العودة إلى “قائمة شندلر”.. انتصار الحياة

ترجع علاقتي بفيلم “قائمة شندلر” Schindler’s list الذي أنتج عام 1993، وحصل عل سبع جوائز أوسكار، إلى علاقتي بمخرجه ستيفن سبيلبرج التي بدأت مبكرة في سنوات عمري الأولى من خلال متابعتي لبرنامج أوسكار الذي كان يذيعه التليفزيون المصري أيام الخميس من كل أسبوع.

ففي هذه الأثناء شاهدت، ولأول مرة، الجزأين الأولين من سلسلة أفلام سبيلبرج الشهيرة ” الفك المفترس” Jaws، توالت مشاهداتي لأفلامه ذات الطابع الأسطوري المثير من قبيل سلاسل “إنديانا جونز”Indiana Jonesو”الحديقة الجوراسية Jurassic Park و”E. T“. ومثل معظم المشاهدين، ارتبط لدى الترفيه القائم على التشويق والإثارة بالشخصية السينمائية لسبيلبرج.

وبهذا الاعتبار، لم أحرص على مشاهدة فيلم “قائمة شندلر” قبل سبع وعشرين عاماً تاريخ عرضه الأول، كونه فيلماً سياسياً دعائياً يخلو من روح الإثارة التي ميزت أفلام سبيلبرج السابقة، بالرغم من الضجة الإعلامية التي صاحبت ظهور الفيلم، وحصدة لعدد كبير من جوائز الأوسكار.

غير أن مشاهدتي للفيلم خلال الأيام القليلة الماضية، في سياق مراجعتي للأفلام الكلاسيكية وتلك التي تركت علامة مميزة في تاريخ السينما العالمية، اكتشفت أن “قائمة شندلر” لا يختلف كثيراً عن أفلام سبيلبرج الأخرى من حيث الإثارة والتشويق والإبهار، على مستوى الحبكة والصورة. بل إني لا أبالغ عندما أقول إن الأفكار المحورية في هذا الفيلم والهواجس الملحّة لدى سبيلبرج هي نفسها في أفلامه الأخرى.

فالصراع عند سبيلبرج لا يكون دائماً، كما اعتدنا على مر التاريخ، بين الخير والشر، ولكن بين الإنسان والوحش، بين الحياة والموت. لذلك لم يخرج سبيلبرج أفلام رعب أو جريمة، على غرار هيتشكوك، المعلم الأول لسينما التشويق، ولا تجد في أفلامه حضوراً للأشباح أو الشياطين، وإنما للوحوش، مثل أسماك القرش والديناصورات، وللمخلوقات الفضائية كما في E. T”“. وهو في” قائمة شندلر” إنما يقدم الوحوش في صورة إنسان، أو بمعنى أدق، كان يكشف عن البعد الوحشي في الإنسان.

ولعل السبب في هذا التوجّه يكمن في رغبة سبيلبرج في الإعلاء من قيمة الإنسان وقيمة الحياة، وقيمة التضحية باعتبارها جوهراً إنسانياً لا تقوم الحياة بدونه. فلولا تضحية مجموعة المغامرين الذين فقدوا حياتهم في سبيل القضاء على سمكة القرش المفترسة، ما استطاع المصطافون أن ينعموا بأوقات آمنة على الشواطئ، ولولا تضحية “أوسكار شندلر” (ليام نيسون) بأمواله ومصالحه المادية، ما استطاع أكثر من ألفي يهودي أن ينجوا بحياتهم من معسكرات الموت النازية. والحقيقة أنها نفس التيمة التي استخدمها سبيلبرج، فيما بعد، في فيلم “إنقاذ الجندي رايان”، وفيه شاهدنا التضحية في أسمى معانيها حيث لقى عدد من الجنود حتفهم في معركة ضارية من أجل إنقاذ جندي واحد وإعادته إلى أمه الثكلى، التي فقدت أبناء ثلاثة آخرين في الحرب. ليس هذا فحسب بل إن فلسفة التضحية كلها التي لخصها إيتزاك شتيرن (بن كنجسلي) في عبارة واحدة معبرة، مقتبسة من التلمود: ” إن إنقاذ حياة إنسان واحد تساوي إنقاذ العالم بأسره”، هى نفسها التي عبّر عنها الكابتن ميلر (توم هانكس) عندما ذكر أنه مات معه جنود كثيرون، لكنه أنقذ جنوداً أكثر.

