الفيلم التونسي “عايشة”.. فوضى ما بعد الثورة
أمير العمري– لندن
لم أتمكن من مشاهدة الفيلم التونسي “عايشة” عند عرضه ضمن تظاهرة “آفاق” بمهرجان فينيسيا السينمائي هذا العام، لكني حرصت على مشاهدته عند عرضه أخيرا بمهرجان لندن السينمائي الـ68.
“عايشة” هو الفيلم الروائي الطويل الثاني لمهدي برصاوي بعد “بيك نعيش” (2019). وهو دون شك، أكثر إتقانا وبراعة وإقناعا، سواء من حيث السرد أو في الإخراج، عالما بأن برصاوي هو نفسه الذي كتب سيناريو فيلمه.
إنه يقطع هنا شوطا أبعد كثيرا من فيلمه الأول، ساعياً لتقديم رؤية واقعية لتونس ما بعد الثورة، وهي رؤية واقعية وإن كانت لا تخلو من البعد الرمزي، ومن الإشارات الكامنة التي تشير إلى استحالة الوصول إلى اليقين ما لم يتم الكشف عن الحقائق.
إنه ينطلق من الذاتي إلى الموضوعي، ومن الشخصي إلى الاجتماعي والسياسي، ومن الواقعي إلى الرمزي، وخلال الطريق، يراكم الكثير من التفاصيل، ويكشف تدريجيا عن مزيد من الأبعاد التي تجعل الصورة تزداد تعقيدا، فهي ليست مجرد مشكلة شخصية بل أزمة مجتمع كامل، حتى لو طغت بعض التفاصيل أحيانا، على الحبكة وأثقلت عليها.
يريد برصاوي ألا يفقد المشاهدون الرغبة في متابعة فيلمه، ولذلك فهو يبتكر يلتوي بالحبكة، وينتقل في السرد من حالة إلى أخرى، يصنع قدرا من الإثارة التي تصبغ عادة أفلام التحقيق الجنائي، لكنه لا يفقد الأساس الأولي له، أي كونه أساسا، فيلما عن رغبة فتاة شابة في التحرر والانعتاق من قيود العمل المهين المهدد، وضغوط العائلة التي لا تتوقف والتي تستنزفها تماما، كما أنها شعرت باليأس من التلاعب بعاطفتها من قبل مديرها الذي يتشبث بعلاقته الجسدية السرية معها، لكنه يتهرب من الوفاء بوعوده به.
الشخصية الرئيسية الحاضرة في الغالبية العظمة من مشاهد الفيلم، والتي نشاهد الأحداث من وجهة نظرها، هي “آية”، فتاة نهاية العشرينات التي تعمل في فندق سياحي في ضواحي مدينة توزر في الجنوب التونسي، وذات يوم تنقلب السيارة التي تنقلها مع عدد من العاملين بالفندق، ويموت الجميع بينما تنجو آية (وهي الحادثة الحقيقية التي يقول برصاوي إنها التي أوحت له بالفكرة)، لكن السلطات تعلن أن وفاة جميع ركاب السيارة ومن بينهم آية نفسها بالطبع. نراها بعد ذلك في مشهد طريف، وهي تشاهد من بعيد جنازتها. هنا تلوح أمام آية فرصة للتخلص من حياتها القديمة وبدء حياة جديدة في تونس العاصمة، كشخصية جديدة، بعيدا عن ماضيها الذي لم تجن منه سوى الشقاء واليأس.
مسلحة بكل ما لديها من مدخرات، تتجه إلى العاصمة، تعثر على غرفة للسكن مع امرأة تدعى “لبنى” تزعم أنها حاصلة على الدكتوراه في العلوم الإنسانية، لكن الفيلم سيكشف لنا أنها في الحقيقة أقرب إلى “قوادة”، فليس لديها عمل حقيقي، بل تتردد كل ليلة على الملاهي الليلية وتصر على اصطحاب “آية” معها بعد أن تمنحها بعض ملابسها التي تكشف عن أجزاء من جسدها، وتقدمها لأحد الرجال من أصحاب النفوذ.
طبعا آية تخفي عن لبنى ماضيها وأصلها وحكايتها، وتتخذ لنفسها اسم “أميرة”. وذات ليلة، في إحدى السهرات مع أصدقاء لبنى، يقترب منها شاب يدعى “كريم” يحاول التودد إليها لكنها تصده، ويتدخل صديقها وتقع مشادة يتدخل على إثراها حراس الملهى الليلي ويضربون كريم حتى الموت.
تجد آية/ أميرة، أن شهادتها مطلوبة أمام الشرطة في حادث القتل خصوصا بعد ان تحول إلى حادث سياسي يشعل الشارع ويثير غضب الجموع الثائرة التي تندد بالشرطة، وأمام ضابط الشرطة سيتم الكشف عن حقيقة شخصيتها، لكن سجلات الشرطة لا تظهر شيئا عن موتها، وبسبب خوفها من الاتهام بممارسة الرذيلة والتعرض للسجن لمدة خمس سنوات، تقدم آية/ أميرة شهادة زائفة، خلاصتها أن كريم كان يحاول الهرب وسقط على السلم ومات.
