العودة إلى خودوروفسكي في “رقصة الواقع”
كان عرض فيلم “رقصة الواقع”La Danza de La Realidad للمخرج الشيلي الكبير أليخاندرو خودوروفسكي Alejandro Jodorowsky في مهرجان كان 2013، “حدثا” سينمائيا كبيرا يحتفي به عشاق السينما الحقيقيون، عشاق سينما الفن الرفيع والرؤية والفكر والفلسفة، سينما الفنان الذي يبدع فيلمه يحاول تجسيد عالمه الخاص، ويضفي عليه من خياله الخصب، دون تكلف أو اصطناع، يطوع السينما لمفهوم الشعر وقدرته على التعبير المجازي، ويتأمل في مسار الحياة، مع نسمات غنائية خلابة تسري عبر أجزاء الفيلم. وخلال رحلة المشاهدة، يكشف لنا الفنان عما يكمن في خياله الخاص، لنرى ما لا نراه عادة في غيره من الأفلام.
إننا أمام فنان سينمائي من “عصر السينما”، العصر الذي كانت السينما فيه تمتلك القدرة السحرية على التأثير الفني، سينما التعبير الذاتي عن العالم، سينما الشعر، الهواجس العنيفة، سينما فيلليني وبونويل وبرجمان وريفيت ورينيه وكيروساوا. هذه السينما التي تتلاشى تدريجيا بحيث لم تعد توجد سوى في التاريخ.. وخودوروفسكي من بقايا هذه النخبة التي كانت تبدع الأفلام للتعبير عن رؤيتها للعالم، وليس من أجل الشهرة أو المال أو تحقيق الرواج التجاري.
سينما خودوروفسكي
ينتمي هذا المخرج إلى أسرة يهودية من أوكرانيا هاجرت واستقرت في شيلي، وقد عمل خودوروفسكي في المكسيك وفرنسا، لكنه لم يخرج حتى الآن سوى سبعة أفلام بما فيها فيلمه الجديد. وهو حاليا ف يالحادية والتسعين من عمره، وكان كثيرون يعتقدون أنه قد هجر العمل السينمائي نهائيا واكتفى بأفلامه الستة السابقة، التي دخلت تاريخ السينما. لكنه عاد في تلك السنة، بفيلم “رقصة الواقع” من الإنتاج الفرنسي- المكسيكي، بعد أن توقف عن الإخراج لمدة 23 سنة، لم يقف خلالها مرة واحدة وراء الكاميرا، بعد فشل مشروع تلو آخر من المشاريع السينمائية التي كان يعتزم إخراجها، وآخرها مشروع فيلم “كنج شوت” King Shot الذي كان يعتزم إخراجه قبل أربع سنوات لكنه توقف بسبب تقاعس المنتجين عن تمويله، متشككين في إمكانية تحقيق أرباح. وقبله كان المشروع الطموح “الجحيم” Dune الذي تراجع المنتج الفرنسي ميشيل سيدوكس عن إنتاجه في أواخر السبعينيات بعد أن فشل في العثور على التمويل الكافي (كان مطلوبا وقتها تدبير 15 مليون دولار) ثم أخرجه فيما بعد ديفيد لينش ((1984).
طموح خودوروفسكي من النوع الذي لا يعرف المساومة أو الحلول الوسط، ولذلك كان دائما يواجه الكثير من المشاكل مع منتجي الأفلام، وهو ما ترك، دون شك، غصة في حلقه يعبر عنها في بداية فيلمه الجديد، عندما يتحدث بصوته عن قيمة المال، وعن إفساده للروح، وعن معنى الفن.. عن الحاجة البشرية للمال، ولكن دون أن يسمم حياتنا وأرواحنا.
الفيلم يمكن اعتباره خلاصة عمل المخرج الكبير الذي ذاعت شهرته في العالم عندما أخرج فيلمه الثاني “الطوبو” El Topo عام 1970 وسرعان ما حقق نجاحا كبيرا وظل يعرض يوميا لمدة ستة أشهر في نيويورك في دار للعرض كانت تعرض الأفلام في منتصف الليل، وكانت القاعة تمتلئ كل ليلة بنحو ألف متفرج، كانت صيحاتهم إعجابا تتصاعد وسط جو احتفالي خاص، وتحول الفيلم إلى إحدى أيقونات السينما الجديدة التي كانت تعلن التمرد على كل اشكال السرد التقليدية القديمة.