وفي كل الأحوال، يحرص سبيلبرج على التأكيد، بصرياً، على فكرته، والقيم الإنسانية التي يسعى إلى إبرازها في مشهدي النهاية، المتشابهين، للفيلمين، حيث يقف الأبناء الذين نجوا من المحرقة يضعون الحجارة فوق قبر شندلر تعبيراً عن شعورهم بالجميل تجاه ما قام به من أجل الحفاظ على حياتهم، ويقف رايان، بعد أن تحول إلى رجل مسن، هو وأسرته يضعون الورود على قبر الكابتن ميلر، تعبيراً عن الشعور نفسه بالجميل تجاه إنقاذ ميلر لحياة رايان. ولاشك في أن حرص سبيلبرج على وجود الأبناء والأحفاد في مشاهد النهاية، إنما يؤكد على أهمية التضحية، وكيف أن إنقاذ حياة إنسان من الممكن أن تكون سبباً في إحياء المئات بل الألاف من الأشخاص الآخرين.

والملاحظة الجديرة بالاعتبار، أن البطولات لا تأتي مجانية في البداية، والتضحيات لا تكون بغير مقابل دائماً، إلا أن المسألة تختلف مع تصاعد الأحداث وارتفاع النبرة الإنسانية، حتى في ظل تضامن إنساني يأتي لصالح مخلوق فضائي مخيف، فقد الأهل والوطن.

وبهذا المعنى يمكننا أن نفهم سر تحول “شندلر” من رجل أعمال لا يهمه سوى التربح من الحرب، إلى مناضل صاحب مهمة إنسانية هي إنقاذ أكبر عدد من اليهود من أيدي الألمان، حتى لو كلفه ذلك خسارة أمواله كلها. وهو المعنى الذي عبّر عنه في نهاية الفيلم في مشهد بليغ يضم جموع اليهود الناجين بعد انتهاء الحرب و” شندلر”، عندما وقفوا يصنعون له خاتماً معدنياً منقوشاً عليه عبارة امتنان عما قام به تجاههم، فإذا به يبكي بشدة معبّراً عن ندمه لأنه لم يستطع أن ينقذ يهوداً آخرين خاصة أنه مازال يحتفظ بسيارته، التي كان من الممكن أن ينقذ بثمنها إنسان آخر.

كما يمكننا أن نفهم سر تحول كابتن ميلر من قائد يخوض المعارك الضارية تنفيذاً لتعليمات قادمة من قيادات أعلى، إلى قائد إنسان يضحى بحياته من أجل إنقاذ حياة الآخرين.

بجانب عنصر الإبهار في الصورة، يقدم سبيلبرج جملاً بصرية معبّرة عن معاني إنسانية سامية ومؤثرة، والفيلم برمته يقدم جدلاً فلسفياً عميقاً بين فكرتي الحياة والموت. وقد تجسد هذا الجدل في علاقة “شندلر” الذي كان يسابق الزمن من أجل إنقاذ أكبر عدد من اليهود، ب”آمون جويث” (رالف فاينس) الذي كان يسابق الزمن كذلك، لكن من أجل إبادة أكبر عدد منهم. فأحدهما يمثل الحياة والآخر يمثل الموت.