لقد أصبحت تنتقل الآن من كذبة إلى أخرى، ولا يصدقها ضابط الشرطة “فارس” ويحاول الوصول إلى الحقيقة، لكنها تكشف له كيف أنها عمليا في حكم المتوفاة وبالتالي لا يمكن مقاضاتها. إلا أنها مع ذلك تمر بأزمة نفسية حادة، يعذبها ضميرها ويضغط عليها، ولابد أن تفعل شيئا بعد أن تحولت قضية مقتل كريم إلى قضية سياسية وثبت ضلوع اثنين من ضباط الشرطة السرية في قتله مع حراس الملهى.
الفيلم يحاكم مجتمع ما بعد الثورة في تونس من خلال تلك القصة الرمزية، التي تركز إلى الوضع الحالي لتونس نفسها، التي لم تستطع بعد أن تواجه نفسها وماضيها، وتعترف بالحقائق، فبعد طوفان الثورة، استعاد النظام القديم سطوته، ومازالت الشرطة مطلقة اليد، تتبع نفس الممارسات القديمة.
يكثف وضع فتاة تونسية في مجتمع ذكوري، يحاكم المرأة من شكل ملابسها، ويعتبرها مادة سهلة للاقتناص ويعتدي عليها بفظاظة (كما نرى بالفعل)، ويصعب أيضا أن تحيا بمفردها في المدينة الكبيرة من دون أن تحظى كما فعلت لبنى، بحماية الرجال الأقوياء ذوي النفوذ.
إنها دائرة مكتملة من الفساد والتستر والقمع، لن ينفع معها الكذب على الذات والهرب من مواجهة الحقيقة. ولكن هل أصبح قدر “آية أن تعيش كإنسانة ميتة رسميا لكي تتمكن من أن تعيش وتصبح “عايشة”، وهو الاسم الذي تختاره لنفسها في النهاية لكي تفلت مجددا من ماضيها الكئيب. وهل ستظل تتمكن من الهرب من نفسها ومن ماضيها، وكيف سيكون المستقبل، وهل ستحقق التحرر الذي تنشده؟ أم أن تحررها مرتبك بتحرر المجتمع نفسه؟
كلها تساؤلات لابد أن تتداعى في الأذهان ونحن نشاهد الفيلم، ونتابع مشكلة بطلته التي تتمكن بفضل ذكائها الفطري وفطنتها وقدرتها على التلاعب بالنظام، من الإفلات المؤقت، لكن الفيلم يشير أيضا إلى استحالة النجاح في مواصلة العيش من جانب “عايشة”!
الأداء بشكل عام جيد من جانب الممثلة “فاطمة صفر” في الدور الرئيسي بوجهها الذي يمتليء بالكآبة والشحوب ويعكس توترها الداخلي وخوفها الفطري، وينجح الممثل نضال سعدي في أداء دور فارس وغن كان قد بالغ كثيرا في التجهم واقتضى الأمر مرور وقت طويل قبل أن نعرف أزمته الشخصية.
تتميز أيضا الممثلة ياسمين ديماسي في دور “لبنى”، وهي غير مسؤولة عن تكرار مشاهد الخروج الليلي وتكرار الإشارات البعيدة إلى حقيقة دورها في الحياة، رغم أن هذا كان يجب أن يكون واضحا من البداية خصوصا وأننا لا تمارس أي عمل، ولاغم ذلك تتمتع بحياة مرفهة وملابس ثمينة وسهرات وعشاء في الخارج كل ليلة تقريبا.
وبوجه خاص أعجبني كثيرا أداء هالة عياد في دور صاحبة محل الحلوى والمخبوزات التي تقيم علاقة إنسانية رائعة مع آية، تعكس الشعور المشترك بين النساء في المجتمع التونسي، وتقدم لها تعويضا نفسيا وتحتضنها وتأويها في منزلها وتمنحها أيضا عملا معها، وكأنها أصبحت بمثابة البديلة عن الأم الغائبة من البداية. إنها الوجه الآخر لـ”لبنى” التي لا تقيم اعتبارا لأي قيمة.
يظهر الأب والأم بعد غياب طويل عن الفيلم، قرب النهاية، وتحدث المواجهة مع آية، ولكن الفيلم يقدمهما أيضا كضحايا للواقع المرير. وحتى ضابط الشرطة “فارس” سيكشف لنا الفيلم كيف أنه هو نفسه ضحية واقع ما بعد الثورة، وكيف أنه اضطر أن يصبح جزءا من النظام بعد أن كان يريد تصفية الحساب معه.
هناك بعض المشاهد الزائدة في الفيلم، الذي يتجاوز زمنه الساعتين، مثل مشهد الذي ذهاب آية مع الضابط فارس، إلى غرفة حفظ الجثث لمعاينة جثة كريم وتأكيد تعرفها عليه، وهو من نوع تحصيل الحاصل ولا يضيف شيئا إلى الحبكة بل يبدو مشهدا ثقيل الوطأة، يخرج الفيلم عن إيقاعه. كما أن هناك جنوحا في بعض المشاهد في اتجاه الميلودراما، أي المبالغة في خلق التأثير العاطفي، مثل مشهد اللقاء بين آية ووالدها في النهاية، ولكنه مشهد مشحون بالمشاعر، وزيادة جرعة المشاعر جزء من تركيبة المجتمعات العربية عموما.
رغم أي ملاحظات، نظل أمام شهادة بصرية ودرامية قوية عن فترة شديدة الاختلاط والتشتت وفوضى المشاعر والتوجهات في المجتمع التونسي بعد مرور 13 عاما من ثورة كانت تعد بالكثير.