لم يكن “الطوبو” فيلما يمكن تصنيفه بسهولة، فهو يجمع بين طابع أفلام “الويسترن”، مع لمسات سريالية واضحة مشبعة بالميثولوجيا الدينية والأساطير القديمة. وقد رحب الجمهور به بجنون، لأن جمهور نيويورك في ذلك الوقت بعد ثورة الشباب في الستينيات، كان مؤهلا لاستقبال عمل بصري خالص يعتدي بقسوة على الـ genre التقليدي لأفلام الغرب الأمريكي.
أخرج خودوروفسكي بعد “الطوبو” فيلم “الجبل السحري” (1973)، الذي عرض في مهرجان “كان” في تلك السنة، ثم أخرج بعد ذلك ثلاثة أفلام هي “توسك” Tusk عام 1980، ثم “الدماء المقدسة” Santa Sangre عام 1989 من الإنتاج الإيطالي، ثم “لص قوس قزح” Rainbow Thief (1990) من تمثيل عمر الشريف وبيتر أوتول وكريستوفر لي، ويقول خودوروفسكي إنه لم يكن حرا وهو يعمل في فيلمه هذا، بل فرض عليه العمل مع النجمين الكبيرين في حين أنه يكره العمل مع النجوم. وكان هذا الفيلم الذي تبرأ منه خودوروفسكي وهجره قبل إتمام المونتاج، سببا في توقفه عن الإخراج لمدة 23 عاما إلى أن عاد اليوم إلى مهرجان كان وإلى السينما، بفيلمه الجديد “رقصة الواقع“.
عودة إلى الماضي
في فيلمه المدهش “رقصة الواقع”، يعود خودوروفسكي إلى الماضي، إلى طفولته لكي يروي الفصول الأولى من حياته وهو في العاشرة من العمر، تلك الفترة التي تركت تأثيرها الكبير عليه، ويصور علاقته بوالده القاسي، العنيف، الذي كان معجبا بشخصية ستالين وكان يتقمصها، يريد لابنه الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، أن يكون قويا، صلبا، يقهر الألم، يصمد أمام المخاطر، لا يبكي، ولا يضحك، يتحمل العذاب وهو صامد. وتعكس المشاهد الأولى من الفيلم هذه العلاقة التي ستترك تأثيرها القوي على شخصية خودروفسكي: الأب يصفع ابنه مرة ومرات بأقصى ما يملك من قوة، ويطلب منه ألا يبدي أي إشارة تنم عن الشعور بالألم، ينكسر أحد أسنان الصبي فيصطحبه إلى طبيب الأسنان، وهناك يطلب من الطبيب ألا يستخدم المخدر حتى يعتاد ابنه تحمل الألم.
لكن الفيلم ليس مجرد سرد واقعي صارم للسيرة الذاتية لخودوروفسكي، بل عمل سينمائي خلاب ينتمي للواقعية السحرية التي تميز الأدب والفن في أمريكا اللاتينية، أدب ماركيز، وسينما راوول رويز، تختلط فيه التداعيات السيريالية من الذاكرة، بأجواء السيرك التي تشيع في معظم أفلام المخرج الكبير، وتتقاطع مناظر ومواقف ولحظات من التاريخ، تاريخ شيلي موطن المخرج، مع عرض لما يطلق عليه خوردوروفسكي “السيكوماجيك” psychomagic أو العلاج النفسي لعقد ومشاكل نفسية ترتبط بالصلات العائلية أو تكون وراثية.. مع نوع من التخاطر العقلي بين الإبن والأم، كما نرى في هذا الفيلم. إنه نوع من التحكم والسيطرة على النفس ينبع عن طريق الإيحاء، وقد يجد فيه البعض سحرا غير أن خودوروفسكي يؤكد أنه ليس بسحر!
وكما في “الجبل المقدس” و”الطوبو” يبرز الحس الديني بقوة في هذا الفيلم، وهو يتلخص في الإيمان بوجود الله، مع رفض ممارسات القساوسة ورجال الدين والسخرية من عجزهم عن تقديم حل لمأساة الإنسان وضعفه وحيرته، كما يكشف فساد السياسيين، وبراءة البسطاء، وعجز اليسار عن تقديم يد المساعدة للفقراء وإدانة ذاتيتهم وعجزهم عن الفعل.
