الفيلم الكوري الجنوبي الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان
أفلام كثيرة جيدة شاهدناها في مسابقة الدورة الـ 72 من مهرجان كان السينمائي، منها ما ارتفع إلى عنان السماء ليحلق فوق السحب التي ظلت تهدد بإفساد العيد السينمائي الكبير مع سقوط الأمطار دون توقف لعدة أيام، ومنها ما لم يكن على مستوى التوقعات وخيب آمالنا. أما الفيلم القادم من كوريا الجنوبية لأهم مخرجيها، “بونغ يون هو” Bong Joon-ho فكان مفاجأة سارة لعشاق السينما حقا.
يتناول المخرج الكوري في أفلامه عادة مشكلة التفاوت الاجتماعي والطبقي في دولة يفترض أنها في مقدمة “النمور الآسيوية”، وهو في فيلمه الجديد “طفيل” Parasite، وهو عنوان يرمز لفكرة التسلق والتطفل والعيش على ما حققه غيرك، لكنه يتعلق أيضا بالطبقة الطفيلية التي تجني الكثير من المال وتتمتع بحياة الرفاهية الكاملة، من دون جهد حقيقي.
للوهلة الأولى يذكرنا هذا الفيلم البديع بالفيلم الياباني الفائز بـ”السعفة الذهبية” في مهرجان كان العام الماضي وهو “لصوص المتاجر”، الذي كان يقترب أيضا من منطقة مسكوت عنها في السينما اليابانية هي مشكلة الطبقات الفقيرة المعدمة، وكيف تتحايل من أجل الاستمرار في الحياة. إلا أن “طفيل” يفوق الفيلم الياباني بأسلوبه الذي يستغني عن الطابع الواقعي الجاف، ويستخدم السرد القصصي المؤثر المحمل بالكثير من الرموز والإشارات الساخرة المباشرة والمستترة. كذلك يستخدم بونغ يون هو في فيلمه بعض عناصر سينما ما بعد الحداثة، حينما يمزج بين أساليب عدة: الكوميديا والدراما العائلية وفيلم “الأكشن” وفيلم الرعب والعنف المغال فيه حد الكارتونية، تعلو فيه جرعة “السخرية السوداء” خاصة في نصفه الأول، ثم تتجه الكوميديا نحو الدراما الاجتماعية المؤلمة، لتكشف عن عالم خفي مليء بما يشبه الأساطير القادمة من جوف الماضي، ويتحول الأسلوب بالتالي من الكوميديا السوداء إلى أسلوب أفلام العنف وينتهي بمذبحة شكسبيرية دموية مدمرة تجعل الدماء تتجمد في العروق.
البعض يفهم ما بعد الحداثة على أنها الأفلام التي لا يمكن فهمها، المعقدة المركبة في السرد، بينما ليس هذا حال الفيلم الكوري، ومن بين عناصر ما بعد الحداثة التي يمكننا رصدها فيه: أولا الطابع الشعبي الذي يبتعد به عن النخبوية ويجعله سهلا متاحا لأن يفهمه ويستوعبه ويستمتع به الجمهور العادي غير المثقف. وثانيا المزج الواضح بين الأساليب، واللعب على أفكار سادت أفلاما كثيرة ألفناها ونعرفها جيدا من تراث السينما في بلادنا وفي العالم، وثالثا: التلصص الجنسي الذي يتجسد في واحد من أهم المشاهد الكوميدية في الفيلم ولكن دون أن تطغى الكوميديا على الإيروتيكية الموجودة في صميم المشهد. ورابعا: يكاد “المؤلف” يغيب عن الفيلم، فهو لا يهتف بين المشاهد “أنا هنا.. موجود” فالأسلوبية مستترة، والانتقالات منطقية ومبررة، والممثلون يبدون كما لو كانوا هم من يدفعون الأحداث.
هذا فيلم يختلف عن باقي الأفلام التي شاهدناها في صدقه وطرافته وجماله الشكلي وقوة موضوعه وأسلوب مخرجه في معالجة الموضوع بحيث يقربه من الجمهور العادي فيصبح فيلما من الأفلام الشعبية التي يمكن للجمهور أن يتفاعل معها ببساطة، لكن من خلال هذه البساطة الظاهرية يوجد سيناريو محكم دقيق، مكتوب في توازن مذهل بين الشخصيات والأحداث، ينتقل بين الكوميدي والدرامي، يعرف كيف ومتى ينتقل من هنا إلى هناك.
بين عالمين
هناك أسرتان: الفقيرة والثرية، وعالمان يتحددان من خلال تفاصيل الصورة دون حاجة لكلام كثير، والانتقال بين العالمين صادم للغاية، فالفيلم يدخلنا إلى ما لا يمكننا تخيل وجوده من مظاهر فقر في مدينة سول عاصمة كوريا الجنوبية، خلافا للبطاقات البريدية السياحية الملونة الشائعة. نحن أولا أمام أسرة السيد “كي تايك” المكونة منه وزوجته وابنته وابنه الشابين. وهذه أسرة فقيرة معدمة تعيش في شقة حقيرة ضيقة قذرة في الطابق الأسفل تحت الأرضي.. يوما بعد يوم يقف أحد السكارى يتبول عند النافذة الوحيدة التي تطل منها الأسرة على حارة ضيقة كئيبة.
