّيَّة العمل وامتلاكها لقدراته. حتى قد يتأثَّر المُشاهد كثيرًا وهو يُشاهدها تغادر بمشية بطيئة في آخر مشهد ودقَّات بيان تصحبها تُشبه الجنائز التي تدقُّ للموتى وحسب.

Visited 54 times, 1 visit(s) today