نحن نرى أيضا كيف يصبح الخيال بديلا عن الواقع، فالحقيقة أن “رقصة الواقع” يمتلئ بالخيال: مقابل جنازة الفيل في فيلم “الدماء المقدسة” (1989) نرى هنا جنازة رجل الإطفاء الذي تتراءى جثته المتفحمة لبطلنا الصغير بل ويرى رأس الرجل المتفحمة وقد تحركت واتجهت إليه، مما يجعل الطفل يهرع إلى والده في فزع، يقول له إنه يشعر أنه قد مات!
ينقسم الفيلم إلى قسمين: في القسم الأول تتركز الأحداث حول شخصية الطفل أليخاندرو في علاقته بأبيه خاييم، في بلدة خودوروفسكي الأصلية “توكوبيلا” بشمال شيلي، وهي البلدة التي عاد إليها للمرة الأولى منذ أن غادرها قبل 74 عاما، حيث أعاد بناء المنزل الذي كانت تقيم فيه أسرته، وأعاد تصميم واجهات الشارع الذي يوجد فيه دكان والده والذي أطلق عليه “كازا أوكرانيا” أي بيت أوكرانيا.
أما القسم الثاني من الفيلم فيتركز حول رحلة الأب (خاييم) إلى سانتياجو وبحثه عن التحقق أولا عن طريق ممارسة العنف وهو ما يفشل فيه، ثم البحث عن اليقين، والتعرض خلال ذلك للتعذيب الوحشي والمرور بتجربة التجرد والقرب من الله، ثم العودة إلى الموطن بعد أن تتغير ملامحه، من صورة الرجل الصلب الذي يفتقد للضعف الإنساني (على شاكلة ستالين) إلى صورة الرجل الضعيف الذي يحمل خطاياه (أقرب هنا بشعره الطويل المنسدل على كتفيه وضعفه وهزاله إلى صورة المسيح).
الرموز الدينية التي سبق أن استخدمها خودوروفسكي في أفلامه السابقة، تتراءى لنا هنا في أشكال جديدة، ففي مشهد بديع نرى يلتقي أليخاندرو الصغير بشحاذ على شاطئ البحر، يقوم بحركات راقصة وقد وشم جسده كله، يعطيه الرجل ثلاث علامات ذهبية ترمز للأديان الثلاثة: الهلال والصليب ونجمة داوود، ويقول له: إنك إذا قمت بوضعها معا وإذابتها، فسوف تحصل على سائل يتركز في نقطة واحدة تلخص النفس الإنسانية. يعود أليخاندرو إلى والده سعيدا فرحا يطلعه على السر الذي اكتشفه، فينتزع الأب الرموز الثلاثة ويلقي بها في المرحاض، ويردد بخشونة: “ليس هنالك إله.. ليس هنالك إله.. الله غير موجود.. لا شيء هناك بعد الموت“.
صدمة الإنكار تبقى في ذاكرة الفتى. ولكن تبقى يقينية خودوروفسكي في أن أصل الأديان الثلاثة واحد، وأن الإيمان بها جميعا واجب.. وهو يعبر في فيلمه “الجبل المقدس” (1973) عن هذا اليقين عندما نرى رسوما للرموز الثلاثة مرسومة على أجساد الراهبات بالعبرية والعربية تحمل كلمات مثل الله، محمد.. وغير ذلك.
على النقيض من الأب، تأتي شخصية الأم (ساره)، وهي إمرأة قوية، فارعة، ممتلئة القوام، تكشف ملابسها عن جسد مغر، تؤدي دورها كله في الفيلم من خلال الغناء الأوبرالي. فهي تنتمي للمنطقة الواقعة بين الواقع والخيال، بين العقل والفن المنطلق الذي لا يعرف حدودا، بين المادي الذي يتمثل في استعراض الجسد المثير، وبين الروحاني والديني الذي يعبر عنه من خلال إيمانها العميق الذي يوحي بأنه سبب من أسباب قدرتها على التخاطر العقلي مع ابنها بل يجعلها أيضا تأتي بمعجزة الشفاء.
وعلى حين يمكن اعتبار الشحاذ رسولا للسلام، يمكن النظر إلى ساره- لاحظ دلالة الاسم- على أنها من روح الله، وخاييم (الأب) هو الإبن الضال الذي سيرحل لكي يكفر عن ذنوبه من خلال ما سيتعرض له من عذاب قبل أن يعود تائبا نادما مستغفرا.