هذه الأسرة تعيش على الكفاف بعد أن عجز أفرادها عن العثور على عمل حقيقي، وقد تراكمت عليها الديون، وقد حصلت مؤخرا على عمل بسيط لا يفي بالاحتياجات الضرورية للحياة، هو تعليب شطائر “البيتزا” التي تُنقل للبيوت. تتمكن ابنة كي تايك الشابة البارعة من تزوير شهادة لها ولشقيقها من جامعة أُكسفورد. وبموجب هذه الشهادة يتمكن الابن من خداع أسرة رجل المال والأعمال السيد بارك، ليحصل على عمل لتدريس الإنكليزية لابنة الأسرة الشابة الوحيدة التي سرعان ما تقع في غرام الشاب الذي تطلق عليه أمها الطيبة القلب البريئة الساذجة “كيفن”.
ويستغل “كيفن” سذاجة “مدام بارك” ليقنعها بأن ابنها الطفل الصغير يعاني من بعض الاضطرابات التي تستوجب الاستعانة بمعلمة خاصة تفهم جيدا في التعامل مع الحالات النفسية المعقدة من هذا النوع، وينجح بالتالي في تقديم شقيقته باعتبارها هذه المعلمة المتخصصة الحاصلة على أعلى الشهادات من أكسفورد، غير أنه لا يذكر بالطبع أنها شقيقته.
لكن هناك أكثر من مشكلة تواجه كيفن وشقيقته: أولها سائق الأسرة الذي يتشكك في حقيقة المعلمة الشابة عندما يذهب بناء على طلب من مدام بارك لتوصيلها إلى منزلها المفترض ذات ليلة ممطرة، لكنها تفعل كل شيء حتى لا يكتشف حقيقتها وحقيقة حياتها المتدنية. تبتكر الفتاة حيلة لتدخل الشك في ذهن السيد بارك في سائقه المخلص فيتصور أن السائق يمارس الجنس في سيارة بارك الفاخرة، مع العاهرات، ليتم الاستغناء عن خدماته. ويقترح شقيقها الاتصال بإحدى الوكالات التي يعطي السيد بارك البطاقة المزورة الوهمية للوكالة، لكي يرسي الدور في نهاية الأمر على والده “كي تايك” الذي يبدأ العمل بالفعل في قيادة سيارة رب الأسرة الثرية.
على العكس من الشقة الضيقة القذرة المليئة بالحشرات، تقطن أسرة السيد بارك في قصر فخم مليء بكل وسائل الراحة والترف، له حديقة واسعة، ويحتوي على قاعة كبيرة للجلوس تطل على الحديقة، إلى جانب التمتع بكل ما لذ وطاب من المأكولات والأطعمة. والأهم بالطبع: شبكة “الواي فاي” السريعة التي ستفتن أسرة كي تايك فيما بعد، وهي الأسرة التي تكافح في “الملجأ” الذي تعيش فيه من أجل “التقاط الإشارة”!
التورط
لكن الطمع لا يتوقف. فالأسرة الفقيرة تخطط لانتقال العضو الرابع والأخير أي الأم للعمل في منزل أسرة بارك خاصة وأن مدبرة المنزل المخلصة العجوز التي قضت سنوات طويلة في خدمة الأسرة بإخلاص شديد، تبدأ أيضا في التشكك في حقيقة كيفن وشقيقته ووالدهما. تجتمع أسرة كي تايك في المساء تبحث أمر هذه الخادمة الذكية التي تختلف عن مدام بارك الساذجة. ويكون الحل هو أن تدخل الابنة الشابة في روع ربة المنزل أن الخادمة مصابة بمرض السل الرئوي (رغم الإقرار بأنه لم يعد له وجود من كوريا!)، وأنه من الخطورة بمكان تركها بالقرب من الطفل. وبالفعل تنجح الخطة ويتم الاستغناء عن الخادمة.
لقد اكتمل النصاب، وأصبح الأفراد الأربعة في أسرة كي تايك يحصلون على دخل شهري كبير، لكن الأمور لن تستمر على هذا النحو، فسوف تكشف الأيام مفاجآت لم تكن في الحسبان، وتلتوي الحبكة وتأخذنا من خيط إلى خيط آخر، ويصبح الفيلم أكثر قتامة وجدية ويكتسي بالطابع الدرامي، وتضيع الأخلاقيات، ويصبح كل شيء مباحا، لكن الدراما التي تنتج عن الصراع الرهيب من أجل القبض على المصائر ولو بانتهاك كل القيم، لا بد أن تنتهي إلى المأساة.
