العودة إلى شكسبير في “كل شىء حقيقي”

أَحلُم أن نصنع أفلامًا عربية فنية من نوعية أفلام السير الذاتية لشخصيات عربية كان لها تأثيرها في مجالات مختلفة. لماذا لا يحدث عندنا مثل ما يحدث في العالم كله؟ سيقول البعض إن لدينا فعلًا هذه النوعية من الأفلام، والمسلسلات.

عُمرنا السينمائي يقارب عُمر أكبر دول السينما في العالم. هذا صحيحٌ في جانبٍ، وغير دقيقٍ في جانبٍ آخر. عندنا مسلسل “الأيام” عن حياة الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، وصاحب أكبر الضربات الموجعة في العصور الحديثة للتقاليد الفكرية الراكدة، جَسَّد دوره الراحل أحمد زكى بقدرته الكبيرة على تقمص الشخصية شكلًا وأداءً، ليُقرِّبها إلى المُشاهد فتبدو كأنها استيقظت من رماد موتها.

مسلسل “الشيخ الشعراوي” بأداء حسن يوسف، مسلسل “أم كلثوم” بتمثيل صابرين. فيلم “ناصر 56” عن حياة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من خلال التركيز على حدث تأميم قناة السويس. فيلم “أيام السادات” عن التقلبات المفاجئة للحياة، والموت المباغت في قمة لحظات القوة. هناك فيلم عن الموسيقار سيد درويش، ومسلسل عن إسماعيل يس، وآخر عن المغنية شادية، وعدد كبير أيضًا غير هذا.

لكن باستثناءات نادرة، لقطات حقيقية هنا، وأخرى هناك، يندر أن نجد في كثير من سيرنا الذاتية السينمائية، والتليفزيونية إنسانًا من لحم ودم، بل نرى نموذجًا، تمثالًا جامد من المثالية، والرزانة، والإيثار. رجل، أو امرأة ولا أروع من ذلك في البعد عن كل (الموبقات، والشبهات، والعيوب!). إذا رأى رفاق عصره أنه أخطأ في شىء، فسنكتشف مع توالى الأحداث أن الصواب لم يجانبه قط، فقط أوقعه الآخرون في مؤامرة، أو تربصوا به، فكشف القدر، والظروف سوء نواياهم، وفضح مقاصدهم الدنيئة، لهذا فإن الخطأ المُلفق لهذا النموذج الاستثنائي البعيد عن تلك الصغائر ينقلب إلى ضده، ليزيد تمثاله بهاءً وروعة في تقدير صُناع تلك الدراما، وهو تقدير يصنع العكس غالبًا في ذهن المُشاهد.

صحيح أن كل شخص في الوجود هو حالة خاصة، فما بالك بالموهوب، المثابر، صانع مصيره بيده رغم كل العقبات. هناك بطولة في حياته فعلًا، لكن تقديمها بشكلٍ سطحي يسىء إليها، يضربها في مقتل، ويُبعدنا عن فهمها، وفهم الطبيعة الإنسانية التي تتجلى في صورها المبدعة في كل الأزمنة والأمكنة. ربما تفكر في تلك الحالة في الفروق الثقافية بين نوعين من المجتمعات، لكن مواجهة النفس بالحقيقة ستظل هى الطريقة الوحيدة للتأكيد على الحرية، والإيمان بالحق في الحياة والمعرفة. ليست هذه المقدمة من أجل جلد الذات، فهناك رصيد يُعتد به من أفلام عربية مهمة، لكنها حالة وصف لنوع من أنواع الدراما، والفنون بصفة عامة.

سيهجم عليك السؤال الأول مرة أخرى: لماذا لا يحدث عندنا مثل ما يحدث في العالم كله حين تشاهد فيلمًا “سيريًا” عن حياة شخصية سياسية، أو فنية، أو علمية؟ عن هتلر، ونيكسون، ولنكولن، ومانديلا، أو موتسارت، وبيتهوفن، أو الفيلم المُنتج عام 2018 عن السنوات الأخيرة للشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي وليم شكسبير تحت عنوان  All Is True أي “الكل حقيقي”، الذي نتناوله في هذا المقال.  

هو فيلم بريطاني أخرجه كينيث برانا، وقام أيضًا فيه بتجسيد شخصية وليم شكسبير، وهو من تأليف بين إيلتون، وفي التمثيل أيضًا جودى دينش، إيان ماكلين، كاثرين وايلدر، وغيرهم..

يبدأ الفيلم من لحظة حاسمة في حياة “شكسبير”، احترق مسرح الجلوب الذي كان يملكه أثناء عرض مسرحيته (هنرى الثامن) في 1613م. لم يُصب أحد بسوء، لكنه وقد قرر التقاعد يعود من لندن إلى بلدته الصغيرة ستراتفورد أبون إيفون؛ ليقضى آخر سنوات حياته مع أسرته بهدوء، لكن الهدوء لم يكن بانتظاره بل العواصف والمواجهات التي لم يتوقعها.

أول هذه العواصف هى اجترار ذكرى ابنه المتوفي في سن الطفولة، وثانيها علاقة زوجته به، والعلاقة المعقدة بينه وبين ابنتيه، وبين زوجيهما، وثالثها نظرة أهل بلدته الصغيرة إليه وإلى مؤلفاته.

