الفيلم الإيراني “خنزير” واختراق الرقابة
جاء الفيلم الإيراني “خنزير” Khook للمخرج ماني حجيجي الذي شارك في مسابقة الدورة الـ68 من مهرجان برلين السينمائي، مفاجئة مدهشة لعشاق السينما الإيرانية، ليس لأنه يمد تجربة السينما الجديدة في إيران على استقامتها، بل تحديدا، بسبب اختلافه عن سائر أفلام هذا التيار. فهو عمل لا ينتمي للواقعية الإيرانية المعروفة التي تمزج عادة بين الطابع الروائي والتفاصيل التسجيلية الدقيقة المقتبسة من الحياة اليومية. ففيلم “خنزير” من النوع الكوميدي، ويمكن وصفه بأنه من نوع الكوميديا السوداء الساخرة بقسوة، ولكن من دون أن يفتقد لروح المرح والخيال- والأهم بالطبع- الجرأة الشديدة في تناول موضوعه ذي الأبعاد الكثيرة الرمزية.
بطل الفيلم مخرج سينمائي يدعى “حسن قاسمي” (يقوم بدوره ببراعة كبيرة الممثل المسرحي الإيراني المعروف حسن ماجوني).. وقاسمي مخرج شهير معروف بأفلامه ذات العناوين الغريبة مثل فيلمه “موعد غرامي في سلخانة” الذي يتردد ذكره في فيلمنا هذا اكثر من مرة. إنه رجل بدين، مترهل، مشعث الشعر، زائغ العينين.. له وجه طفل مندهش، غير متأنق في ملبسه بل يبدو أقرب الى “البانك” اشارة الى تمرده وعدم التزامه بالأعراف السائدة في المجتمع المحافظ الذي ينتمي اليه. فهو يرتدي قميصا من نوع “تي شيرت” مرسوم عليه صورة عازف الجيتار ونجم موسيقى الروك الاسترالي الشهير انجاس ماكينون، كما يعلق صوره وصور نجوم الروك فوق جدران غرفته أيضا. وهذه أولى علامات الاحتجاج الواضحة في الفيلم ضد “الثقافة السائدة المفروضة” فالمعروف أن السلطات الايرانية تحظر هذا النوع من الموسيقى الغربية.
صراصير الفن
حسن متزوج من زوجة لا تتردد في الوقوف دائما بجانبه، تسدي إليه النصح، لديه منها ابنة شابة جميلة تعمل مساعدة له. ولكنه يواجه قرارا سلطويا بالحظر من العمل، وربما تنتهي فترة الحظر قريبا ولكن حتى هذا الحين، يتعين عليه أن يأكل عيشه من اخراج شرائط الإعلانات التليفزيونية التجارية. وهو يصور إعلانا عن مبيد حشري للصراصير يستخدم فيه مجموعة من الراقصات الحسناوات، يرتدين ملابس غريبة لكي يتشبهن بالصراصير، ويضعن على رؤوسهن قلنسوات مضحكة لها قرون استشعار، وتستخدمن معجونا أزرق يخرج من أفواههن باعتباره سما قاتلا من افرازات هذه الحشرات، وسيلعب الفيلم على هذا المعجون عندما يقال انه مستورد من النمسا، فكيف تشكو الراقصات من أنه ردئ الطعم وتطلب احداهن خلطه بالسكر. ومن بين هاته الراقصات واحدة تحاول بشتى الطرق الإيقاع بحسن أملا في القيام ببطولة فيلمه القادم بعد رفع الحظر عنه، وبغرض أن تصرفه عن الاهتمام بالممثلة “شيفا” لكن حسن مغرم بـ”شيفا” الجميلة (ليلى حاتمي) التي كان وراء اكتشافها ومنحها النجومية. أما شيفا فهي لا تستطيع الانتظار طويلا الى أن يقوم حسن باخراج فيلم جديد، فهي تخشى أن ينساها الجمهور، لذلك فهي تتودد الى مخرج آخر يدعى سوهراب.. مما يثير غضب حسن، وكلما شعر حسن بالغضب يذهب لممارسة لعبة التنس مع صديقه الطبيب “هومايون” الذي فقد وظيفته (غالبا لأسباب سياسية أيضا) ولا يفتأ حسن يذكره بهذه الحقيقة!
أما الهاجس الأكبر الذي يسيطر على حسن ويكاد يدفعه للجنون فيتعلق بسلسلة جرائم القتل البشعة التي يرتكبها قاتل مجنون يتعقب زملاءه المخرجين ويقطع رؤوسهم بعد أن يكتب عليها كلمة “خنزير”. من عساه يكون هذا القاتل، وما هدفه؟ لكن السؤال الذي يثير جنون حسن أكثر من غيره هو: لماذا يدخر القاتل حياته حتى الآن؟ لماذا لم يأتِ ليقتله؟ هل لأنه ليس بأهمية زملائه المخرجين؟ من هنا يبدأ حسن النرجسي شأن معظم الفنانين والمبدعين، في طرح تساؤلات مقلقة حول موهبته، وقيمة أفلامه، هل فقد قيمته وتضاءل بحيث أصبح القاتل لا يريد أن يعيره اهتمامه؟ إنه يشعر بالغيرة من زملائه وهو ينتظر كل ليلة أن يأتيه القاتل ولكن دون جدوى. تطمئنه أمه بأن القاتل سيأتي لا محالة، وتتعهد بالدفاع عنه، بل وتحشو بندقية العائلة القديمة بالرصاص وتثبت له أن بوسعها مواجهة القاتل وقتله اذا ما حاول الاقتراب من حبيب قلبها “حسن”.