ومن خبرته الطويلة في مسرح السيكودراما في باريس خلال الستينيات، يمزج خودوروفسكي في فيلمه، بين الأسطوري (الميثولوجي) والديني والنفسي (السيكولوجي) وينتقل بين هذه الأركان الثلاثة في سلاسة وبراعة، فهو يستخدم أسلوب التداعيات الشعرية، التي قد تبدو كما لو لم يكن هناك رابط فيما بينها، لكن العلاقة غير المباشرة، بين هذه الجوانب تأتي من خلال لغة الشعر، الصورة العابرة، التي قد تقطع الحدث، أو تتداعى في ذهن البطل الصغير، أو تأتي من الماضي، أو تتجسد له في شكل حلم أو هاجس عابر أو متخيل.. ومن هذه المفردات الشعرية يتآلف البناء السينمائي، دون أن يفقد البوصلة الموجهة، أي الشخصية المحورية التي تتداعى لنا الأحداث من خيالها في القسم الأول، أو شخصية الأب التي تدور حولها الأحداث في القسم الثاني. إن ثنائية الأب– الإبن، تقابلها هنا ثنائية أخرى مركبة بين الإبنة (ساره) و”الأب” الغائب.. أي أبوها من خلال ما يشبه “عقدة إليكترا” في الفرويدية.
عندما يرغم الأب خاييم ابنه أليخاندرو على قص شعره والتخلص من ذلك الشعر الأشقر الطويل المنساب البديع الذي يجعله يشبه الملائكة، تبكي الأم وتصرخ في لوعة، لقد كانت هي التي لصقت تلك الباروكة الشقراء فوق شعر ولدها الأصلي المجعد، فقد أرادته أن يكون صورة من أبيها الذي ضحى بنفسه من أجلها وهي صغيرة، لقد إغتالته أيادي الغدر العنصرية. يعود أليخاندرو إلى أمه ساره بعد أن فقد باروكته الشقراء يبكي ويشكو، لكنها تنهار وتصرخ في لوعة تبعده عنها، ترفض أن يقترب منها صارخة: لقد قتلتم أبي.. لقد أردتك أن تكون تعويضا لي عنه.. لقد كنت أبي.. لكن اليوم فقط مات أبي!
إن “ساره”، على العكس من خاييم، رقيقة، عذبة، حنونة، تؤمن بالتواصل مع الله من خلال تلك الشفافية الروحية التي تتمتع بها، وتلجأ لما يسميه خودوروفسكي “السيكوماجيك” أي الإيحاء النفسي السحري. إنها تملك القدرة على أن تجعل الآخرين لا يرون إلا ما تريدهم أن يروه. يلقى الابن معاملة سيئة داخل حانة البلدة التي تمتليء بمجموعة من الرجال من شذاذ الآفاق، تصحبه إلى هناك، وتقول له إنك إذا أردت أن تصبح غير مرئي فيمكنك ذلك.. وتدخل الفكرة إلى رأسه وتقوم بالتركيز والإيحاء ثم تخلع ملابسها وتدخل إلى الحانة تسير عارية بين الرجال دون أن يلاحظها أحد، يراقبها أليخاندرو مبهورا.
تداخل الشخصيات
يذهب أليخاندرو إلى شاطئ البحر ذات يوم بحثا عن الحرية، عن هواء نقي بعيدا عن أجواء القهر البطريركي.. يلتقي هناك بالشحاذ الذي رسم على جسده كله وشمات غريبة. يلقي أليخاندرو بحجر في البحر، تطير آلاف الطيور، يصرخ فيه الشحاذ بحدة: لماذا؟ لقد أغضبت البحر. وفي مشهد سيريالي، يقذف البحر بآلاف الأسماك إلى الشاطيء، وسرعان ما تهبط طيور النورس الجائعة لكي تلتهمها، ويهرع أهل البلدة الفقراء الجائعين لكي يطردوا الطيور بعيدا حتى يحصلوا لأنفسهم على الأسماك. خودوروفسكي الذي يصاحبنا طوال الفيلم، يظهر أحيانا وهو في عمره الحالي، بشعره الأبيض الطويل وملابسه البيضاء، يرشدنا إلى الأحداث ويقودنا عبر الرحلة، يعلق على بعض التفاصيل، ويتوقف أمام المشاهد التي حفرت في ذاكرته طويلا. هنا يأتي تعليقه على هذا المشهد بقوله بصوته: لا أعرف هل أشعر بالغضب من تلك الطيور الجائعة، أم أشعر بالرثاء للأهالي البؤساء!