السنوات الأخيرة في حياة شكسبير التي تحوَّل فيها بشخصه إلى بطل لمأساة بدلًا من شخصياته المسرحية الخيالية، أو التاريخية. سنعرف علاقته بزوجته التي تكبره سنًا (آن هاثاواي)، وابنتيه “سوزان” المتزوجة من قس بروتستانتي يشك بعقيدة شكسبير ويصف مسرحياته بالتسالى متهمًا إياه بإفساد دين الناس، وابنته الأخرى “جوديث” التي تعاني عقدة ذنب نتيجة وفاة أخيها التوأم “هامنت” في طفولته.

يشبه “شكسبير” هنا شخصية الأمير “هاملت”.. تتكشف له حقيقة وفاة ابنه، بل وحقيقة قدرات الطفل المتواضعة التي ظل يتخيلها أكبر من حجمها الطبيعي. أمام الصراع الزوجى، والغيرة بين الأبناء سنذكر ماكبث، والملك لير. تلك إذًا قوة اللحظة التي تظهر فيها خطوط الدراما الحقيقية في سيرة حياة شكسبير الفنية المُجمعة من تاريخه المنثور. هو بطلها الذي يصارع، وبيته الكبير وأملاكه في بلدته هما مسرح الأحداث المفتوح على مناظر طبيعية خلابة، وألوان مشبعة كأنها رسومات في لوحات عصر النهضة، أو في البيت بأضواء خافتة لشموع، ومدفأة ترسم جوًا تُستعاد فيه الذكرى، والاعترافات بشكل مسرحي. أما أهل بلدته وزائريه القلائل فهم القدر الذي يقلب أحوال، ويقف دائمًا في طريقه.

الكاميرا في الفيلم صاحبة بطولة خاصة، فأسلوب الفيلم هو مركز الحبكة والمضمون، تُذكِّرنا الكادرات بفيلم طليعي من كلاسيكيات السينما الأمريكية هو “المواطن كين” لمخرجه أورسن ويلز، غير أن هدف الصورة، والكادر لكل منهما مختلف في معناه، ومضمونه. عند أورسن ويلز بحث عن كلمة غامضة قالها “فوستر كين” قبل رحيله بثوانٍ، كلمة (روزبد) التي نعرف في النهاية أنها كانت تعنى في رأس “كين” الطفولة الضائعة.

أما أسلوب التصوير، والكادرات في فيلم “الكل حقيقي” فترمى إلى بعد جمالي مختلف، تبرز صراع شخصية شكسبير، وتتضافر مع إبداعها المسرحي، فالمَشَاهد الملتقطة غالبًا إما تحت مستوى العين، أو فوقه، أو من أحد الجوانب تعطينا رؤية بأبعاد غير حقيقية لأحجام الأشياء، والشخصيات. كأنها تصنع بلغة السرد والمسرح مجازًا أدبيًا يتعامل مع كل شخصٍ، وإحساسٍ بطريقة تُضخِّم جانبًا وتخفي آخر، لتكشف لنا علاقة جديدة بينها وبين ما تحكى عنه، حتى الصور البصرية التي تكون في مستوى العين لا تبدو لنا حقيقية تمامًا، فهناك مؤثرات أخرى كتعميق مستوى الصوت ليبدو وكأنه قادم من غور بعيد، أو مُعبِّر عن توق الشخصيات إلى حُلم مستحيل، والتباين في الإضاءة يكمل هذا البناء.

هذا البناء البصري الذي يقدم مشاهده المتماسكة في صورة مجازية تتضافر مع أسلوب “شكسبير” المسرحي نفسه الذي كان يُضخِّم صفة إنسانية بعينها كالشك، أو الغيرة، أو التردد، أو العقوق، أو التعلق المرضى ليجعل من هذه الصفة محور مأساة الشخصية المسرحية التي تدور بسببها الصراعات. ربما كانت ثيمة البطء في المشاهد غريبة على تصور حياة كهذه، لكنها لم تؤثر كثيرًا على الوصول إلى مغزاه.

اسم الفيلم نفسه يُبنَى على مجاز مراوغ في جملة مباشرة هي (الكل حقيقي). ليس العنوان إذًا مفارقة ساخرة، لكنه المجاز بعينه، فكل ما نراه هو أمر حقيقي في حياة “شكسبير”: الملهاة، والمأساة، والشخصية التاريخية. كل خيال ألفه في مسرحياته توغل به إلى حقيقة الطبيعة البشرية التي ترى حياتها وعلاقاتها دائمًا تحت تأثير خاص حسب زاوية نظرها، وموقعها، وأهدافها، أو أطماعها. هذه خلاصة إبداع “شكسبير”، وفهمه لعصره، ولطبيعة البشر إلى حد كبير، وفهم السيناريست والمخرج لذلك جعلهما يصوران “شكسبير” بأسلوب سينمائي جمالي يعبر عن حياة الشاعر والمؤلف المسرحي وإبداعه معًا في مزجٍ ونسجٍ مميز.

Visited 90 times, 1 visit(s) today