السينما والفلسفة في ستة أفلام من مصر والعالم
روح القبطان تتجاوز المأزق الكافكاوي وبشاعة السلطة
يبدأ سيد سعيد فيلمه “القبطان”، بعبارة معرفية روحية،” إنما أحدثك فتري فإذا رأيت فلا حديث”، هذه العبارة تشير إلى بعد صوفي روحي ينسج تفاصيل الفيلم والمشهدية بشكل دائم، كما أن العبارة تشير إلي بعد فكري وفلسفي علي المشاهد أن يستنبطه بذكاء عقلي ومعرفية حدسية، ستري روح كافكاوية في السرد والتقنية بالاضافة الي روح الأسطورة والتخيل، ولكن ستجد أن سيد سعيد يتبع ضدية كافكا، فالقبطان موجود وغير موجود، الحكمدار يبحث عنه دون جدوي، ولكن القبطان ينتصر علي السلطة، علي روح الشر والقمع، ينتصر للحب وضمير مدينة بورسعيد، وينتصر للمعرفة ضد لامعرفية السلطة المفروضة علي المواطن العادي. القبطان ينتصر علي الجميع من أجل القيمة والخير. وذلك عكس الكافكاوية التي تؤكد بشكل دائم علي انهزام المواطن أو الخير أو الفرد أمام العالم أو الدولة أو الوجود، هي تعبر باستمرار عن اللاجدوي في كل شئ وبشكل كلي وشمولي.
هنا يعكس سيد سعيد، لاجدوي كافكا في الفكرة العامة إلى جدوي وحلول مثالية روحية في الفكرة العامة، فهنا كافكا يحضر في الأسلوب والتقنية، ويغيب عن الفكرة العامة ومضمون الفيلم.
اعتقد أن سيد سعيد ينتصر لفكره ورؤيته للحياة، فهو يري أن الحياة عبثية واسطورية، وأن السلطة باطشة، والصراع دائم حتي بين اقرب الاقربين، ولكن هناك روح وضمير عام يستمر ويتحرك من اجل استمرار العالم، ينظف البذئ والشرير من اجل الخير والحب، وهو ما يمثله ويجسده القبطان في الفيلم. ثنائية سيد سعيد عبرت عن تعقيد العالم والحياة بكل وضوح. إذا رأيت كمشاهد هذه الرؤية السعيدية للحياة ستقف الصورة عن الحديث، وسيتوقف أيضا سيد سعيد عن الابداع والإخراج.
السيد سعيد
مونيكا برجمان تتفوق علي بوفارية فلوبير في سينما التأمل
نموذج مدارم بوفاري عند فلوبير يتكرر ببراعة في فيلم المخرج السويدي انجمار برجمان، “صيف مع مونيكا”، حيث تم التلاعب بالأنثي البوفارية لفلوبير وفقا للمعايير البرجمانية، ، شاهدوا هذا الفيلم الذي انتج سنة 1953، والذي يحكي عن الأنثي الحالمة برومانسية مع رجل يشعرها بالحب والبراءة، بعد ان خاضت تجارب سريعة مع رجال كثيرين، المغزى من النموذج البوفاري او الأنثي البرجمانية،هو واحد، هو مقصد مشترك لهذين المخرجين، وهو أحلام أنثوية صارخة في الحياة الرومانسية دون توقف.
حيث تفشل هذه الحياة والأحلام تدريجيا، وتصاب الأنثي بالاكتئاب، هنا يكون الدرس القاسي لهذه الأحلام الانثوية اللاعقلانية، وهو اتخاذ منهج المثالية والرومانسية في الحياة دائما دون حركة منهاجية عقلانية اخري للتفاعل الحياتي، وهذا بديهيا يفشل المشروع الانثوي النقي الصارخ بالحياة، لأن الانثي التي تستدعي هذا النموذج، تعيش في تناقضات كثيرة، أولها تناقضات نفسها هي، فدائما أي انسان يكون نصفين، نصف خير ونصف شرير، وحياتها الرومانسية المبتغاة، لا تعرف الشر، وتشعر بالاكتئاب اذا ظهر صراع، ممكن يجعل انفعالاتها بربرية بدائية مع أي تقصير في هذه الحياة الرومانسية، هو ما ظهر في فيلم برجمان، عندما قامت بسرقة دجاجة من اناس أخرين، وذلك عندما شعرت بالجوع حيث كانت تعتاش علي عيش الغراب مع حبيبها في رحلة طويلة علي الشاطئ، كانت تأكل الحب والرومانسية وعيش الغرب يومياً، الفعل البربري الأنثوي لا يعبر عن أي نضج سوي رومانسية فظة ليست واقعية.