يشك حسن في أن “شيفا” تخونه مع سوهراب، يتسلل ليلا الى منزل سوهراب مع صديقه هومايون ظنا منه أن شيفا موجودة مع سوهراب لكنه يجد رأس سوهراب مقطوعة. لقد فعلها القاتل. ولكن حسن نفسه يصبح متهما بقتل سوهراب بعد أن تعثر الشرطة على لقطات مصورة بكاميرا فيديو داخل منزل سوهراب لحسن وهو يتسلل ليلا داخل المنزل. وهو يعتقل ويتعرض للاستجواب لكنهم يفرجون عنه لعدم كفاية الأدلة. وبعد أن كان حسن مدانا في أوساط الشباب وخاصة على موقع انستغرام، يصبح الآن بطلا من أبطال الدفاع عن الحرية، يتظاهر الشباب دعما له.
الميديا الجديدة
وهناك إشارات كثيرة في الفيلم الى ولع الشباب الايراني باستخدام مواقع التواصل مثل انستغرام وتويتر (فيسبوك ويوتيوب محظوران في إيران)، والتقاط صور السيلفي بالهواتف المحمولة، وهناك ابراز واضح لمجموعة من الممثلات الايرانيات الحسناوات شديدي الفتنة والجمال، تتقدمهن بالطبع ليلى حاتمي التي تألقت من قبل في فيلم مختلف تماما هو فيلم “انفصال نادر وسيمين” الذي فازت عن دورها فيه بجائزة أحسن ممثلة في مهرجان برلين. والمقصود تقديم صورة مغايرة لصورة المراة الايرانية المحافظة المترهلة الخاضعة التي تظهر عادة باعتبارها ضحية الرجل في معظم أفلام الموجة الجديدة الايرانية، فالمراة هنا قوية، مستقلة، تملك ارادتها وتثير الغيرة والحسد.
أما وجود قاتل سفاح يطارد ويغتال مخرجي الأفلام ويقطع رؤوسهم بعد أن يكتب على جباههم كلمة خنزير فلاشك أنها إشارة رمزية تشير الى علاقة السلطة بالمثقفين عموما، خاصة في ضوء اغتيال عدد من المعارضين خلال الفترة الأخيرة، كما أن قطع الرأس هنا هو المعادل الرمزي لوقف المخرج عن العمل أي اغتياله معنويا. وتأكيدا على رمزية الفكرة لا نعرف من هو القاتل ولا يهتم الفيلم بهذا الجانب. وعندما نراه قبل أن يقتل المخرج حسن قاسمي مباشرة وقبل أن يلقى مصرعه برصاصة تنطلق من بندقية والدة حسن التي تعهدت بحمايته من القاتل، لا يمكننا تبين ملامحه فهو يرتدي قناعا لوجه خنزير، ولايهتم الفيلم بالكشف عن وجهه فهو تجسيد مختزل لسلطة غاشمة قاتلة. على هذا النحو يتمتع الفيلم بجرأة غير مسبوقة، كما يتمتع بخيال فني منطلق بديع، مع مزج الخيال بالحقيقة، والحلم بالواقع، وصولا الى السوريالية في كثير من المشاهد، كما يستخدم ألوان “الباستيل” الفاقعة المباشرة الصريحة مثل الأحمر والأصفر والأزرق والأسود، في سياق يضفي طابعا أسطوريا خرافيا على الفيلم أو طابع حكايات الأطفال، مع قدر كبير من المبالغات المضحكة التي تتسق مع طبيعة الفيلم في انتهاجه أسلوب الكوميديا السوداء.
أفكار جريئة
من معالم جرأة الفيلم أيضا التطرق الصريح الى فكرة الحب، والولع الجنسي، والخيانة الزوجية، فحسن يقيم علاقة لا شك فيها مع الممثلة شيفا، ويتهمها صراحة بخيانته مع زميله المخرج سوهراب، وزوجته تتغاضى عن هذه العلاقة المعروفة في الوسط، وكذلك ابنته، ويتجرأ حجيجي أيضا فيستخدم موسيقى الروك الغربية المحظورة والأغاني الأوروبية في أكثر من مشهد.
وفي مشهد جرئ على السينما الايرانية يذهب حسن وصديقه هومايون الى حفل تنكري وهما يرتديان ملابس الاعلان التليفزيوني عن المبيد الحشري للصراصير. وبعد ذلك مباشرة يتوجهان وهما تحت تأثير الخمر الى منزل سوهراب لضبط شيفا معه، وهو بأكمله من المشاهد المحظور التعامل معها في السينما الايرانية، بل ان القتل وقطع الرأس والمشاهد التي تمتلئ بالدم كلها ضد “الكود” الرقابي الايراني. (في أحد المشاهد الأولى نرى رأسا مقطوعة ملقاة في ساحة عامة وسط المدينة والناس يتحلقون من حولها).
أما عنوان الفيلم “خنزير”، أي الكلمة التي يكتبها القاتل على رءوس ضحاياه فهي ترتبط في الثقافة الإسلامية بالمحظور النجس. وهو ما يعكس قمة الازدراء للسينما من وجهة نظر من يعادونها ويرفضون وجودها بالطبع. إنهم يقتلون المخرجين.. أليس كذلك؟!