يمتلك الأب دكانا لبيع الملابس هو “كازا أوكرانيا”، وخاييم أيضا مناضل شيوعي يتزعم خلية شيوعية تناضل من أجل تغيير الأوضاع في البلاد، وهو في الوقت نفسه، قائد لفرقة الإطفاء في البلدة. إنه يبحث عن وسيلة لتحقيق “الإندماج”، حتى يتفادى ذلك الجو العدائي الذي يواجهه من حين إلى آخر كونه “يهوديا”. وهو رغم قوته الظاهرية وتشبهه بستالين في شكله وطريقة مشيته وحديثه، إلا أنه عندما ينفرد بنفسه داخل الدكان، يتحسس الملابس الداخلية النسائية بتلذذ. إنه يشعر بالحرمان فهو يقمع رغباته الطبيعية وضعفه البشري باستمرار.
يريد خاييم دائما أن يثبت لنفسه وللآخرين ولابنه أنه قوي، مقدام، لا يخشى شيئا، فهذه وسيلته الوحيدة لاكتساب احترام الآخرين في أهالي البلدة، الذين يسخرون منه ومن ولده، ويعتبرونهم من الدخلاء على البلدة، فقد أتوا إليها من الخارج.. مهاجرين. وهو يتصدى ذات يوم لإطفاء حريق في منزل في أطراف البلدة مع فرقة الإطفاء، لكن أليخاندرو يصر على الذهاب معه. يلقى أحد رجال الإطفاء مصرعه أثناء إطفاء الحريق، يقيمون له جنازة حاشدة في البلدة.. يسقط أليخاندرو مغشيا عليه بعد أن تتراءى له جثة القتيل متفحمة، يشعر والده بالمهانة أمام الآخرين: سيقولون عن الولد أنه جبان وأنه ورث الجبن عن والده (اليهودي الجبان)!
يعود خاييم بابنه مسرعا إلى المنزل حيث يرقد الفتى ليومين. ولكي يدرأ عنه الإتهام بالجبن، يقرر الأب القيام بعمل يثبت فيه شجاعته، فيحمل أوعية ضخمة مليئة بالماء ينقلها إلى جماعة الفلاحين المصابين بالطاعون وأصبحوا معزولين خارج البلدة، وقد قدموا في مسيرة إحتجاج على إقصائهم وحرمانهم بالتالي من الطعام والشراب. رجال الشرطة يوقفونهم ويقيمون في وجوههم المتاريس إستعدادا لإطلاق الرصاص عليهم إذا ما حاولوا الزحف نحو البلدة. هناك خشية كبيرة من أن ينقلوا العدوى إلى السكان.
يقود خاييم عربة تجرها الحمير، محملة بأوعية المياه، ويأخذ في توزيع الماء عليهم بنفسه.. تضامنا معهم في محنتهم.. يشربون الماء ثم يذبحون الحمير ويقطعون لحمها يأكلونه وسط صرخات خاييم: كفوا عن هذا.. كيف سأعود إلى البلدة الآن.. هذه الحمير هي التي سأستخدمها غدا في نقل المياه إليكم مجددا!
يأتيه الرد من أحدهم: تتحدث عن الغد بينما نحن جائعون الآن!
يشعر خاييم بإحباط شديد، يعود إلى زوجته وهو يسب ويلعن الفقراء الملاعين الذين لا يعرفون مصلحتهم.. إنه يرتجف ويسقط على الأرض. لقد أصيب بالعدوى. يأتي رجال الشرطة يريدون قتل خاييم قبل أن ينقل العدوى إلى الآخرين. لقد تقرح جسده كله وبدأ يتلوى من الألم. ساره تشعر بالفزع. تغلق باب البيت. يدق الجنود الباب يريدون تحطيمه. ترفع ساره ملابسها، تقف مشرفة بجسدها فوقه تدعو وتبتهل وتتضرع إلى الله أن ينقذه. تتبول على جسده ثم تمسح السائل بيدها تدلك به جسده. ينجح رجال الشرطة أخيرا في كسر باب البيت لكي يجدوا خاييم واقفا، مبتسما بعد أن زالت كل آثار المرض من جسده. لقد تحققت المعجزة!