أخيراً، فشل الحياة الرومانسية الفظة في نموذج مدام بوفاري والانثي البرجمانية، شئ مفظع وحتمي، ومرعب ألي اقصي حد..
نظرية لبازوليني: محاولة للتحرر من أعباء العالم عبر فوضي الجسد
بازوليني، نهايته كبدايته، كأعماله السينمائية، كشعره، كفكره، كلها تدور في ثلاثية الكنيسة، الجنس، السياسة، أشهر ما قيل عليه “شيوعي قذر”، علي لسان من دهس جسده.
في فيلمه “نظرية”، يمهد بازوليني لتجريب نظرية الجنس كمغير حقيقي للأمور، وبشكل مباشر وعنيف، صرامة الجنس وبشاعة الخفي الذي يظهر في عملية التغيير، أمر مفزع للغاية.
هناك ملاك، أم قائد لجيوش السلطة الجنسية، أم نص فوكوني للجسد يدخل ويحفر نفسه مؤقتا في حضن عائلة برجوزاية مملة مفككة، يمارس الجنس مع افرادها، ليذهب كل منهم الي عالم النهايات والفوضي، هذه الماركسية الفوضوية بسلاح الجنس تزيل العفن وتغسل المكروه، ولكن النهايات مؤلمة، وتعبر عن بداية لا يراها مشهد، ولكنها منتظرة، حتي اذا مات الافراد، فالتغير دائما يقصده المجتمع والقيم العامة.
يذهب بازوليني الي أبعد الحدود في الصياغة المشهدية العنيفة، فالمونتاج والحوار قاسي للغاية، حتي اذا ركزت لن تجد حوارا أو كلمات، مجرد بصريات نفسية مكبوتة تنفرج للتحول الي متاهات وتغيرات متعددة، نتيجة للسرد الجسدي العنيف للشخصيات.
واذا بحثت كمشاهد عن جنسية فرويدية لن تجد إلا جنسية بازوليني وليس أحد أخر، اذا بحثت عن صراع ماركسي، لن تجد سوي اليسارية الفوضوية لبازوليني.
بيرتولوتشي في آخر افلامه يبحث عن رمزية جديدة للجسد لفك قيود السلطة:
في فيلمه الأخير “أنا وأنت” ( Me and You (2012 يتلاعب المخرج الايطالي بيرناردو بيرتولوتشي، بلغة الاخفاء والظهور للسينمائية والتخيل البصري، حيث تري ما لا تراه، عبر تفاعل الاجساد خلال لسانية تنتظر التحرر، وتلعن الرفض الدائم ضد الحائط والقيد، الحب، والشهوة، والمتعة، ثلاثية تفرض نفسها ضد الغرف السرية، انظمة الرقابة، الرعوية الدينية، سلطة الام.
الشاب الذي يهرب الي غرفة سرية سفلية هربا من الحياة العليا وسلطتها لتحطيم كل القيود ولكنه يذهب الي مكان سري به قيود، هذه المشهدية مقصودة، فالانسان دائما يعيش في حالة قيود، فكل ما نراه ونفهمه هو محاولات لتحطيم هذه القيود ليس أكثر، الا بعض اللحظات التي يختفي فيها خطاب القيود.
هذا الشاب وأخته يعيشان في حالة فوضي ماركسية، وذاتوية فوكونية، لن تجد سوي محاولات فك حالة الاغتراب الانساني فوق الغرفة، وخطابات جنسانية ونفسانية متعالية علي كل شئ ولكنها ليست محددة في المرآة البصرية.
هذه الخطابات تفسر نفسها بنفسها، تكشف عن وجودها في لحظات الغرس المتبادل بين الذهنية الاخراجية والمشاهد، فليس هناك رسالة واضحة علي اقل تقدير، أو رسائل وترميز للتفكير، فالغرس السريع المتبادل ليس له هوية بصرية أو فكرية.
