“المرشحة المثالية” المرأة السعودية في ضوء الإصلاحات الجديدة
أمير العمري
“المرشحة المثالية” هو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرجة السعودية الموهوبة، هيفاء المنصور، بعد “وجدة” (2013) السعودي، و”ماري شيللي” (2017) البريطاني. إلا أنها تتجاوز فيه ما سبق أن قدمته بنجاح لافت للنظر في “وجدة”.
إنها تبدو مجددا، مهتمة بقضية المرأة السعودية في المجتمع الذكوري مثل كل مجتمعات الشرق الأوسط. لكن المنصور تعالج موضوعها مبرزة أيضا ما يشهده المجتمع السعودي من إصلاحات حقيقية، سواء على صعيد مشاركة المرأة في العمل العام، أو على مستوى الفنون والسماح بإقامة الحفلات العامة وانشاء دور العرض السينمائي والسماح للمرأة مؤخرا بقيادة السيارات وبالسفر من دون محرم، وكثير من الإصلاحات التي ستتلوها دون أي شك، إصلاحات أخرى باتت ضرورية ومطلوبة.
هيفاء المنصور تستند الى سيناريو بسيط، محكم، دقيق، متوازن، ينتقل في سلاسة عبر الفصول المختلفة للقصة التي يروها، من دون تعقيدات أو استعراضات بالكاميرا أو خروج عن أجواء الفيلم الواقعية، مع بعض اللمحات والمشاهد التي يغلب عليها الطابع الكوميدي ولإبراز دور الموسيقى والغناء.
إنها تريد بوضوح الوصول الى أكبر جمهور ممكن، ربما في الداخل قبل الخارج، فالفيلم في الأساس وكما يتضح من سياقه ومن اختياره لأبطاله وأشكالهم المتنوعة في اطار التركيبة السعودية، واهتمامه أيضا بالإشارة الى الكثير من المتناقضات في المجتمع “الذكوري” السعودي، يتوجه في الأساس الى الجمهور السعودي، يريد أن يداعبه، وأن يدفعه الى الابتسام، وربما الى الضحك أيضا على نفسه، وعلى بعض عاداته العتيقة، كما يريده الفيلم أن يغضب وأن ينتفض ويبدأ في الثورة على نفسه، وأن يرفض التشبث بقيم عفى عليها الدهر خاصة في نظرته لدور المرأة، وهو محور اهتمام المنصور هنا كما كان في “وجدة”.
تتبنى هيفاء المنصور أسلوباً متدرجا في السرد، بطريقة قصدية، بحيث يكشف مشهدا وراء الآخر، عن الأشكال العتيقة في العلاقة بين الرجل والمرأة، كما تتوقف أمام بعض المعوقات التي يتعرض لها الفنانون الرجال في السعودية أيضا. وهي وإن كانت تحتفي برصد وتصوير والتأكيد على ما وقع من إصلاحات في السعودية خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها تطالب بالمزيد، وتشير بوضوح الى أن ما تحقق من إصلاحات ليس كافيا، وأنه قد آن الأوان أن تنتقل السعودية من الانغلاق الى الحداثة.
جو عدائي
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي “مريم”، وهي طبيبة شابة تعمل في قسم الحالات الطارئة في مستشفى بإحدى المدن الصغيرة. ورغم حماسها الشديد للعمل وكفاءتها التي لا شك فيها، إلا أنها محاطة بجو عدائي يرفض أو يتحفظ على دورها كطبيبة، سواء من جانب المرضى الرجال أو من جانب مدير المستشفى نفسه وبعض زملائها الأطباء. يدفعها طموحها للبحث عن وسيلة للترقي والحصول على عمل آخر، فتشرع في إجراءات السفر الى دبي لحضور مؤتمر طبي هناك، لكنها تفاجأ وهي في المطار وبعد أن اقترضت ثمن التذكرة من شقيقتها، بمنعها من السفر بدعوى أن تصريح سفرها من جانب المحرم (وهو في هذه الحالة والدها نفسه)، انقضى أجله ويحتاج إلى تجديد. لكن الوالد غير متوفر. والوقت يمر وشركة الطيران لا تريد تمديد التذكرة سوى لساعات محدودة.
