الرمز السياسي في فيلم “غزة مونامور”
سمر فرحات- فلسطين
يتمتع فيلم “غزة مونامور” للأخوين عرب ناصر وطرزان بجماليات وثائقية مستوحاة من قصة حقيقية حدثت في عام 2014 تتعلق بصياد من قطاع غزة عثر بالصدفة على تمثال يوناني قديم، الذي صادرته حكومة حماس فورا، ولم يعرف مصيره لليوم، ولم يتطرق الفيلم للحديث بشكل معمق عن مصيره.
هل يختزل إيجاد تمثال “أبولو” صراع الغزاوي مع الأنظمة؟
تبدأ القصة عقب اصطياد عيسى الصياد، والذي يقوم بدوره الفنان الفلسطيني سليم ضو، تمثال برونزي للإله “أبولو” الموسيقى والشعر الذي وجده في البحر في أثناء اصطياده للسمك، هذا الحدث البسيط الذي سرعان ما يتحول إلى صراع قوي، بين اعتقال وتحقيق وسجن، كون التمثال ملكاً للحكومة، يجسد عيسى دور رجل غزاوي يعيش وحيداً حياته الرتيبة والمليئة بالصمت، أما الممثلة هيام عباس بدور جارته الأرملة “سهام” فتمثل دور المرأة الغزاوية التي تعمل خياطة في السوق، لكن مهمة تجسيد قصة الحب هذه في مكان غزة أمر صعب للغاية، فكلما أراد عيسى أن يعترف بحبه حدث شيء سيئ ليقطع هذه اللحظة الجميلة.
يبدع الفيلم بتصوير غزة بخصوصيتها، ويوحي إلى سيطرة حماس على القطاع، لكن بشكل غير مباشر، فتارة نرى على الجدران صوراً للمقاومة وتارة أخرى نسمع خطاب إسماعيل هنية على التلفاز، كما نسمع في الخلفية صوت الزنانة واحتفالات الناس بإطلاق صواريخ تابعة للمقاومة، والتي تظهر كرمز ذكوري، ففي غزة تعد الذكورية إحدى سماتها الغالبة، جسد كل ذلك دون أن يحمل الفيلم أي آراء سياسية صريحة ومباشرة.
يمر الفيلم برمزية سياسية تتمثل في تناقض ايديولوجي بين شخصية عيسى اليسارية والمجتمع المسلم الذي يعيش فيه، فنراه متأرجحا بين آرائه وبين بيئته، ولم يفصل الفيلم كثيرا هذه الزاوية، بل اكتفى بالمرور عنها سريعا ضمن قالب درامي ركز فيه على شخصية عيسى.
يستمر التناقض داخل الفيلم لنرى الضابط الذي يجلس قبالة عيسى يتهكم بسخرية على رائحة عطره بعد أن ألصق تهمة سرقة آثار بشكل بديهي لمجرد أن عيسى يختلف عنهم من ناحية الانتماء السياسي.
يقدم الفيلم صورة معبرة عن الحياة اليومية في القطاع، فنجد أن الإخوين ناصر اعتمدا على ميزانسين متقشف يصور ضيق المكان الجغرافي الذي يعيشه عيسى، فقد لعب ضيق المكان دوراً في إظهار صعوبة الحياة ودفن الأسرار في غزة، بالإضافة إلى وضع حبكة تمزج بين الطابع الفكاهي والحزين، وهذا التوازن يجعلنا ندرك أن الكوميديا ليست مجرد ترفيه إنما أداة لمواجهة الواقع القاسي، فالأزياء والديكور التي اُنْتُقِيَت بعناية لتكتمل صورة مجتمع يعيش تحت حصار طويل، فنرى في عيون الشخصيات وملامحها حزناً كبيراً وتوتر داخلياً. الحارات والأزقة والسوق الذي جمع عيسى بسهام قدم لنا سرد غير مباشر لقصص كثيرة في غزة، لكن لا بد أن يلجأ المخرج لقفزات بسيطة عن الواقع ليخلق دراما أكثر تأثيراً، فمثلا نرى النوافذ والجدران مبالغاً في حالة التجميل التي حدثت لها، فقد خدمت الجانب الفني في أثناء التصوير أكثر من أن تُعْتَبَر تعبيراً دقيقاً لحياة الغزاويين، وتنقصها الظروف التي تمثل حقيقة الحياة في المناطق المحاصرة.
