المخرج الروسي يوري بيكوف.. من الهامش الاجتماعي إلى العالمية

وُلد يوري بيكوف سنة 1981 في مدينة نوفوميتشورينسك العمالية الصغيرة، في قلب منطقة ريازان. لم يكن هناك، في الظاهر، ما يُؤهله ليصبح شخصية بارزة في السينما الروسية المعاصرة، فقد طبعت طفولته بالفقر وعدم الاستقرار العائلي الكبير، إذ غادر والده، سائق الشاحنة، البيت في أواخر الثمانينيات، تاركا والدته العاملة في المصنع لتُربي ابنها وحيدة. وغالبًا ما يستحضر بيكوف في مقابلاته ذكريات تلك المرحلة.

يُروي أنه عرف الجوع إلى حد سرقة الخضروات من الحقول الجماعية، وأنه احتك عن قرب بأجواء العنف التي كانت تسود العصابات المحلية الصغيرة. هذه التجارب، التي عاشها كصراع يومي من أجل البقاء، غذّت مخيلته بشكل دائم وفسّرت قسوة سينماه.

رغم هذا السياق الصعب، وجد بيكوف مبكرًا متنفسا في الفنون والثقافة. قرأ كثيرا، وبدأ يكتب نصوصًا قصيرة، كما ألّف موسيقى لفرق محلية، وفي الوقت نفسه كان يرتاد المسرح في مدينته. هذا الشغف بالخشبة وبالسرد دفعه إلى التفكير في مساره الفني. وبعد عدة محاولات فاشلة لدخول مدارس المسرح، سنحت له الفرصة حين لفت انتباه الممثل بوريس نيفزروف، الذي شجّعه على الالتحاق بالأكاديمية الروسية للفنون المسرحية بموسكو، ثم مواصلة دراسته في المعهد الحكومي الروسي للسينما سيرغي غيراسيموف، المدرسة السينمائية الأشهر في روسيا.

كانت تلك السنوات التكوينية حاسمة: فقد صاغ خلالها بيكوف هوية مزدوجة، كممثل ومخرج. ولتمويل دراسته، كثّف أدواره الصغيرة في المسرح (خصوصًا في مسرح موسكو الفني ومسرح الجيش) وشارك في مسلسلات تلفزيونية شعبية. لكنه كان يشعر بالفعل أن لغته الحقيقية ستكون عبر الإخراج. ومنذ أعماله الأخيرة في المعهد، بدأ يجرب إخراج أفلام قصيرة وإعلانات، حيث ظهر بوضوح ميله إلى الواقعية القاسية ومعالجة المعضلات الأخلاقية.

في عام 2009 قدّم أول فيلم قصير بارز له بعنوان (الرئيس)، مثّل فيه بنفسه دور ضابط في جهاز الأمن الفيدرالي. نال الفيلم جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان كينوتافر، وهو ما شكّل قفزة غير متوقعة لهذا الفنان الشاب القادم من بيئة متواضعة. فتح هذا النجاح أمامه الطريق نحو أول فيلم طويل له، (العيش، 2010)، وهو دراما متوترة جذبت فورًا انتباه النقاد بفضل كثافتها وغياب أي تسوية فنية فيها.

وسرعان ما فرض بيكوف نفسه كصوت متفرّد. حيث تم اختيار فيلم (الرائد، 2013) للمشاركة في أسبوع النقد بمهرجان كان، مؤكّدًا مكانته على خريطة السينما العالمية. أما (الأحمق، 2014) فقد جلب له اعترافًا أوسع: إذ أشاد النقاد بالفيلم لما عرضه بلا تزييف من فساد ولا مبالاة اجتماعية، وأدرجته نيويورك تايمز ضمن أفضل أعمال السنة. أما (المصنع، 2019) فقد أبرز قدرته على تحويل الواقع الروسي إلى استعارة كونية عن السلطة والكرامة والبقاء.

وهكذا، في أقل من عشر سنوات، انتقل بيكوف من كونه شابًا مغمورًا في مدينة إقليمية إلى مخرج معترف به في كبرى المهرجانات الدولية. هذا المسار السريع، الذي تشكّل على تربة الهامش والمعاناة الشخصية، جعله فنانًا استثنائيًا: طفلًا من الهوامش صار صوتًا لسينما روسية صريحة لا تعرف المساومة، يتردد صداها إلى ما هو أبعد من حدود بلاده.

سينما اللا مساومة والواقعية

إن ما جعل صانع الأفلام يوري بيكوف يفرض نفسه بسرعة هو أن سينماه تتميّز بـ صرامة أخلاقية وجمالية نادرة في المشهد الروسي المعاصر. فبينما يسعى مخرجون آخرون إلى الإبهار البصري أو إلى الكوميديا التجارية، يصوّر بيكوف روسيا كما هي: مجتمعًا متصدّعا، حيث يواجه الناس العاديون نظامًا فاسدًا أو غير مبالٍ، وحيث تتحول كلّ قرارات الفرد إلى مأزق أخلاقي يجرّ خلفه نتائج مأساوية.