والد مريم “عبد العزيز”، هو مغني شعبي يعيش هائما مع ذكرياته وآلامه الشخصية منذ وفاة زوجته التي كانت مغنية في الأفراح وحفلات الزواج وقد ارتبك بها ارتباطا شديدا وأحبها ومازال يحتفظ بشريط أغانيها الأول. وبسبب لانغماسه في همومه ورغبته في التحقق كمغنٍ ضمن فرقته الموسيقية التي تحاول الوصول الى أكبر جمهور ممكن، قد انصرف عن رعاية بناته الثلاث مريم وشقيقتها: ساره المراهقة، وسلمى مصورة الأفراح. وبينما تسدل مريم النقاب على وجهها، تكتفي شقيقتاها بارتداء غطاء الرأس.
وبينما تبدو مريم الأكثر جموحا وتمردا تبدو شقيقتها الأصغر “ساره” التي يفترض أن تمثل الجيل الجديد.. جيل الانترنت، إلا أن ساره هي الأكثر تشددا وهي التي ستعارض بشدة رغبة مريم الترشح لعضوية المجلس البلدي (خشية من رد فعل الجيران وما يقال من “كلام الناس”، فما يحدث أن مريم بعد أن تفشل في اقناع قريب لها هو (راشد) الذي يشغل منصبا كبيرا في البلدية، بالتدخل ومساعدتها على السفر، تتقدم بطلب ترشيح رسمي للانتخابات البلدية وهو ترشيح يأتي بالصدفة في مشهد كاريكاتوري بعد أن يرفض مدير مكتب راشد السماح لمريم بمقابلته بدعوى أن اليوم مخصص فقط لمقابلة المرشحين!
يصبح الفيلم منذ تلك اللحظة مكرسا لتوجيه الاهتمام الى “المعركة” الغير مسبوقة التي تخوضها مريم أمام مرشح من الرجال كان دائما يفوز بالمقعد، كيف يمكن أن تنظم الدعاية بمساعدة شقيقتيها، وكيف تنظم حفلا وتدعو عددا من النساء لإقناعهن بانتخابها خاصة وأن هدفها تعبيد الطريق الى مستشفى الطوارئ وهو طريق طيني ممتلئ بالمياه مما يعيق حركة سيارات الإسعاف، ثم كيف تواجه الرجال مباشرة في الخيمة التي اجتمعوا فيها ضاربة عرض الحائط بالتقاليد، وبعد أن تكون قد نزعت النقاب، ولكنها رغم ذلك تُواجه بالإعراض والرفض من جانب كلٍ من النساء والرجال.
دور الفن
تنتهج هيفاء المنصور في الإخراج، أسلوبا يعتمد على المونتاج المتوازي أي الانتقال المستمر بين ما تقوم به مريم مع شقيقتيها، بعد أن اعتذر والدها عن مساعدتها أو الوقوف بجانبها نظرا لقيامه مع فرقته بجولة غنائية في عموم البلاد، وبين رحلة الأب وجولات فرقته الغنائية وما تتعرض له من متاعب وما تحلم به حيث تأمل أن يلتحق أفرادها بالفرقة الوطنية للموسيقى التي أعلنت الحكومة بالفعل البدء في تأسيسها. إلا أن شخصية الأب تبدو في الحقيقة أكبر من الواقع، فهو يتمتع بروح ليبرالية عظيمة تجعله يسمح لابنته بأن تفعل ما تشاء وتعتمد على نفسها تماما وتخرج الى العمل بكل حرية، وإن كان في قرارة نفسه يشعر بالقلق عليها.
إلا أن الفيلم يبرر ذلك في ضوء أن الاب رجل متفتح ومطرب يؤمن بدور الفن، ويدعو إلى ضرورة أن ترعى الدولة الفنانين، كما يصور الفيلم كيف تتعرض الفرقة الموسيقية لتهديدات من الجماعات الإرهابية التي تعادي الغناء في الأماكن العامة.