تألق سليم ضو في تقديم شخصية عيسى الرجل البسيط الذي يحاول أن يتمسك بإنسانيته في بيئة محكمة الإغلاق، يحافظ ضو على قوة التعبير من خلال أدائه والتفاته لتفاصيل بسيطة جعلته يظهر بشخصية مركبة قوية وضعيفة في آن واحد، في المقابل أدت هيام عباس دورا في منتهى البراعة حيث ظهرت بشكل خجول ومترددة يعاني الخوف في مسائل الحب وسط مجتمع محافظ، التناغم بين هاتين الشخصيتين من خلال لغة الصمت وكذلك لغة الجسد قدم لنا تناغم مؤثر، إلا أن التعمق في شخصية كل منهما على حد كان ضعيفاً، فلم نر كيف أثرت البيئة والظروف على شخصيتهما.
تصور اللقطة المتوسطة أعلاه عيسى وسهام، وهما يقفان على الشارع ينتظران مركبة تقلهما إلى السوق، فنجد أن البيئة خلفهما قد كشفت لنا حياتهم وعفويتها، كما نوع صانعوا الفيلم في استخدامهم للتقنيات السينمائية من خلال التركيز على ملامح عيسى وسهام باعتبارهما شخصيات محورية داخل الفيلم بدليل أن كلمة مونامور في عنوان الفيلم لم تكن اعتباطية إنما هي تعبير عن حب قوي وأسطوري جمعهما في غزة.
استطاعت الألوان الخافتة أن توضح القيود الصعبة المفروضة على القطاع، كما أضفت درجات الأزرق الباهتة رتابة يومية قاسية، بعكس المشهد الختامي الذي طغت فيه درجات اللون الأحمر بشكل غير متوقع كمكافأة خيالية كان من الصعب توقعها.
“أحكي لأبوك أي شهر فيهن، صرلوا ثلاثة أشهر بوعد فيي“؟
مع نبرة غاضبة وعيون محبطة صور هذا المشهد في دكان صديق عيسى شبه الخالي من الزبائن وكذلك البضاعة، والتي ترمز لحصار اقتصادي مفروض على القطاع، إذ يأتي فتى في مقتبل عمره، ويطلب شراء الخبز، لكن دون سداد ثمنه، وهذا يبدو أمرا قد تكرر طوال الأشهر الماضية، الأمر الذي يثير غضب صديق عيسى الذي هو الآخر يعاني وضعاً مادياً صعباً.
هذا المشهد البسيط صور لنا الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تتجلى في الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار، والحصار الذي يمنع تبادل السلع؛ مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، تميز هذا المشهد بالواقعية، ويعكس صورة حقيقية بعيدة عن المبالغة.
من خلال تصوير مأساة غزة دون سردها اظهر الفيلم الواقع بروح الدعابة المؤثرة بطريقة عرضية، حيث صُوِّر مشهد الأرامل اللواتي جلبتهن شقيقة عيسى التي تتدخل في أمور زواجه، والتي قامت بتعاطف كوميدي، وأدت دورها ببراعة “منال عوض”.
أما اللقطة المنخفضة لعيسى، وهو يمشي عبر الأزقة في المخيم محاطا برسومات سياسية، وهو يرتفع فوقها تائها جسديا، بينما يركز عقله على ملاحقة سهام يخلق منه هذا المشهد بطلا من الطبقة المتوسطة، وفي مشهد آخر يظهر عيسى، وهو يرفع الأثقال، ويتنقل في الردهة منتظرا لقاءه مع سهام، وفي لقطة مقربة في مطبخه المتواضع يقطع الأسماك، وهو يتراقص على موسيقى أجنبية، يؤكد لنا أن الحب قد لا ينتصر على الظروف كلها، لكن في الفيلم، ينتصر بالتأكيد.
في المشهد الختامي نرى عيسى وسهام مع بعضهما على متن قاربه في عرض البحر، ونسمع صوت المروحية الإسرائيلية باللغة العبرية، تبث أوامرها بضرورة مغادرة المنطقة، فتتساءل سهام “شوفي”؟ ليرد عيسى:” شكلنا تجاوزنا الحدود الفلسطينية”، ثم تملىء الضحكات المكان، ويعودان إلى قاربهما، ضحكاتهم في هذا المشهد أعطتنا أملا بنهاية سعيدة، وتركت المجال لنا لنفكر هل تمكنا من الاستمتاع بزواجهما أم أن الاحتلال الإسرائيلي أنهاه!