رحلة نحو الاستنارة
ينتقل خاييم إلى تنفيذ فكرة أخرى لإثبات شجاعته وثوريته، فيقرر إغتيال الجنرال إيبانزا، رئيس الدولة الذي يعتبره سبب كل ما يقع على الناس من ظلم. لكن شابا فوضويا غاضبا يأتي إليه يهدده بالقتل، فهو يرغب في قتل إيبانزا بنفسه إنتقاما لوالده الذي أعدمه الجنرال. يسايره خاييم ويعيد إليه مسدسه. في سانتياجو العاصمة، أمام القصر الجمهوري، يشهر الشاب مسدسه في وجه الجنرال الذي لا يهتز له جفن، يتدخل خاييم ويحول بينه وبين الجنرال، يتراجع الشاب الفوضوي، يعجز عن إطلاق النار على الجنرال، لكنه يطلق الرصاص على نفسه فيموت. يعجب الجنرال إيبانزا بشجاعة خاييم الذي انقذ حياته، يريد أن يمنحه مكافأة مالية ضخمة لكن خاييم يرفض ويطلب بدلا من ذلك، أن يعمل لديه مربيا لخيوله، يجعله الرجل مسؤولا عن أحب خيوله إلى نفسه، حصان أبيض رائع الجمال. يتخذ خاييم من هذه الوظيفة حيلة للانتقام من الجنرال فيترك الحصان يأكل تلك الأزهار الصفراء السامة التي سبق أن حذره منها مربي الخيول القديم العجوز الذي تقاعد وقرر إنهاء حياته تماما مثل الأفيال عندما يتقدم بها العمر. ففي مشهد سابق يطلب من خاييم أن يحفر له قبرا، ثم يدخل إلى القبر، يرقد في داخله ويطلب من خاييم أن يهيل التراب عليه.
الحصان الأبيض الجميل الذي يحبه الجنرال حبا شديدا، يتلوى من الألم من أثر السم في جسمه.. يأتي الجنرال، يحتضنه ويبكي في لوعة. هذا الرجل لا يشعر بآلام الملايين لكنه يفقد كل جبروته وقسوته أمام ذلك الحيوان البديع. رصاصة الرحمة تكون هي الحل. يقتل الحصان ويصرف خاييم من الخدمة ويعرض عليه مكافأة مالية كبيرة لكن خاييم يرفض قبول المال ويقبل الانصراف، يعود في مشهد تال لكي يقتل الجنرال بالرصاص تتقلص أصابع يديه وتصاب فجأة بالشلل. وتتقبض وتتخذ لها وضعا ثابتا متقبضا تجعله يعجز عن القيام بأعمال تقليدية.
يلتقي برجل مسن.. نجار مسيحي مخلص، يصنع عددا كبيرا من المقاعد يعتزم التبرع بها للكنيسة. يقبل الرجل أن يساعده خاييم في إعداد الكراسي وصقل قواعدها، ينجز الاثنان المهمة ويحصل خاييم من الرجل على مبلغ كبير من المال لكي يعود إلى بلدته. أثناء طقس من طقوس التقرب إلى الله داخل الكنيسة يشارك خاييم بحماس شديد مع الآخرين ومن بينهم النجار العجوز.. لقد تغير من إنسان غليظ قاس، إلى رجل ورع، بعد أن شلت يداه. يسقط النجار ميتا أثناء الغناء والتهليل والرقص داخل الكنيسة. يجمع القس تبرعات من الحاضرين في الكنيسة لعمل جنازة للشيخ المتوفي، ما يجمعونه لا يكفي. يعطيهم خاييم كل ما أخذه من الرجل.