والحقيقة أن هيفاء المنصور تجمع في فيلمها بشكل يكاد يكون حرفيا، جميع المتناقضات: السماح للمرأة أخيرا بقيادة السيارات (مريم تقود سيارتها بنفسها)، ولكن في الوقت نفسه استمرار الفصل بين النساء والرجال، ومنع الاختلاط في الحفلات بما في ذلك حفلات الزواج.. النظرة التقليدية المتشددة لدور المرأة كطبيبة (المريض المسن الذي يرفض أن تفحصه مريم) ثم كيف يعترف هذا المريض نفسه بعد أن تنقذ هي حياته بخطئه ويصفها بأنها الطبيبة المثالية.
هناك لقطات خارجية من السيارة وكذلك من الحافلة التي تقل الفرقة الموسيقية، للمناظر الطبيعية بين المدن مع امتداد الجبال والصحراء، وهناك اهتمام كبير بالموسيقى والغناء، الذي يمتزج فيه العاطفي بالديني، وتركيز مقصود على فكرة أن الدين مازال هو المؤثر الثقافي الذي يهيمن على المجتمع حتى في غناء الأفراح. هناك مثلا ذلك المشهد الذي نرى فيه جميع الموظفين وقد توقفوا عن العمل وانصرفوا يؤدون الصلاة، وهناك مشهد آخر لصلاة النساء في المسجد، ومناظر للجوامع وأصوات الآذان التي ترتفع في كل مكان..
الفيلم ينقد ويمتدح، يرحب بالتطورات، وينتقد التباطؤ في الإصلاح، يشير الى التأثير السلبي لنظرة الرجل للمرأة، لكنه يدين أيضا نظرة المرأة لدور المرأة بل تجعل المنصور بطلتها مريم تستنكر مرات عدة خلال حواراتها مع شقيقتيها أو والدها عمل والدتها الراحلة مغنية الأفراح، حينما تردد مرارا أنها “لن تكون مثلها”. ومن التناقضات في الفيلم أن تكون مريم الأكثر تحررا من شقيقتيها في إصرارها على وضع النقاب (قبل أن تخلعه)، والتناقض الآخر المفاجئ الذي يحدث عندما تمسك الميكروفون وتغني في أحد الأفراح إشارة الى أنها قد اقتنعت بما كانت تؤديه أمها الراحلة بعد ان استمعت للشريط الذي أهداه لها والدها.
تفشل مريم كما كان متوقعا في الانتخابات البلدية رغم الدعاية والجهود الكبيرة التي بذلتها، والاستخدام الجيد لوسائل التواصل الاجتماعي والميديا الجديدة في الدعاية والوصول لأكبر عدد من الناس (هناك تركيز كبير في الفيلم على تأثير هذه الوسائط على الشباب في السعودية)، لكن الفيلم يشير في نهايته إلى أن إقدام “المرشحة المثالية” على الترشح، ما هي سوى خطوة أولى صحيحة على الطريق، لكن طريق التغيير مازال طويلا.
صورت هيفاء المنصور فيلمها بأسره في السعودية. واستعانت بطاقم تمثلي كامل من السعودية، وأدارت الممثلين الذين يقفون أمام الكاميرا للمرة الأولى بمارة وكفاءة لا شك فيها، في مقدمة هؤلاء جميعهم، ميلا الزهراني (في دور مريم) وهي تتمتع بوجه جميل وحضور خاص مميز وصوت جميل، وقد أدت الدور بمهارة وتميزت بوجه خاص في عدد من المشاهد منها مشهد الحوار التليفزيوني، ومشهد مواجهتها مع الرجال في الخيمة، كما تميزت معها أيضا كل من نورا العوض (ساره) وداية (سلمى) وخالد عبد الرحيم (في دور الأب عبد العزيز) بصوته الشجي وتلقائيته وهدوء شخصيته. ولا شك أن الموسيقى التي برز فيها دور العود بوجه خاص، أضفت جمالا إضافيا على الفيلم.
يجب أن نضيف أن المشاركة الألمانية في الإنتاج والجوانب التقنية كلها، ضمنت مستوى جيدا من حيث الصورة والصوت، فقد اشترك مع المنصور في كتابة السيناريو الألماني براد نيمان، وأدار التصوير باتريك أورث، وصمم المناظر أوليفر ميدنجر، وقام بعمل المونتاج أندرياس رودراشوك، ووضع الموسيقى فولكر بيرتلمان، وصممت الملابس هاكيه فادميرشت.