إدانة نظام
من بين فضائل هذا الفيلم أنه لا يتبنى الطرح الساذج في تصوير العلاقة بين الأغنياء والفقراء، فهو لا يتمسك بالفكرة التقليدية الشائعة التي تجعل الفقراء دائما أناسا طيبين يتمسكون بالأخلاق وقيم الشرف والنزاهة، عكس الأثرياء الذين لا بد أن يكونوا أشرارا ينهبون دون حساب ويدوسون على كل القيم. فالفيلم لا يهدف إلى إدانة طرف وتبرئة الطرف الآخر، بل تعرية النظام الاجتماعي القائم وإدانته.
الفقراء إذن ليسوا أنقياء دائما، والأغنياء ليسوا أشرارا دائما. فالمال يمكن أن يجعل المرء يبدو أيضا رقيقا ناعما وهو المعنى الذي تنقله زوجة الفقير عندما يمتدح رقة مدام بارك. إننا نرى كيف يتحايل الفقراء بالكذب والغش والتزوير والخديعة للحصول على ما ليس لهم ولكنه ربما يكون من حقهم، فغياب العدالة والتوازن هو الذي يدفعهم لسلوك هذا السبيل. ونرى كيف يتصف الأثرياء بطيبة القلب والرغبة في مساعدة من يخدمونهم والوقوف إلى جانبهم وكيف يعاملونهم بكل رقة ولطف.
لكن هناك فكرة رمزية واضحة تكشف أيضا عن استعلاء هذه الطبقة على غيرها من الطبقات الدنيا. هذه الفكرة تدور حول “الرائحة”. فالسيد “بارك” (لاحظ دلالة الاسم الساخرة)، يشكو لزوجته من أنه يشم رائحة قذرة تصدر عن سائقه “كي تايك” في السيارة.. ثم يشم رائحته مرة أخرى دون أن يعرف بوجوده عندما يختبئ كي تايك مع أفراد أسرته تحت فراش بارك وزوجته بعد أن يكونوا قد تسللوا جميعا للاستمتاع بالحياة الرغدة لعدة أيام في القصر الفسيح في غياب السيد بارك وأسرته الذين ذهبوا في عطلة على شاطئ البحر لكن عاصفة غير متوقعة ترغمهم على العودة فجأة.
في هذا الحوار يقول الرجل لزوجته إن هذه الرائحة تصدر عمن يبقون لمدة طويلة تحت الأرض، ثم يعمم أكثر فيقول إنها تصدر عادة عن الذين يستخدمون قطارات الأنفاق، أي المنتمين للطبقات الأدنى. هذا الشعور بالاستعلاء، والتأفف من “الأدنى” سيدفع ثمنهما السيد بارك طيب القلب في النهاية، ولكن الجميع سيدفعون الثمن أيضا.
ليس مسموحا لنا بكشف ما تكشفه لنا التواءات الحبكة الممتعة في الثلث الأخير من الفيلم حتى لا نفسد متعة المشاهدة. فالأفلام صُنعت أصلا لكي يشاهدها الجمهور لا لكي يكتفي بالقراءة عنها، وهدف الكتابة هو دفع القراء لمشاهدة الأفلام وليس العكس.
ينقل الفيلم رسالته في هجاء مجتمع الظلم الاجتماعي دون شعارات جوفاء وكلمات كبيرة، بل في سياق فني خلاب، يأسر القلوب، يجعل المشاهدين يستمتعون بالمقالب الطريفة، وبالمواقف التي لا يمكن توقعها، وبالحوار الساخر الذي يصل في أحد المشاهد إلى قيام زوجة كي تايك بالمحاكاة الساخرة لمذيعي الأخبار في تلفزيون كوريا الشمالية وكيف يشيدون في أسلوب خطابي بحكمة وتبصر وإرادة الزعيم- كيم إيل يونغ، بطل السلام الذي سيخلص العالم من السلاح النووي.. الخ!
هناك عناية كبيرة تصل حد الكمال في تصميم الديكورات خاصة ديكور قصر أسرة بارك، واختيار جيد ثم إدارة ممتازة لمجموعة الممثلين جميعا. وهناك استخدام مذهل للقدرات التقنية الحديثة للسينما كما تتجسد في المشاهد الهائلة للطوفان الذي يجتاح المدينة ويؤدي إلى طفح مياه الصرف الصحي التي ترتفع في الأحياء الفقيرة وتغرق البيوت والبشر، ومن بينها بيت أسرة كي تايك المسكينة التي تجد نفسها بين المشردين الذين أصبحوا بلا مأوى.
وفي الفيلم الكثير من الإشارات التي ترمز لأشياء مستقرة في الضمير الشعبي في كوريا، يمكن بالطبع أن يلتقطها ويفهمها الجمهور الكوري الذي سيشاهد الفيلم نهاية الشهر القادم بعد أن يصبح في دائرة التوزيع هناك.
هل يحصل “طفيل” على “السعفة الذهبية”؟ لا شيء مستبعدا بالطبع. بل هو في رأيي قد يكون “الأقرب” إلى الفوز بها، لكن منافسه القوي هو “ذات مرة في هوليوود” للساحر الكبير تارانتينو. لكن يجب أن ننتظر. فمن يدري!
المقال نشر في “العرب” الدولية- لندن
بتاريخ 24 مايو 2019