يمر خاييم من الإلحاد إلى الإيمان، ثم يمر بتجربة التعذيب في مشاهد تستخدم فيها أقسى أساليب التعذيب: الحرق والكهرباء والضرب المبرح فوق الرأس، أمام الكاميرا مباشرة. إن العنف عند خودوروفسكي مفردة أساسية من مفرداته الشعرية. وهو يستخدمه كأداة للتطهير، مقابل الإنتقال من الصراع إلى السلام مع النفس، الخلود إلى اليقين. إنه يتلقى العذاب على أيدي الجماعات الفاشية في شيلي- التي تأسست على نمط النازية الهتلرية- ووصلت إلى السلطة خلال الثلاثينيات، إلى أن أطيح بها بعد الحرب العالمية الثانية. يتم تحرير خاييم ويكون مطلبه الوحيد منهم أن ينقلونه إلى بلدته حيث يلتثم شمله مع أسرته الصغيرة أخيرا. هناك تطلب ساره، الزوجة– الأم، من خاييم أن يودع صورته القديمة نهائيا، تمنحه مسدسا وتطلب منه أن يطلق النار على صورة ستالين وصورته التي يتشبه فيها به قائلة له” يجب أن تكون نفسك. تشتعل النيران في الصور. يبتعد مركب يقل خودوروفسكي وهو مسن في الزمن المضارع ومعه خودوروفسكي الطفل كما ظهر في الفيلم، الرجل يربت بيده على كتف الطفل بينما يقف في ركن المركب رجل يرتدي ملابس تجعله يشبه ملاك الموت.. فهو مثل هيكل عظمي، رأسه جمجمة، ملابسه سوداء. يردد خودوروفسكي كلمات تغلق الرحلة: رحلة المواجهة مع النفس، مع الأب، ومع الزمن. المركب يبتعد ويردد المخرج كلمات تقول لنا إنه أغلق الآن فصلا كاملا من فصول حياته. هل سيكون هذا هو فيلمه الأخير؟ لا ندري.
إحباطات
يقول خوردورفسكي: “إنني لست مخرجا تجاريا للأفلام. إنني لا أؤمن بأن الفن يجب أن يدر أرباحا. بل يجب أن ينفق المال من أجل الإبداع الفني دون انتظار للربح بل للخسارة. إذا حقق الفيلم أرباحا فلا بأس.. ولكن هذا ليس هدفي. إنني أسعى إلى التعبير عن نفسي عن طريق تقديم عمل فني. وهذا أمر صعب لأن المنتجين ليسوا فقط رجال أعمال، بل لصوص. إنهم يجمعون 100 مليون دولار لإنتاج فيلم ثم يضعون 20 مليون منها في جيوبهم قبل البدء في تصوير الفيلم. إنه “بيزنس” لسرقة المال عن طريق إنتاج الأفلام“.
من المنطقي أن يشعر خودوروفسكي بذلك وهو الذي يمتلك موهبة من تلك المواهب التي لم يعد لها وجود في سينما اليوم، وبعد كل الإحباطات التي نتجت عن تعامله مع المنتجين الذين خذلوه، وبعد أن ظل خارج عالم صناعة الأفلام لنحو ربع قرن.
إنه يعود بفيلم يعد من أفضل أفلامه وأكثرها إكتمالا وكمالا، بل وسهولة ويسرا في المتابعة والفهم. ورغم ما فيه من رؤية سيريالية مذهلة، تمتليء بالقسوة الشديدة والعنف، إلا أنه يظل عملا ممتعا، على الصعيد البصري والسمعي. إن موسيقاه وحدها تكفي لتحقيق المتعة للأذن.. تلك الموسيقى ذات النفس الملحمي، بأجوائها السحرية التي تنتقل بك من عالم السيرك إلى عالم الأحلام، ومن دنيا الواقع، إلى عالم الخيال.
خودوروفسكي ينتقل في هذا الفيلم، من الذات إلى الموضوع، من الشخصي إلى العام، من الرفض إلى الإيمان، من الأب الفظ الغليظ، إلى الأم التي ترمز للنبع- للشجرة المعطاءة، للرقة التي تنساب من خلال صوتها الأوبرالي العذب، من النهار الساطع، إلى الليل المخيف، إلا أننا نتابع هذه الانتقالات كلها، بمتعة، وبدون أن يتوه منا الخيط الرئيسي للفيلم.
إنها قصة أليخاندرو الطفل – الرجل- الشيخ، الذي يرتد إلى الماضي، ويواجهه بقسوته، لكنه يضفي عليه الكثير من خياله، مما حدث وما لم يحدث. يقول خودوروفسكي إنه قام في الفيلم بتجميل صورة والده، بعد أن منحه أبعادا إيجابية وصوره وهو يصل في النهاية إلى نوع من الإستنارة، اليقين برحمة الله، ربما على العكس مما كان عليه في الواقع!
يعتمد الفيلم على التكوينات المدهشة، وعلى التشكيل بالألوان: الأحمر القاني بلون الدم (في كل أفلام خودوروفسكي يبرز اللون الأحمر برومانسيته وقسوته) إنه هنا لون الدم، لون القسوة ولون الغضب، لون الورد البديع، ولون الملابس الفاشية، وملابس رجال الإطفاء. وهناك الأصفر رمز التوتر والإضطراب، ثم الأبيض والرمادي.. مع خلفية من الخضرة، أو الزرقة.. زرقة البحر والسماء.