يفضّل بيكوف مواقع تصوير ناطقة بواقعها: عمارات متداعية، مصانع مهجورة، مراكز شرطة خانقة، مصحّات منسية. لا مجال للزينة أو للتجميل؛ فالكاميرا تلتقط قسوة اليومي الروسي، وتحوّله إلى مادة درامية صافية. هذه الواقعية ليست جمالية فحسب، بل هي التزام أخلاقي: هو يصور ما يحاول الآخرون تجاهله.

في فيلم (الرائد، 2013) تبدأ الحكاية بحادث سيارة عابر، لكنه يكشف شبكة كاملة من الفساد والتواطؤ. في فيلم (الأحمق، 2014) يكتشف سبّاك شاب انهيارًا وشيكًا لعمارة سكنية ويحاول عبثًا إنقاذ سكانها من لا مبالاة السلطات. وفي (المصنع، 2019) يحتجز العمال مديرهم الأوليغارشي كرهينة في ما يشبه «ويسترن» روسيا قاتما. في كل هذه القصص، ينجح بيكوف في تحويل مواقف بسيطة إلى أمثولات كونية حول العدالة والكرامة والمسؤولية.

من سمات بيكوف الجوهرية غياب النهايات المطمئنة. فبالنسبة له، منح الجمهور خلاصًا زائفًا خيانة للواقع. لذلك تنتهي أفلامه في الغالب بالموت أو الهزيمة أو الفشل. ليس ذلك بدافع التشاؤم المجاني، بل لإحداث تطهير داخلي لدى المشاهد، قناعةً منه أن المواجهة مع الألم أصدق من الوهم.

أبطال بيكوف ليسوا قدّيسين ولا أشرارًا. إنهم أشخاص عاديون يجدون أنفسهم أمام خيارات مستحيلة: ضابط الشرطة في الرائد، السباك في الأحمق، العمّال في المصنع. عبرهم، يطرح المخرج سؤاله المركزي: ما قيمة النزاهة في مجتمع يدفعك إلى التنازل؟

يعترف بيكوف بتأثره بـ هوليوود السبعينيات (كوبولا، سيميونو، بيكينبا) وبـ السينما الأوروبية (ألمودوفار، سورّينتينو، أوديار). لكنه يظل ابن التقاليد الروسية التي جسّدت «الرجل الصغير» منذ غوغول وتشيخوف حتى دوستويفسكي. بذلك يمزج بين جذور محلية عميقة ورؤية إنسانية شاملة.

طوال سنوات، ارتبط اسم يوري بيكوف بـ رؤية قاتمة للعالم. في أفلامه الأولى، بدا وكأنه مقتنع أن الإنسان الشريف محكوم عليه بالمعاناة وسط مجتمع غارق في الفساد واللامبالاة. كان يعتبر أن الألم هو الحالة الطبيعية لكل من يرفض الكذب. هذه القناعة غذّت دراماته القاسية في العقد الماضي.

لكن مع مرور الوقت، بدأ هذا «الوقود الأسود» ينفد. بعد فيلم المصنع (2019)، قدّم (الحارس)، وهو عمل أكثر حميمية يدور في منتجع للاستشفاء مهجور. هنا لا يتحدث عن الفساد المؤسسي بقدر ما يغوص في الوحدة والشعور بالذنب وفشل العلاقات الإنسانية. في حواراته يعترف أنه عاش «حياة بلا فرح»، وأن نقده السياسي لم يكن إلا قناعًا يخفي فراغًا داخليًا مؤلمًا.

منذ 2025، بدأ خطابه يتغير جذريًا. قال إنه صار يبحث عن «شعاع من الضوء، ابتسامة، بساطة»، بعدما كان يرفض فكرة العائلة، اكتشف أن العزلة المستمرة وهم قاتل. فالعلاقات، حسب قوله، حاجة أساسية مثل الخبز. رفض الحب ليس اختيارًا حرًا بل عجز عن مواجهة صعوباته. واليوم، صار يقبل فكرة بذل الجهد في علاقة عاطفية، بعد أن كان يرى التعقيد مبررًا للهرب.

هذا لا يعني أن أفلام بيكوف تحولت إلى قصص وردية. أعماله الأخيرة مثل «المتهورون» (2024) عن وحشية التسعينيات الروسية، تظل مظلمة وقاسية. لكنها تنطوي على منظور جديد: فهم كيف يمكن للإنسان أن يحافظ على كرامته ويبني روابط حتى وسط الخراب.

بهذا، ينتقل بيكوف من مخرج اليأس المطلق إلى فنان يبحث عن التوازن. لا يتخلى عن صدقه ولا عن واقعيته القاسية، لكنه يترك مكانًا جديدًا للأمل والعاطفة. وربما في هذا التناقض بالذات – بين القسوة والرغبة في الضوء – يكمن سر فرادته كأحد أهم الأصوات السينمائية الروسية في زمنه.