خان وشاعرية البادية والطفل المبروك
كيف يصبح الشعر والأحلام الأنثوية وباطن الصحراء والأرض البور، صورة سنيمائية ومشهدية هادئة حالمة؟ ستجد في فيلم محمد خان المعنون “الغرقانة”، المتنج عام 1993، خيال الصحراء وتفاصيل البادية تغزو اللحظة الزمنية، الصحراء وما تتسم به من فقر الثقافة والمدنية، ولكنها غنية بالشاعرية والخيال والاحلام الدائمة، والروح الصوفية، فأهلها يصدقون الاحاديث الدائمة، وينتظرون الفرج مثلهم مثل الصحراء التي تتسع لكل شئ دون أن تخصص لنفسها شيئا تحتفظ به، فهي تائهة تبحث عن ذاتها الضيقة التي تاهت في اتساع الرمال والوديان والجبال والخيام.
“وردة” هي الأنثي الحالمة، فكل لحظة تري فارسها الذي تحمله فحولة الصحراء ووسامة الذكورة، يركب حصانه ويحملها خلفه ويطير بها الي الحب وندي الصباح ، يقابله واقع زوجها الدجال الذي يقهرها جسديا وروحياً، ويحول حياتها الي حلم بعيد عن هذا الفارس.
استطاع خان أن يحول حياة الدجال والحلم وافراد البادية البسطاء الي روح واحدة سارية في ضربات الاقدام والرياح ونظرة السماء الي العيون البريئة، والطفل مبروك، فتري تصوف المشهد ولحظات المؤامرة والتجسس من البعض على البعض كأنه طفولة ساذجة تستمع به، ولا تراه كالصراع والشر المعتاد.
تتحول حياة وردة الي المصلحة والخيانة عندما تجد فارسها في المدينة والتحضر، اي عندما يتحول حلمها البرئ الي واقع، وكأن خان يريد توصيل رسالة هنا تقول إنه عندما تتحول احلامك الي واقع متحقق، ستفقد برائتك ورومانسيتك، ستتحول إلي شخص نهم شره يريد السيطرة وتحقيق انانيته في ذوات الآخرين، ستفقد بريق السماء، وطفولة الشعور.
يغرق الطفل في صورة شاعرية بين سماء صافية ونصف جسد غرقان ونصف آخر ينظر الي تيه البحر وهواء الصحراء، ويهرب الفارس الي اللاشئ، ولا تجد وردة سوي الموت غرقاً ايضا علي يد زوجها الدجال.
بيلاتار والجنون وألاعيب العدم
الزمن عند المخرج المجري بيلاتار، هو زمن اللامعقول وحافة الجنون، مسرات زمنية تعلن عن تفاصيل البؤس، هذه التقنية العامة لفليمية بيلاتار في “حصان تورينو” المنتج 2011، يصاحبها جنون نيتشة وجنون فان جوخ.
لوحة “أكلو البطاطس” لفان جوخ التي تعبر عن البؤس والفقر، وهي حالة انطباعية صرف، تظهر عبر بصريات بيلاتار، من لوحة واحدة تتشكل كل مشاهد الفيلم، جنون جوخ المعروف، يصرف فيه بيلاتار بمشاهده البطيئة البائسة، حيث وجبة البطاطس اليومية بين الأب والبنت، أشاهدها تعني ذهابي للمتحف لمشاهدة لوحة غوخ كل يوم.
هذا الجنون البصري والنفسي لا يعني أن القدرة علي استيعاب هذه المشاهد فوق طاقة البشر، ان حالات الهستريا والهلاوس مطلوبة مع هذه المشاهد.
عدمية نيتشة وجنونه في نظرته للعالم تعبر عن نفسها في بؤس الأب والنظرة الالحادية التي تغلف المشاهد، حيث لا يكترث الأب بأي شئ، سواء دمار المدينة، أو حالة ابنته البائسة، المرة الوحيدة الذي اهتم كانت عند جفاف المياه، فهو سيبحث عن اقل شئ يجعله مستمرا. بيلاتار يجمع بين جنونه، وجنون فان جوخ، وجنون نيتشة، وجنون الموسيقي.
- ناقد سينمائي من مصر