أجواء السيرك
تشيع أجواء السيرك طوال الفيلم وفي كل مكان وكل وقت حتى لتبدو البلدة وقد تحولت إلى ساحة سيرك كبير: راقصون يستعرضون أنفسهم في الشوارع، خيام ضخمة لممارسة الألعاب، يقف أمامها رجال ينادون على الزبائن لشراء التذاكر والدخول، أناس مقطوعو الذراعين يجلسون في ساحة البلدة، قزم يقف أمام دكان خاييم (كازا أوكرانيا) يعلن عن البضائع ويضرب بأحد المضارب الخشبية دمية بعد أخرى، مرددا “تعالوا وشوفوا كيف نحطم الأسعار”، كلب يرتدي ملابس رجال الإطفاء يرافقهم أثناء العمل، رجال رءوسهم عبارة عن جماجم عظمية مخيفة كما لو كانوا يرتدون الأقنعة (فكرة استخدام الأقنعة عند خودوروفسكي متأصلة من زمن عمله في مسرح التمثيل الصامت (البانتوميم) في باريس مع مارسيل مارسو)، مصارعة الكلاب التي تظهر مكسوة بالملابس، طيور بالآلاف تطير فجأة كأنها تخرج من اذن بطلنا الصغير.
يمنح خاييم ابنه حذاء أحمر لامعا لكي ينضم إلى فرقة الإطفاء. يتقافز بطلنا الصغير فرحا وهو يرتديه لكنه يقابل طفلا فقيرا حافيا، ماسح أحذية بائس يتمنى لو يحصل على الحذاء فيعطيه له، الفتى يترك صندوق مسح الأحذية ويتقافز سعيدا وهو يرتدي الحذاء الأحمر.. ينتظر أليخاندرو على أريكة خشبية طيلة الليل لكن الفتى لا يعود أبدا.. نعرف في الصباح أنه قد إنزلق على الصخور بسبب الحذاء المصقول فسقط وقضى نحبه. إنها أول صدمة كبرى في حياة أليخاندرو.. صدمة من الموت.. حقيقة أن الحياة يمكن أن تذهب في أي وقت، وفي لحظة عبثية تماما!
في “توكوبيلا” بلدة البطل، تريد الأم “ساره” أن تطمئن أليخاندرو على أبيه فتقول له إنه سيعود رغم أنه في الواقع خرج ولم يعد أبدا. تناوله حجرا.. تطلب منه أن يبصق عليه وأن يغمض عينيه ويكتب في خياله رسالة إلى والده، ثم تربط الحجر بمجموعة من البالونات. يهبط نسر، يلتقط البالونات ثم يطير بها مبتعدا. تقول ساره لابنها: إنه سينقل هذه الرسالة إلى خاييم. يرتفع النسر حاملا البالونات ويطير في أعلى السماء ويختفي. في اللقطة التالية نراه من زاوية مرتفعة يلقي بالحجر فوق المنزل الذي يقيم فيه خاييم!
التكوين، السحر، الحركة المحسوبة للكاميرا التي تضفي أجواء السيرك أحيانا حيث تستعرض إلى اليمين أو إلى اليسار في لقطات بانورامية، أو تتابع وتتسلل وتنفذ، وتتخذ زوايا غريبة تتناقض مع فكرة الواقعية، وتضفي ذلك الطابع السحري على الفيلم، مع تلك الموسيقى الساحرة التي كتبها أدان خودوروفسكي– إبن الفنان الكبير- بأجوائها اللاتينية الدافئة المميزة.
يقوم بالدور الرئيسي، دور خاييم الإبن الأكبر لخودوروفسكي “برونتيس” الذي سبق أن شاهدناه في دور الإبن وهو صغير في فيلم “الدماء المقدسة”، بينما يقوم الإبن الآخر لخودوروفسكي “أكسل“- الذي قام ببطولة فيلم “الدماء المقدسة”- بدور صغير في الفيلم، وتقوم بدور الأم باميلا فلورز التي عرفت بتخصصها في فن اليوجا وتقوم بتدريسه في نيويورك منذ سنوات.
الساحر العجوز أخرج “رقصة الواقع” من تحت قبعته، فابتلع كل الافلام وحلق وحده فوقها!