وفي هذا السياق، يتكئ “قائمة شندلر” كثيراً على فكرة الموت “المجاني”، وهى الفكرة الأكثر وحشية التي يمكن أن تجسد حجم المأساة الكبير الذي يعيشه ضحايا أبرياء واقعين في قبضة شر لعينة لا ترحم. نشهد ذلك في مواضع كثيرة من الفيلم، منها مشهد القائد الألماني الذي يبدأ رياضته الصباحية بقنص اليهود، بشكل عشوائي، من شرفته المطلة على المعسكر الذي يأويهم. ومشهد المهندسة اليهودية التي تعمل في أحد البنيات الألمانية، وتقترح هدم البناية ثم إعادة بنائها مرة أخرى، فيأمر القائد الألماني بإطلاق الرصاص عليها، وبعد أن تلقى حتفها، دون مبرر واضح، يأمر القائد بتنفيذ ما اقترحته من هدم وإعادة بناء.

ولعل المشهد الأبرز في هذا السياق، هو ذلك الذي يصور “هيلين هيرش” (إيمبث ديفيدتز) ، الفتاة اليهودية التي تعمل في خدمة القائد النازي، أثناء حديثها مع “شندلر”. ففي هذا الحديث لخصت “هيلين” المأساة كلها في كلمات معبّرة، عندما ذكرت أنه في يوم الإثنين تم إطلاق الرصاص على امرأة كانت تمشي في الشارع، وأنها لم تكن بدينة أو نحيفة أكثر من الآخرين، ولم تكن تسرع الخطى أو تبطئ أكثر من الآخرين، فقط كانت “إمرأة عادية”، ولم تفعل شيئاً سوى أنها كانت تمشي في الشارع مثل الكثيرين. وفي واقعة أخرى تذكر “هيلين” أن ًجويث” كان يضربها دون سبب، وعندما سألته لماذا يضربها، واصل ضربه لها قائلاً أنه كان يضربها لأنها سألته لماذا يضربها. إن ما كان يؤرق “هيلين”، والكثيرين غيرها من اليهود، أنه ليس ثمة مبادئ أو قواعد محددة إذا ما اتبعها اليهودي يمكن أن يضمن لنفسه العيش في أمان.

إن القتل المجاني ينطوي على قدر كبير من العبث، بل يمكن القول إنه ذروة العبث، فيمكنك أن تقتل الآخر لمجرد أنه يتحدث بعبارات لا تفهمها، أو أنه يتحرك بطريقة لا تروق لك، أو يرتدى قبعة لا يعجبك لونها، فكلها أمور يجعلها العبث أثقل وطأة على النفس من فعل القتل الذي لا يكلف القاتل سوى ضغطة واحدة على الزناد.

كما أن العبث يحمل في داخله بنية مغلقة ضد الاختيار، فالسفّاحون، أعداء الحياة، مثل القائد “آمون جويث”، ليس لديهم خيار سوى القتل، والضحايا، كذلك، ليس لديهم خيار سوى الموت. وفي المقابل، نجد أن محبي الحياة، مثل شندلر، يمنحون الفرصة للآخرين كى يعيشوا، حتى لو كانوا من الخصوم، بنحو ما خيّر الجنود الألمان الذين كانوا يعملون في مصنعة أثناء الحرب، بين أن يبقوا في مخيم اليهود ويستمرون كقتلة أو يعودوا إلى بلادهم كرجال (بعد انسحاب الألمان من الحرب)، وبالطبع اختاروا العودة إلى بلادهم. وهو نفس الموقف الذي اتخذه كابتن ميلر تجاه أحد الأسرى الألمان عندما تركه يمضي وحيداً يلقى مصيره في الصحراء، واكتفي بتعصيب عينيه، بالرغم من أنه قتل أحد أفراد كتيبته.

وفي الأخير يمكننا أن نقول إن سبيلبرج صاحب مدرسة سينمائية ذات ملامح مميزة، وأنه من الظلم تقسيم أعماله إلى أفلام ترفيهية وأفلام جادة، لأنه في كل الأحوال ينطلق من هواجس إنسانية ملحّة وقيم كونية سامية يسعى إلى تحقيقها، وهى سمات تميز كل فنان حقيقي.

Visited 114 times, 1 visit(s) today